مقال مرسل من وهب الحسيني

بواسطة: وهب الحسيني

لا شك ان الاعتذار هو من شيم النفوس الكبيرة،
كما يقول الدكتور نضير الخزرجي الباحث والكاتب العراقي المقيم في لندن في استعرضاه وتعريفه لكتاب “الاعتذار” الذي طالعه مؤخرا وهو كتاب صادر حديثاً (2025م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 175 صفحة من القطع المتوسط للمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي،
وكالعادة في تقديمه للكتب لا يفوت الدكتور الخزرجي ان يذكر مواقف مرت عليه او علينا ، وهذه المرة ارتأى ان يذكرنا بايام الشقاوة والتنمر ونحن صبية او تلاميذ وما اكثرها ! التي لطالما سألت نفسي : يا ترى هل كتبت علينا ؟ ام كنا لم نبلغ الحلم يومها ؟ وكان مرفوع عنا القلم عندها ؟ اسأل الله المغفرة لنا منها ، واعتذر شخصيا لمن اصابهم تنمري وشيء من شقاوتي يومها، وما اكثرهم ! استثني منهم من كان البادئ هو بالتنمر ، لا اعتذر له فهو السبب ولا مكان باعتذاري له ، انما اقول غفر الله له ولنا .
ثم يستعرض الدكتور الخزرجي ما يقدمه مؤلف كتاب الاعتذار سماحة الشيخ محمد صادق الكرباسي ، فيقول الدكتور الخزرجي: ان ما سطره سماحة الشيخ الكرباسي في كتابه كان من وحي التجربة اليومية والهجرات المتعددة وقد بلغ من العمر عتيا ، فقدم اعتذاره لكل من كان له حق عليه من الأقربين حتى الأبعدين، فضلاً عن رب العالمين الذي خلقه فسواه فعدله في صورة ذكر ركَّبه، والاعتذار من قادة الإسلام من نبي خاتم ووصي خاتم وقائم خاتم.

الحقوق والاعتذارات العشرون

من المؤكد أنَّ الخطأ إذا خرج سهمه من كنانته أو انفلت من منزع قوسه وأصاب الآخر، فلابد للاعتذار أن يكون قرينه، والمؤلف في “الاعتذار” يقدم روضات اعتذاره إلى عشرين جهة ربانية ومربوبية، علوية ودنيوية، معصومة وغير معصومة، رحمية وغير رحمية، عشرون جهة أولها قدس الأقداس الله رب العالمين، فيقدم: “المعذرة إلى الله”، وآخرها “الآخرون”، وما بينهما البقية الباقية، حيث: “المعذرة من الخاتم” نبي الله محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، و”المعذرة من وصيِّ الخاتم” خليفته في أمته علي عليه السلام، و”المعذرة من آل طه” أهل بيته الكرام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرَّهم تطيرا، و”المعذرة إلى الوصي القائم” مهدي آخر الزمان الذي تنتظره البشرية على أحر من الجمر لينقذها من ظلم الظالمين وجور الجائرين، و”المعذرة إلى كتاب الله” ثقل الله الأول بعد أهل البيت الثقل الثاني، وهما تركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في أمته، و”المعذرة من سنَّة الرسول وآله” الشارحة لما جاء به الوحي القرآني، و”معذرة إلى الوالد الحنون: والاعتذار من والدتي الحنونة”، و”عذراً شريكة حياتي”، و”العُذر من الأخ السَّند”، و”الأخوات لَكُنَّ العُتْبى”، و”المعذرة إلى القربى”، و”الأبناء والأكباد”، و”البنات العزيزات”، و”الصحب الكرام”، و”مَن علَّمني حرفاً”، و”التلامذة الأفاضل”، و”الأخوة العاملون”.

عشرون جهة محيطة بالإنسان ويحتك بها من قبل ولادته وحتى بعد وفاته، ويبقى التأثير قائماً إلى ما شاء الله في نسله من أبناء وأحفاد وأسباط، يعتذر إليها المؤلف وهو يقترب من الثمانين من عمره حتى ينتقل من دار الفناء إلى دار البقاء خفيف الوزر، وهو في واقعه ينطق بلسان حالنا العاجز عن الاعتذار لمن أخطأنا بحقه ونرغم أنوفنا لمن دُسنا على كرامته ولا نملك الثقة بأنفسنا ولو بتحريك اللسان لنقدم آيات الاعتذار، ولهذا كما يقول الأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن دهيني في كلمة الناشر: (الاعتذار من شيم الكبار، ومن فعل الأقوياء، ودليل على الثقة بالنفس، والقدرة على مواجهة الآخرين بشجاعة، كما أنه يعبِّر عن تواضع المرء المعتذِر، فالاعتذار عن الخطأ أو التقصير يعيد للمعتذِر راحته النفسية، ويدفع المعتذَر إليه على احترام المعتذِر وتقدير ظروفه أولاً، والاطمئنان على علاقته ثانيا، ويزيد من ثقته به ثالثاً)، أو بتعبير الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شَبين الذي قدّم للكتاب نثراً وقرظه شعراً: (الاعتذار صفة من صفات النفس التي اغتسلت بماء الطهر، وغطست فيه لتخرج منه طاهرة من كل ما يشوبها من كدر الدنيا، متحلية بما يزينها من وشي الحسن والجمال، والعذر عند كرام الناس، وهو من شيم الأكابر، وباب من الأدب، ونبع من منابع الأخلاق، ويقبل من ذي أنفة ومروءة ورجولة، وصاحب أصل وأريحية وفضيلة، سمة عرفانية لا يتأدب بها إلا ذو حظ عظيم من نقاء الروح، وصفاء الإشراق، ورجاحة العقل، وطيبة القلب، وخلوص النيّات، وثبات في المواقف، واتصاف باللطائف، ورسوخ في المعارف).

جمال الاعتذار

ومن جميل ما أتى به الكرباسي في “الاعتذار” أنه ضمَّن في سلسلة اعتذاراته العشرين مع بعض التغيير والتصرف مقاطع من أدعية وأذكار وزيارات وروايات مشهورة، والغرض من ذلك كما قال في “التنبيه”: (الاستفادة منها وتطعيم ما حررناه بكلمات أوليائنا) ولهذا يمكن الاستفادة منها في المناجاة والخلوات مع من نريد أن نتوجه إليه بالاعتذار.

ومن محاسن ما أتى به بعد كل اعتذار نثري تخميسة نظمية من سنخ الاعتذار، ومن ذلك اعتذاره لرب الخلق:

عذراً أيا ربَّ العُلى من زلَّتي
أنت الذي ربَّيتني في حَيْمنِ
لازلت ترعاني كشيخ مُثخَنِ
ما لي سوى عفوٍ يلي مِنْ مُحْسِنِ
رُحماكَ في الأخرى بيوم الحسرةِ

وما أدراك ما يوم الحسرة، وهو اليوم الذي قال فيه تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) سورة مريم: 39، وهو يوم التغابن إذ: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) التغابن: 9- 10.

ولأن مقدِّم الكتاب شاعر فإنه ثنّا على تقديمة بقصيدة اعتذار من بحر مجزوء الخفيف المرفل قال في مطلعها:

اعتذاري لله كلمَه … كان لي في نجواي هِمَّة

وتوالت اعتذاراته النظمية للفقرات العشرين، ليختمها بقول:

اعتذاري كرباسُ حَبَّــ … ــرْتُ سِفْرَ الأشعار ذِمَّه

ويواصل الكرباسي بعد الله سبحانه وتعالى اعتذاره من خاتم الأنبياء، لأن: (الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلَّم لم يدع شيئاً في الشريعة أو غيرها إلا وأدلى به فأتمَّ الحجة على الأمة، فلابد أن يُشكر على ذلك، والاعتذار منه إذا لم نتمكن من العمل طبق ما أمرنا به أولاً وعدم الشكر ثانيا)، كما ويقدم اعتذاره للوصي الخاتم وهو نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كما في صريح آية المباهلة حيث: (لم أتمكن من أداء حقك وهو كبير كبير وأستميحك عذراَ عن القصور الذي اكتنفني)، ويقدم اعتذاره لآل طه حيث: (إليكم معذرتي ما طلع فجر وغابت شمس أبد الآبدين، وأستغفر الله على تقصيري في حقكم ما دعا لله داع)، كما يعتذر للذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً قائم آل محمد، ويأسف الكرباسي على التفريط الذي وقع بحق الثقل الأول وهو القرآن الكريم، وهجرانه قراءة وتلاوة وعملاً، إلى جانب التقصير بالسنة الشريفة.

وحيث ينتهي بنا المؤلف من المقدسات، وهو يحدثنا بلسان حالي وحالك، يطلب الاعتذار من والده الذي أحسن تربيته ونشأته ورعايته، والاعتذار من والدته التي حملته كرهاً ووضعته كرهاً، والاعتذار من زوجته وأم عياله التي شاركته الحياة بأفراحها وأتراحها، والاعتذار من شقيقه أو أخيه، والاعتذار من شقيقاته أو أخواتها فهن السند إن غاب والدٌ أو والدة، والاعتذار الى القربى وذوي الرحم الذين استوصانا القرآن بهم خيراً وهم عزوة المرء وحبال ظهره إن قلَّ الناصر الرفيق وعزَّ الصاحب الصديق، ويعتذر من أولاده الذكور الذين يفتخر بهم ويتمنى لهم مراتب عليا في الدارين، ويعتذر من بناته وهن الحسنات كما في قول الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: (البنات حسناتُ والبنون نعمة، فالحسنات يُثاب عليها، والنعمة يُسأل عنها)، ويتساءل كيف طاوع الأب في الجاهلية قلبه وهو يدس ابنته الحسنة في التراب وأداً: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) سورة النحل: 58- 59، ولكن: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) سورة التكوير: 8- 9.

وحيث ينتهي من اعتذاره لأعضاء أسرته وذوي رحمه، يقدم اعتذاره لصحبه الكرام ويرجو أن يكون ممن قال فيهم نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم: (خيرُ الأصحاب عند الله خيرُكم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرُكم لجاره)، ويقدم اعتذاره للمعلم الذي انتشله من فقر الجهل إلى غنى العلم، ولأن المتعلم بعد فترة يغدو معلماً فهو يبادل العذر لطلبته وتلامذته، وحيث خير الناس من اشتغل بعلمه فإنه يواصل تقديم اعتذاره لكل من عمل معه، وينتهي باعتذاره إلى المحطة العشرين المختصة بـ “الآخرون” وهم كثيرون التقاهم هنا وهناك عند محطات الحياة المتنوعة.

وخير ما فعل الكرباسي في خاتمة اعتذاراته أنْ ألحق بها “رسالة الحقوق” للإمام علي بن الحسين السجاد عليهما السلام التي تعتبر خارطة طريقة لكل راعٍ ورعية وحاكم ومحكوم، وأول الحقوق هي “حق الله الأكبر” ويليها: “حق نفسك عليك”، و”اللسان”، و”السمع”، و”بصرك”، و”رجليك”، و”يدك”، و”بطنك”، و”فرجك”.

ومن حقوق الأفعال: “حق الصلاة”، و”الصوم”، و”الصدقة”، و”الهدي”.

ومن حقوق الراعي والرعية: “حق سائسك بالسلطان”، و”سائسك بالعلم”، و”سائسك بالمِلْك”، و”رعيتك بالسلطان”، و”رعيتك بالعلم”، و”رعيتك بمِلْك النكاح”، و”رعيتك بمِلْك اليمين”.

ومن حقوق الرحم والقربى: “حق أمّك”، و”أبيك”، و”ولَدِكَ”، و”أخيك”.

ومن حقوق الناس: “حق المنعم عليك”، و”مولاك”، و”ذي المعروف عليك”، و”المؤذِّن”، و”إمامك في صلاتك”، و”الجليس”، و”الجار”، و”الصاحب”، و”الشريك”، و”المال”، و”الغريم”، و”الخليط”، و”الخصم المدَّعي عليك”، و”الخصم المُدَّعى عليه”، و”المستشير”، و”المشير عليك”، و”المستنصِح”، و”الناصح”، و”الكبير”، و”الصغير”، و”السائل”، و”المسؤول”، و”مَن سرَّك الله به”، و”مَن ساءك القضاء على يديه”، و”أهل ملَّتك”، وأخيراً “حق أهل الذِّمَّة”

وهذه الحقوق كما يقول الإمام زين العابدين في آخر رسالته هي: (خمسون حقاً محيطة بك، لا تخرج منها في حال من الأحوال، يجب عليك رعايتك، والعمل في تأديتها، والاستعانة بالله جلَّ ثناؤه على ذلك..).

وحيث هذه الحقوق واجبة الرعاية فإن التقصير والقصور بها أمر مفروغ منه كثيراً أو قليلاً، بلحاظ أنَّ المرء غير معصوم، والاعتذار لكل ذي حق انعكاس للفطرة التواقة إلى الخير، ولابد أن تكون خصلة الاعتذار جزءاً لا يتجزأ من شخصية الإنسان السوي محدثاً نفسه أن لا يقع في مصيدة الخطأ أصلاً.

شارك الخبر:

شارك برأيك

تعليقان

  1. يتوجب على بنات نورت أن يقرأوا هذا الموضوع جيدا
    ويقدموا اعتذار لي على كثرة مهاجمتي وانا قاعد في حالي ههههههههه وحينها اكون حنين واسامحهم دنيا واخرة ههههههه بل اصير اكثر من حنين و لين وربما اكون ارق من النسيم هههههههههه

    وعلى قول الدكتور الخزرجي :
    الاعتذار ..
    تتهاوى عند أعتابه الرجال !!!
    لكن الاعتذار ليس بتلك السهولة ! فهو (الاعتذار) .. وان كا سهل الا انه ممتنع !
    كما عنون مقالته في شرح وتقديم كتاب الاعتذار لسماحة الشي المحقق محمد صادق الكرباسي
    على صفحات جريدة الوسيط المغاربي اليومية الصادرة في العاصمة الجزائر يوم الخميس 24 نيسان أبريل 2025م،

ماذا تقول أنت؟
اترك رداً على عراقي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *