مرسلة من أم ريان

لمْ تَخْلُ السجونُ يوماً من الأيام من ضيفٍ يحلُّ بها، أو مقيمٍ يعيش بين حناياها، ولا يخرجه منها إلا الموت!
و السجنَ يغصّ بأصناف شتى من البشر،البريءَ المظلومَ، و السارقَ والقاتل والمجرمَ وقاطعَ الطريق..
وكم من مجرم يدَّعي أنه بريء! وكم من بريءٍ أصبح يُسَمَّى مجرماً، وعلى كل حال:

ما يدخل السجنَ إنسانُ فتسألُه ما بال سجنك؟ إلا قال: مظلومُ!

كما أن السجن قد يحوي بين جدرانه الرسولَ والنبيَّ، والعالم والأميَّ, والكاتب والشاعر, والتقيَّ والفاجر.

وما أكثر الشعراءَ الذين حُبسوا! وما أكثر الأشعار التي قيلت في السجون! فبددت بنور توهجها ظلامَ السجون الدامسَ، وتنسمت قوافي تلك الأشعار نسائمَ الحرية، وخرجت من غياهب السجون ودياجيرها، لتصبح تاجاً مرصَّعا على هامة الخلود، وقلادةً حرةً في صدر الزمان.

ويظل السجينُ على أمل اللقاء مع الأهل والأحبة، فالذي ردَّ يوسف إلى أبيه، وأعزَّه – وهو في سجنه – قادرٌ على أن يجمعَ السجين بأهله، ويلمَّ الشملَ، ما لم تعاجلْه المنيةُ وهو في أعماق الأرض، فينتقل من أعماق زنزانته، ويوضع في أعماق الثرى داخل قبره!

وعسى الذي أهدى ليوسُفَ أهلَه وأعزَّه في السجنِ وهْوَ أسيرُ

أنْ يستجيبَ لنا فيجمعَ شملنا واللهُ ربُّ العالمين قديرُ

ونحن عندما نتحدث عن الشعراءِ وقصائدهم التي دبَّجوها في غياهب السجون، لا بد أن نتذكر جميعاً قصيدةَ أبي فراس الحمْداني الرائعةَ، التي قالها عندما كان أسيراً, وسمعَ حمامةً تنوح على شجرة عالية بقربه
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا, هل بات حالك حالي؟
لقد كنتُ أولى منكِ بالدَّمعِ مقلةً ولكنّ دمعِي في الحوادثِ غال

وكم من أبياتٍ أخرجت صاحبَها من السجن! كالأبياتُ التي جعلت الشاعر الحطيئةَ يخرج من سجنه، والتي قالها لسيدنا عمرَ بنِ الخطاب – رضي الله عنه – عندما أودعه في السجن:

ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخٍ؟ زغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ؟

ألقيتَ كاسِبَهُم في قعرِ مظلمةٍ فاغفر, عليك سلامُ اللهِ يا عُمَرُ

فبكى عمرُ رضي الله عنه, وأخرجه من السجن، ثم دعاه فهدّدَه بقطع لسانه إنْ عاد يهجو أحداً

كما “حُكي أن الحجاجَ حبس رجلاً في حبسه ظلماً، فكتب إليه
ستعلمُ – يانَؤومُ – إذا التقَينا غداً عِندَ الإلهِ مَنِ الظَّلُومُ؟
أما واللهِ إن الظُّلمَ لؤمٌ وما زال الظلومُ هوَ المَلومُ

والشاعر ابنُ عمارٍ عندما حبسه المعتمدُ بنُ عباد, كتب إليه الكثيرَ من قصائد الاستعطاف، وطلبِ العفو

سجاياكَ إنْ عافيتَ أندَى وأَسْمَحُ.. وعذرك إن عاقبت أولى وأوضحُ

ولكنْ، إذا كان الحطيئةُ قد استطاع أن يُبْكيَ سيدَنا عمرَ بتلك الأبيات، فإن ابنَ عمار لم يفلح في نيل رضا المعتمد، بل شجَّ رأسه بفأس وقضى عليه، وكأنّ المعتمد ما نسي هجاءَ الشاعر له ولزوجته وكما قيل:

جراحاتُ السِّنانِ لها التِئامٌ ..ولا يلْتَامُ ما جرحَ اللِّسانُ

وأما صالحُ ابنُ عبد القدوس، فإنه يشكو حاله إلى الله، ويرى نفسه في سجنه لا حياً ولا ميْتاً:

إلى الله أشكوْ؛ إنّه موضعُ الشّكوَى وفي يدِهِ كشْفُ المُصيبةِ والبَلْوَى

خرجْنا مِن الدُّنيا ونحنُ مِنَ اهْلِها فما نحنُ بالأحْياءِ فيها ولاَ

وقد يصور الشاعر نفسه وهو في سجنه سيفاً إلا أنه مغمَدٌ فها هو عليُّ بنُ الجهم يقول عندما حبس:

قالوا: حُبستَ، فقلتُ: ليس بضائرِيْ حبسيْ، وأيُّ مهنَّدٍ لا يُغمَدُ؟!

أوَ ما رأيتَ اللَّيثَ يأْلفُ غِيْلَهُ كبراً، وأوباشَ السِّباعِ تردَّدُ؟
والبدرُ يُدركهُ السِّرارُ فتنجلِي أيّامهُ وكأنَّهُ متجدِّدُ
والنَّارُ في أحجارها مَخبُوءَةٌ لا تُصطلى ما لمْ تُثرْها الأزندُ

إلاَّ أن عاصمَ بنَ محمد الكاتب، لما حبس .. وأتى بقصيدة فيها نقيض ما قاله ابنُ الجهم:

قالت: حُبست، فقلت: خطبٌ أنكدُ أنحَى عليّ به الزمانُ المرصدُ

لو كنتُ حراً كانَ سِربي مطلَقاً ما كنتُ أُؤخَذُ عنوةً وأُقيّدُ
أوْ كنتُ كالسَّيفِ المهنَّدِ لم أكنْ وقتَ الشّديدةِ والكَريهةِ أُغمَدُ
ما الحبسُ إلاّ بيتُ كلِّ مَهَانَةٍ ومَذلّةٍ ومكارِهٍ ما تنفَدُ
إن زارَني فيه العدوُّ فشامِتٌ يُبدي التوجُّعَ تارَةً ويفنّدُ
أو زارني فيه الصَّديقُ فمُوْجعٌ يذرِي الدُّموعَ بزفرةٍ تتَردَّدُ

وممن كتب وأبدع في هذا المجال الدكتورُ يوسفُ القرضاوي، الذي ألقى قصيدة بمعتقل الطور

يا ربِّ، إنّ الطغاةَ استكبروا وبغَوا.. بغْيَ الذئابِ على قطعانِ حملانِ

يا ربِّ، كمْ يوسفٍ فينا نقيِّ يدٍ.. دانُوْهُ بالسّجنِ والقاضي هوَ الجاني

وليس لأحدٍ أن ينسى تلك القصيدةَ, قصيدةَ الشاعر هاشم الرفاعي (رسالةٌ في ليلة التنفيذ) التي يخاطب فيها أباه،

أبتاهُ، ماذا قد يخطُّ بَناني؟ والحبلُ والجلاّدُ منتظرانِ
هذا الكتابُ إليكَ مِن زنزانةٍ مَقرُورةٍ صخريّةِ الجُدرانِ
لمْ تبقَ إلاّ ليلةٌ أحْيَا بِها وأحسُّ أنّ ظلامها أكفاني
ستمرُّ – يا أبتاهُ – لستُ أشكُّ في هذا، وتحمِلُ بَعدها جُثماني
الليلُ مِن حوْلِي هدوءٌ قاتلٌ والذّكرياتُ تمورُ في وجداني
ويهدُّني ألَمي، فأَنْشُدُ راحتي في بضعِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ

و في زمننا الحاضر الذي يشهد فتن لا حصر لها ، و انتهاكات لا حدود ها نسأل الله العلي القدير في هذا الشهر العظيم و مع حلول العيد أن يفك قيد الأسرى و أن يغيث الملهوفين و أن يعوض المكلومين خيرا في مصابهم و كلنا ننتظر فجرا تطل علينا فيه نسائم الحرية و لا تغتال فيه الثورات العربية، فهدفنا أن تتغير رقعة الشطرنج كلها و ليس الاعبين فقط إنه على كل شئ قدير…….

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫11 تعليق

  1. شكرا ام ريان على الموضوع 
    لكن شتان بين ذاك الزمان و هذا
     الان اصبح المرء لا يجيد الكلام فكيف له ان يقول شِعرا !!؟ 
    وان قال فاين السجان الذي يسغي له !!?
    نسأل الله العلي القدير في هذا الشهر العظيم و مع حلول العيد أن يفك قيد الأسرى و أن يغيث الملهوفين و أن يعوض المكلومين خيرا في مصابهم
    امييييييييين

  2. موضوع جميل وخاتمة أجمل يا ام ريان… كل عام وأنتِ والأهل بألف خير.

    أسأل الله ان يفك أسر المأسورين, ويرفع الهم عن المهمومين.. وأن يعيد كل مغترب إلى وطنه سالما غانما, سواء كان في غربة بعيدا عن اهله, أو الغربة الاصعب وهي الغربة داخل الوطن وبين الأهل!!
    http://www.youtube.com/watch?v=JHMiqN_5pec

  3. مشكوره اختي ام ريان على هذا الموضوع
    الراقي والرائع جداً بارك الله فيكي
    وكل عام وانتي بخير

  4. السلام على الجميع
    اضحى مبارك على الجميع اشتقنالك ام ريان موضوع قيم يا هلا بالماضي الجميل

  5. شكرا ام ريان على الموضوع فعلا مشوق لكن هناك بعض الكلمات لم افهمها ..

  6. شكرا لتفضلكم و تكرمكم بإضفاء بصماتكم على الموضوع ، و كل عام و أنتم بألف خير……..

  7. وليس لأحدٍ أن ينسى تلك القصيدةَ, قصيدةَ الشاعر هاشم الرفاعي (رسالةٌ في ليلة التنفيذ) التي يخاطب فيها أباه،
    أبتاهُ، ماذا قد يخطُّ بَناني؟ والحبلُ والجلاّدُ منتظرانِ
    هذا الكتابُ إليكَ مِن زنزانةٍ مَقرُورةٍ صخريّةِ الجُدرانِ
    لمْ تبقَ إلاّ ليلةٌ أحْيَا بِها وأحسُّ أنّ ظلامها أكفاني
    ستمرُّ – يا أبتاهُ – لستُ أشكُّ في هذا، وتحمِلُ بَعدها جُثماني
    الليلُ مِن حوْلِي هدوءٌ قاتلٌ والذّكرياتُ تمورُ في وجداني
    ويهدُّني ألَمي، فأَنْشُدُ راحتي في بضعِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ
    ……………………
    هذه من اروع القصائد في تاريخ الشعر العربي في الموضوع!!

  8. مشكورة ام ريان
    السجون ما خلقت الا للرجال ,,لهيك بقيدوهم لأنهم بيتعبوهم وهم أحرار ,
    فك الله أسرهم.

  9. يا حارس هذا الزنزان ….يا ليتك تفهم لبياني
    ما انت الآسر لي حقا….لكنك في سجن ثاني
    فاكسر اقيادك واتبعني …كي نكسر انف السجان

  10. أم ريان
    على الاقل هؤلاء كانوا شعراء مدحوا ونالوا وذموا وإستحقوا !
    لكننا الان فى سجن كبير يعيش فيه الشاعر والرياضى والسياسى والكاتب والاطفال والنساء لا لشىء فقط لقول الحق !
    أكبر سجون العالم هو سجن الوطن العربى الذى ليس له باب وليس له حدود؟

  11. شكرا أم ريان على اختيار الموضوع، أدب السجون من أهم انواع الادب إذ يعكس تجربة انسانية أليمة وعميقة بحس فني مرهف، تحضرني أبيات محمود درويش من قصيدته “برقية من السجن”:
    من آخر السجن طارت كف اشعاري
    تشد ايديكم ريحا على نارِ
    أنا هنا ووراء السور أشجاري
    تطوع الجبل المغرور أشجاري

ماذا تقول أنت؟
اترك رداً على ALBILDOSER إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *