بقلم الشيخ محمد الغزالي

ذكر لي بعضهم حديث “بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ” رواه أحمد والجماعة، وكأنه يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم، ويداهن الجائرين ويستكين للأفول الذي لا محيص عنه!

وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم.

ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى صلاح الدين الأيوبي ما فكر في استنقاذ بيت المقدس من الصليبيين القدامى!
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار في ” عين جالوت ”!

ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامي في عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغاني إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق ما فكروا أن يخطوا حرفاً أو يكتبوا سطراً!

وقلت في نفسي : أيكون الإسلام غريباً وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الإحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس؟

يا للخذلان والعار!

الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التي سوف يواجهها الحق في مسيرته الطويلة فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته بل ربما وصل في جرأته على الإيمان أن يقتحم حدوده ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه!

وعندما تتجلى الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذي يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية والفكرية التي يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة، بل لعله يستأنف زحفه الطهور فيضم إلى أرضه أرضاً وإلى رجاله رجالاً.

وذلك ما وقع خلال إعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجيء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء في بعض رواياته:

“طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتى ” [ راجع في روايات الحديث كلها كتاب “غربة الإسلام” لابن رجب الحنبلى ] فليست الغربة موقفاً سلبياً عاجزاً، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين حظوظاً أفضل.

وليس الغرباء هم التافهون من مسلمي زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة وتوكلوا على الله في مدافعتها حتى تلاشت!
والفتن التي لا شك في وقوعها والتي طال تحذير الإسلام منها فتنة التهارش على الحكم والتقاتل على الإمارة ومحاولة الاستيلاء على السلطة بأي ثمن، وما استتبعه ذلك من إهدار للحقوق والحدود، وعدوان على الأموال والأعراض .. وهذا المرض كان من لوازم الطبيعة الجاهلية التي عاشت على العصبية العمياء..

والعرب في جاهليتهم ألفوا هذا الخصام والتعادى، فهم كما قال دريد بن الصمة:

يغار علينا واترين فيشتفي
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر

قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
فما ينقضى إلا ونحن على شطر

وما رواه أحمد عن تميم الدارمى يؤيده ما رواه عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، أما الذين يعزهم الله فيجعلهم من أهلها وأما الذين يذلهم الله فيدينون لها ” [ رواه ابن حبان كما في الزوائد للهيثمى رقم ( 1621 ) وجماعة . راجع الأحاديث الصحيحة للألبانى (1 / 7 ) ].

وكذلك ما رواه عن قبيصة بن مسعود : صلى هذا الحى من محارب ـ اسم قبيلة ـ الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها ـ أمراءها ـ في النار إلا من اتقى وأدى الأمانة ”.

ويقول صاحب المنار في نهاية تفسيره لقوله تعالى : ” قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم .. ” : اعلم أن الاستدلال بما ورد من أخبار وآثار في تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن على أن الأمة الإسلامية قد قضى عليها بدوام ما هى عليه الآن من الضعف والجهل كما يزعم الجاهلون بسنن الله اليائسون من روح الله، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة، وأن لسهمها قرطة بعد هذه النبوة كالآية الناطقة باستخلافهم في الأرض ـ سورة النور ـ فإن عمومها لم يتم بعد، وكحديث ” لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق ” رواه أحمد ..

” والشطر الأول منه لم يتحقق بعد، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عن مسلم من أن ساحة المدينة المنورة سوف تبلغ الموضع الزى يقال له اهاب، أي أن مساحتها ستكون عدة أميال، فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين .. ” ولتعلمن نبأه بعد حين ”.

وخطأ كثير الشراح جاء من فهمهم أن ترك الشر هو غاية التدين وأن اعتزال الفتن هو آية الإيمان.
وهذا عجز سببه ضعف الهمة وسقوط الإرادة.

وإني لأذكر فيه قول المتنبى :
إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان واجمال

أجل، فإن ترك الصغائر غير بلوغ الأمجاد، وتجنب التوافه والرذائل غير إدراك العظائم وتسنم الهام، والتلميذ الذي لا يسقط شيء والذي يحرز الجوائز شيء آخر!

والرسول الكريم عندما يأمرنا باعتزال الفتن لا ينهى واجبنا عن هذا الحد..

سوف يبقى بعد ذلك الاعتزال الواجب بناء الأمة على الحق ومد شعاعاته طولاً وعرضاً حتى تنسخ كل ظلمة.

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫13 تعليق

  1. غرباء ولغير الله لا نحني الجباه

    غرباء وارتضيناها شعارا في الحياة

    ان تسال عنا فإنا لا نبالي بالطغاة

    نحن جند الله دوما دربنا درب الاباة

    لا نبالي بالقيود بل سنمضي للخلود

    فلنجاهد ونناضل ونقاتل من جديد

    غرباء هكذا الأحرار في دنيا العبيد

    كم تذاكرنا زمانا يوم كنا سعداء

    بكتاب الله نتلوه صباحا ومساء

    غرباء ولغير الله لا نحني الجباه

    غرباء وارتضيناها شعارا للحياة
    مشكوره جداً. اختي نور
    بارك الله فيكي

  2. المشكلة ليس في من فهم معنى الحديث خطئا واستكان واستهان.. بقدر ما هي في من يُحبط و يثبط من يريد الاصلاح والخير للمجتمع, الله أكبر,, لا هم يأخذون بدينهم ولا يريدون لغيرهم أن يفيد ويستفيد,, فنراهم يهجمون على كل صاحب علم بهدف تكذيبه وإيجاد أخطاء وعثرات في كلامه,, وكانهم يريدون للدين أن يبقى غريبا الى الابد, والأدهى من ذلك أنهم يدعون حرصهم على الدين!!!!
    جزاك الله كل خير يا نور…

    1. نعم اخي جنتل كلامك اصح ماقيل على الصفحة عن الغرباء!!
      فالغرباء هم الذين يسيرون عكس تيار الناس الذين تسيرهم اهواءهم وشهواتهم ومصالحهم
      هم الناس الذين يطالبون الناس بالالتزام باوامر الله بدل اوامر الطغاة وهيلاري ودور الازياء ونجوم المسلسلات !!
      هم الناس الذين يعطون الراي الشرعي فيهاجمهم ادعياء الاسلام مع غير المسلمين في تحالف غير معقول لا شرعا ولا عقلا كايامنا مع طيب الذكر !!!! رامي الشمالي على سبيل المثال!!!!

    2. تعم اخي جنتل صدقت ففعلا المشكلة فين ذكرت ممن لا يرحم ولا يريد لرحمة الله ان تتنزل على الناس.

  3. لافوض فوكي يا اختي نور وسلام
    وسلام الله عليك وعلى الجميع
    بارك الله بك وجزاك كل الخير ان شاء الله

  4. غُربة الاسلام في هذا الزمن هي أن نرى المنكر أمراً عادياً .. ونرى المعروف أمراً مستهجناً ..!!
    أن نجد داعين المُنكر مُرحب بهم ومفتوحة لهم الأبواب ومبذولة لهم العطايا .. والداعين إلى المعروف مغلقة الأبواب في وجوههم وعابسة لهم الوجوه ..!!
    جعلني الله وإياك والجميع مع الغرباء إن شاء الله ..!!
    شكراً أخت نور ..!!

  5. شكرا أخت نور سلام أوافق تعليق مأمون
    ولكن أرى تبدل الحال والأحول هو أمر طبيعي في تغير أزماننا ولكن دائما نحاول ان نجعل تغيرنا للأفضل او ربما نظن ذلك
    عفوا نور اود ان انشر هذه الصورة بعد اذنك
    https://fbcdn-sphotos-a.akamaihd.net/hphotos-ak-snc7/403272_348987498460611_107227642636599_1384347_1380216123_n.jpg

  6. السلام عليكم
    شكرا لكل من شارك في الموضوع
    كان هدفي من الموضوع بيان أن هذا الحديث لا يدعو إلى الرضا بالمنكرات مهما كثرت بحجة أن هذا قدر الله، بل أن الإصلاح واجب في كل زمن، ويدل على ذلك حديث: إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها(أو كما قال عليه الصلاة والسلام) ، فحتى قيام الساعة لا يمنع من فعل الخير
    أما الغرباء، فطوبى لهم، فهم من فهموا دورهم ولو خالفهم الجميع وتهكم عليهم الجميع، فالفتاة مثلا التي لازالت تلبس عباءة فضفاضة وكل صديقاتها مضغوطات داخل جينز مما يجعلها في نظرهم متخلفة وبائسة ودقة قديمة، لكنها بداخلها تشعر أنها ضريبة الغربة فيتحول ذلك إلى سرور وإصرار على الصمود..والأمثلة لا حصر لها
    شكرا مرة أخرى

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *