مرسلة من صديقة نورت noha
خير ما تمدح به أي إنسان قولك فيه أنه ذو نفس كبيرة. وشر ما تذم به أيّ إنسان قولك إنّه ذو نفس صغيرة. ولولا كبار النفوس في الأرض لكانت الأرض جحيماً. ولولا صغار النفوس فيها لكانت نعيماً. أولئك كالنحل. وهؤلاء كالذباب. فبينا تعيش النحلة مع الأزهار ومن الأزهار، تعيش الذبابة في الأقذار ومن الأقذار. والنحلة إذ تمتصّ من الزهرة رحيقها لا تسلبها شيئاً هي في حاجة إليه. بل تأخذ منها ما هي في غنىً عنه لتعطيها لقاءه ما لاحياة لها إلاّ به – وأعني لقاح الحياة. ثمّ تعود النحلة فتقدّم جناها إلى الناس شهداً شهيّاً. أمّا الذبابة التي لا يطيب لها إلاّ التمرغ في الأقذار فلا تنقل إلى الناس غير ما في الأقذار من سموم قتّالة. النحلة تحمل البرء للسقيم. والذبابة تحمل السقم للبريء.
وإن تسألني عن الصفات التي تميز كبير النفس من صغيرها أجبك بأنّها قد تجمّعت كلها في صفة واحدة هي “النُّبل”. والنبل في النفس لا يأتيها من كرامة المحتد، ولا من رفعة الجاه، ولا من سعة الثروة، ولا من بريق الشهرة في أيّ فرع من فروع الاجتهاد البشري. إنّه عصارة اختباراتلا تحصى مرّت بها النفس على مدى حيوات عديدات.
من كان ذا نفس كبيرة كان أنبل من أن يغتاب أحداً من الناس أو أن ينمّ على أحد من الناس. فالغيبة والنميمة أقذار لا يستطيب التغلغل في أجوافها النّتنة والانتشاء بروائحها الكريهة إلاّ صغار النفوس. وهؤلاء قد يكونون من أعرق العيال حسباً، أو من أرفع الناس مركزاً، أو من أوفرهم ثروةً، أو من أبعدهم شهرة في دنيا العلم والفنّ والسياسة والدين والاجتماع، ويكون ما بينهم وبين النبل من شاسع البون مثل ما بين الأرض وزحل.
ومن كان ذا نفس كبيرة كان أبعد الناس عن التبجّح. فما تبجّح إنسان بقوّة بدنيّة أو عقليّة، أو بمال أو عقار، أو بنسبٍ أو جاه، أو بشهرة أو بسلطان إلاّ لأن في نفسه الصغيرة جوعاً إلى العظمة الحقّة التي تأبى الانقياد إليه، فيحاول أن يبتزها من الغير ابتزازاً – ولو بقوّة حنكه ولسانه.
ومن كانت نفسه كبيرة أبت عليه أن يظهر أمام الناس على غير حقيقته. فما خجل بجهله بين العلماء، ولا بفقره بين الأثرياء، ولا بضعفه بين الأقوياء. وإن هو كان على شيء من العلم والثروة ما زها بذلك على الجهلاء والفقراء والضعفاء، بل على العكس، قلل من قيمة هذه الأشياء مخافة أن يخجل منه الجاهل والفقير والضعيف. أمّا الذين صغرت نفوسهم فيسيرون في الأرض بوجوه ليست وجوههم، وألسنة ليست السنتهم، ولباس ليس لباسهم. فهم أبداً يُبْطنون غير ما يُظهرون، وينطقون بغير ما يفكّرون ويشعرون، ويُسعدهم أن ينخدع الناس بما يُظهرون عمّا يُبطنون.
والذي نفسه كبيرة لا يكبر على أيّ إنسان، ولا يذلّ لأيّ إنسان. فهو يعلم أن كرامته لا تُصان إلاّ إذا هو صان كرامة الغير، وان كرامةً تقوم على مذلة الغير لمذلة في ثوب الكرامة. وهو يأبى على كرامته أن تكون تاجاً من نسيج العنكبوت تعبث به نفخة ريح عابرة قد لا تكونأكثر من كلمة طائشة، أو حركة نابية تأتيه من حسود أو نمّام أو عدوّ – أو من صديق حميم. ولذلك لا يقابل الكلمة الطائشة بكلمة طائشة، ولا الحركة النابية بحركة نابية. ولا هو يحسد حاسديه ويعادي الذين يعاندونه، ويشمت بالذين يشمتون به. فنفسه أسمى من أن تنحدر إلى مثل هذه الصغائر، وأنقى من أن تتمرّغ في مثل هذه الأوحال. وشرفه أرفع من أن يكون ذلك الشرف الذي لا يسلم من الأذى “حتى يراقَ على جوانبه الدمّ”. أمّا الذي صغرت نفسه فلا ينفكّ يحدّثك عن شرفه وعزّته وكرامته،ولا يهنأ له عيش إلاّ إذا كال لخصمه الكيل كيلين، فردّ الشتيمة شتيمتين، واللكمة لكمتين، والعضّة عضّتين. وأسخف ما يأتيه صغار النفوس من هذا القبيل لجوؤهم إلى القضاء “لتحصيل” شرفهم.حتى إذا حصلوا على حكم ولو بغرامة رمزية يدفعها لهم الذين أهانوهم شعروا بأن شرفهم المهان قد عاد إليهم طاهراً من كلّ وصمة وشائبة، والتفتوا التفاتة الازدراء والشماتة إلى الذي حاول النّيل منه.
إنّ كبار النفوس إذا أعطوا فيسارهم – على حدّ قول السيد المسيح – لا تدري بما تفعله يمينهم. وإذا جاؤوا بالمعجزات تهرّبوا من تكريم الناس وتبجيلهم. وإذا أغدقت الحياة عليهم الأفراح ستروها عن عيون الحزانى. وغذا كانوا شباعاً خجلوا من التحدّث عن شبعهم أمام الجياع. أمّا صغار النفوس فإن تصدقوا بدرهم تمنّوا لو يَسمع كلّ مَن في السماء وعلى الأرض رنّته. وإن قعدوا أو قاموا شاقهم أن تعرف المسكونة بأسرها كيف قعدوا وكيف قاموا، وأين ولماذا. وإن زارتهم ساعة طرب مضوا يقرعون صنوجهم وينفخون في مزاميرهم حتى في المآتم. وإن شبعوا راحوا يحدّثون الجياع عن شتّى المآكل الشهيّة التي حشوا بها بطونهم.
أما اتفق لك أن رأيت والدة تلاعب طفلها فتمضي تشمّه بلهفةٍ وتضمّه، ولا تنفكّ تناجيه بأعذب ما تتقنه الأمهات من عذب الكم أمثال “يا روحي، يا عويناتي، تسلم لي، تقبرني” وما شاكلها – وذلك في حضرة جارة حرمتها الحياة لذّة الأمومة؟! أما شعرت، وأنت تسمع تلك الأمّ، أن كلماتها كانت بمثابة خناجر تغمدها في صدر جارتها العاقر؟
أما ابتُليت بجماعة من الأثرياء يتنافسون بما أنفقه كلّ منهم على حاجاته الخاصة وحاجات بيته، ويتذاكرون ما ربحوه أو خسروه في القمار، ثمّ يباهون بأنّهم زاروا بلاد كيت وكيت فنزلوا في أعظم فنادقها، وأكلوا في أفخم مطاعمها، وخاطوا لهم ثياباً عند أشهر خياطيها، وابتاعوا كيت وكيت من تحفها؟ وقد تكون أنت بينهم من الذين لا يملكون غير الثياب التي على أبدانهم، والذين يأكلون ولا يشبعون، ويأوون إلى بيوت خَلَت إلاّ من كرسيّ وفراش وحصير.
أما وجدتك ولو مرة بين زمرة من السيدات الأنيقات وقد رحن يتحدّثن عن “الصنّاع” في بيوتهن حديث من يحسبن أن الله كوّنهن من عبير ونور وكوّن “الصنّاع” من رغام وسخام – وذلك على مسمع من “الصنّاع”؟ أما أنا فقد عرفت سيدات وأسياداً إذا كانت الحاجة التي يريدونها في متناول أيديهم أبوا أن يتناولوها إلاّ من الخادم أو الخادمة!
دعاني مرّة أحد الأغنياء إلى الركوب معه في سيارته الجديدة. وعندما هممت بفتح الباب انتهر سائقه لأنّه لم يبادر إلى فتحه. ثمّ فتحه بيده – ولكن على مضض. وفي لمحة الطرف قفز إلى الداخل فجلس إلى اليمين وأجلسني إلى اليسار. فكأنّه عندما هممت بفتح الباب، خاف أن أسبقه إلى “مقعد الشرف”. ما أبهت للأمر في البداية. ولكنه عندما راح يحدّثني عن سيارته وعن ثمنها وعنالحسنات التي تمتاز بها على غيرها من السيارات، ثمّ راح يحدجني من طرف عينه مخافة أن يلمس حذائي مخمل السيارة، أو أن تبدر مني حركة تسيء إلى زر أو مسكة أو ممسحة – عندئذ ندمت على فبولي دعوته وتمنيت لو أُنْتَشَل بغتةً من السيارة بقدرة قادر أو بسحر ساحر.
إنك لو بحثت عن أيّ خصام يقوم في الأرض، سواء أكان بين فردين، أم عصبتين، أم دولتين، أم مجموعتين من الدول لوجدته يعود في الأساس إلى صغارة في نفوس المختصمين. فما اختصم اثنان إلا لأن صدر الواحد ضاق بالآخر. والصدر يضيق أو يتسع على قدر ما تصغر النفس أو تكبر. ففي حين أن النفس الصغيرة تضيق بالكبيرة فتناصبها العداء، تتسع الكبيرة للصغيرة فتقابلها إمّا بالصفح وإنّا بالامبالاة. لذلك كان صغار النفوس مبعث الفساد والقلق في الأرض. وكان كبار النفوس ملح الأرض وخميرتها، والواحات النديّة النضرة في صحاريها.
عن ميخائيل نعيمة
chokrane
نهى
كلام جميل جدا
ان دل على شئ فانما يدل على مدى
النضوج والتفكير السليم الذي تتمتعين بة
شكراً moi وشكراً ALI للكلمات اللطيفة يسعدني مشاركتكم لي اعجابكم بأديبنا اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة
أرفع من أن يكون ذلك الشرف الذي لا يسلم من الأذى “حتى يراقَ على جوانبه الدمّ”
ـــــــــــ
ههههههههههههه الجملة دي فكرتني بالمرحوم الكوميدي الساخر عبد الفتاح القصري عندما قال بأسلوب مضحك : لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي حتي يُراق علي جوانبه الدم..الله يرحمه
*********************
ففي حين أن النفس الصغيرة تضيق بالكبيرة فتناصبها العداء، تتسع الكبيرة للصغيرة فتقابلها إمّا بالصفح وإمّا بالامبالاة.
ـــــــــــ
عجبتني الجملة دي..إبـــداع
اللهم إجعلنا من أصحاب النفوس الكبيرة وإبعد عنّا أصحاب النفوس الصغيرة.
ميرسي يا نهنوهة..موضوع مفيد لمن لا يعلم شئ عن الإرتقاء والسمو فوق الصغائر.
سلام
موضوعك نهى ألمّ بكل صفة نبيلة، وليس لدي ما أزيد عليه.
مشكورة نهى
نهى مقال رائع وإنت أروع ………..
استمتعت بقرائته سطرا سطرا مشكورة حبيبتي في انتظار جديدك.
إنك لو بحثت عن أيّ خصام يقوم في الأرض، سواء أكان بين فردين، أم عصبتين، أم دولتين، أم مجموعتين من الدول لوجدته يعود في الأساس إلى صغارة في نفوس المختصمين. فما اختصم اثنان إلا لأن صدر الواحد ضاق بالآخر. والصدر يضيق أو يتسع على قدر ما تصغر النفس أو تكبر. ففي حين أن النفس الصغيرة تضيق بالكبيرة فتناصبها العداء، تتسع الكبيرة للصغيرة فتقابلها إمّا بالصفح وإنّا بالامبالاة. لذلك كان صغار النفوس مبعث الفساد والقلق في الأرض. وكان كبار النفوس ملح الأرض وخميرتها، والواحات النديّة النضرة في صحاريها.
كلام سليم
يستطيع الإنسان أن يملأ جوفه أضعاف ما يحتمل ولكنه يضيق صدره بأصغر الأمور
فيثور ويغضب ويزمجر ويقلق راحة من حوله
اللهم الهمنا الحلم وسعة الصبر
شكراً يا نهى
رائعة أنت
سلام يا نور
سلام أم ريان
دامت المحبه
وعليكم السلام و رحمة الله وبركاته حبيبتي سعاد
ألف حمد الله على السلامة.
الله يسلمك أم ريان
رحمة ربي واسعه
دخيلك يا الله
ما بتعرفي قديش ساعدني كلامك ودعائك
الله يخليلي ياك يا رب
ويرزقك الدخول من باب الريان يا حق
يآلله أحلى دعوة مع أن الزاد قليل والسفر طويل الله يهدينا أجمعين
إنت اللي كلامك كالبلسم
جعلنا الله وإياك والسامعين من الدخلين لباب الريان برحمته آمين ………
هذا مخصوص ومحدد وغير معمم والا الحق دائما في صراع مع الباطل واهل الخير يجب ان لايركنوا للباطل ولصراع الحق ثقافة ومثل في مقدمتها ان يكون ليس منافسة في سلطان او طلبا لشيء من حطام الدنيا واهل الحق في خصامهم مع الباطل قد يوالون الابعدين ويعادون اقرب الاقربين , اما ان تسكت عن الباطل والظلم ولاتحاربه او تنكره مجاهدا بيد او لسان اوقلب وذلك اضعف الايمان متعللا بكبر النفوس وسعة الحلم فتلك هي المداهنة وخرس الشيطنة واثم الشراكة فلا تتشابه عليكم البقرة فانه لاشية فيها
صباحك عسل . noha.
في كل ماسردتي لنا من مواضيع وعبر وكلام وحكم.
ترك في نفس كل منا زهرة رقيقة وشوق اكبر لما قد يقرا اكثر .
لو كان ما في نفوس ضعيفة وجشع وتسلط لكانت الدنيا بخير ………….
شكرا .
موفقة.
يارب .
صباح الخير للجميع
اسعدني ان مقالة اديبنا و شاعرنا الكبير لقت الصدى الطيب في نفوسكم مما يشجعني مرة بعد مرة بمشاركتم الأستمتاع بروائع الأدب وشكراً لمروركم
الكريم
وهب الحسيني في حزيران 13، 2011 |
صديقتي وهب الكلام هنا بشكل اساسي عن كبر النفس في المسائل اليومية الحياتية
قد تكون مع صديقة قدمتي لها ما في وسعك من مساعدة و لكنها ترد الجميل بالنميمة و الأغتياب كريم النفس هنا لا يرد الأساءة بمثلها بل يترفع عن هذه الأمور بالامبالاة و يبتعد بكل بساطة
اتمنى ان تعيدي قرأة هذا العمل الأدبي ستجدين و لا شك الكثير من النمازج التي قد نصادفها في حياتنا اليومية و شكراً جزيلاً للجميع
السلام عليكم
نقل طيب يا نهى للاديب الاريب ميخائيل نعيمة ،، النفس العظيمة هي نفس نبيلة بكل تاكيد ،، والنفس العظيمة تنزل النفوس منازلها التي تستحق ،
شكرا نهى للمقالة المتميزة
اخ مأمون اشتقنا الى مقالاتك و تعليقاتك عسى ان لا تطيل انقطاعك عنا قلوبنا مع الشعب السوري الشقيق و شكراً
نك لو بحثت عن أيّ خصام يقوم في الأرض، سواء أكان بين فردين، أم عصبتين، أم دولتين، أم مجموعتين من الدول لوجدته يعود في الأساس إلى صغارة في نفوس المختصمين…………..
كلام صائب .. ومااكثرهم صغار النفوس الذين يتخاصمون ويتقاتلون , بينما تدفع ثمن نزاعهم الاكثرية البريئة؛ من افعالهم الدنيئة والانانية ….
شكراا noha
noha شكراا
ماجمل ان تحيا مصر وينتشر السلام ويعيش الناس في امان
ادعو المغنية أحلام و اشباهها و كل من يدافع عنها الى قراءة مقالة للأديب ميخائيل نعيمة