كتب كتب جهاد الزين في صحيفة “النهار” اللبنانية:
لا شيء في تركيا يعبِّر عن مخاطر الانحراف السلطوي حاليا مثل قضية العلاقة بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية أي حكومة رجب طيِّب أردوغان. وهذه مسألة يجب أن يراقبها الجسم القضائي في دول مثل مصر حيث القضاء محور عبور كل شرعيات الصراع ولبنان حيث ليس لدى القضاء تطلّعات ضد النظام السياسي…
هناك ما هو مُؤْذٍ في المشهد التركي الراهن، أَذىً متفاقِماً، بالنسبة لكل المعنيين ببنية ديموقراطية معاصرة لبلد مسلم كتركيا لا مثيل لتجربته التحديثية الناجحة في العالم المسلم إذْ يبلغ حجم ناتجه القومي 800 مليار دولار في اقتصاد لا يعتمد على ثروات نفطية وطبيعية بل على الانتاج الصناعي والزراعي والخدماتي. المؤْذي جداً هو الفشل المريع لزعيم “حزب العدالة والتنمية” رئيس الوزراء رجب طيِّب أردوغان في الاعتراف بعمق الأزمات الداخلية والخارجية التركية الناشئة والتي تحمل معها بداية شيخوخة تجربة حزبه وبالتالي فشله في التحضير لمراجعة عميقة أحد خياراتها الشجاعة قد تكون الانسحاب، من الحياة السياسية.
انسحابٌ إما انتقاليٌ لصالح شخصية تبدو أكثر اتزانا في فهم التحولات والتعامل معها مثل شريكه الرئيس عبدالله غول، أو نهائي لصالح جيل جديد في الحياة العامة التركية أكثر قدرة على التعبير عن حاجات القوى الطليعية الجديدة في المجتمع التركي… حتى أن مثقفين ومعلقين ليبراليين وعلمانيين سبق أن اقترعوا لرجب طيِّب أردوغان وأيّدوه بعد 2002 باتوا يحذِّرون من انحراف يصفونه بـ “الفاشي” في ممارسته لسلطته.
هذا هو الأذى لأن هذا الانحراف السلطوي الذي تتالت مظاهرُه، وآخرها الجو القمعي والديماغوجي الذي أثاره بعض نواب “حزب العدالة والتنمية” في البرلمان خلال وعلى هامش مناقشة مشروع لأردوغان من شأنه إخضاع المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين لسلطة الحكومة… لن يسمح بسهولة في تحقيق عملية انتقال ديموقراطي للسلطة في تركيا بشكلٍ سلس، انتقال ينقذ النموذج التركي بما هو نموذجٌ غير مرتبط حصرا بحزب أو جيل وإنما يعبِّر عن تراكم جهود أجيال وأدوار من العلمانيين و”الإسلاميين”.
الذي يفوت الكثيرين حاليا هو تقدير طبيعة ديناميكية المرحلة في تركيا. إنها “لحظة” عودة الضغط العلماني في المجتمع التركي. لأن حجم منجزات الحداثة الاقتصادية والسياسية والقوى الجديدة التي وُلِدت منها هو بعكس الديناميكية الإسلامية للتسعينات والعقد الأول من هذا القرن في تركيا. كانت السابقة ناتجة عن مسافة استلاب بين كتلة أكثرية ذات تطلعات إسلامية بدأت تطالب بالدخول في الحياة العامة ولديها قواها ورساليمها الجديدة ضد نخب علمانية تقليدية. أما اليوم فقد توسّعتْ الطبقة الوسطى المدينية (في عهد أردوغان نفسه) حاملةً معها تطلعات أكثر اندماجا بنمط الحياة الغربي وساعية إليه (كما يقول الكاتب أورتوغرل أوسكوك) بعد موجة إسلامية مديدة. لم تعد المسافة السلبية التي فرضت الإتيان الانتخابي بحزب “إسلامي” في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين موجودة بالقوة السابقة لأن أولويات الحداثة التركية انتقلت إلى ديناميكية جديدة… يبدو أنها، بالحد الأدنى “أقل دينية” مما كانت عليه، وبالحد الأقصى هي في اتجاه علماني غربي.
قد يكون الذي يحدث في مصر، ولو بشكله العسكري- الشعبي وبقيادة ضباط الجيش، والذي يحدث في تونس بصيغته الدستورية الجديدة بقيادة نواب المجلس التأسيسي ما يعبِّر عن نقطة التقاء لهذه الديناميكية الجديدة مع دور القضاة الأتراك عنوانها بدء أفول المد الإسلامي بأشكال مختلفة. طبعا من المبكر الجزم والتعميم بسبب اختلاف الأوضاع بين العالم العربي وتركيا من حيث حجم الاستقرار وحجم الانجازات الداخلية في الأخيرة وحجم الإحباطات في الأول. ناهيك أن المشكلة الحالية في تركيا تبدو ظاهرا باعتبارها صراعا بين منظومتين إسلاميّتين داخل الدولة. مع ملاحظة أن موضوع البحث في الدول الثلاث تنظيماتٌ إخوانيّةٌ بما فيها في تركيا؟ وملاحظة رابعة أننا نتحدّث هنا عن دول بقيت متماسكة قياسا بدول المشرق (هل تُمكن إضافة الحرب الاهلية السورية كعنصر فعّال في هذا الأفول من حيث ابتذاله الأقصى كمدّ مع السلفية الإرهابية؟).
لا شيء في تركيا يعبِّر عن مخاطر التدهور السلطوي حاليا مثل قضية العلاقة بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية أي حكومة أردوغان. وهذه مسألة يجب أن يراقبها الجسم القضائي في دول مثل مصر حيث القضاء محور عبور كل شرعيات الصراع ولبنان حيث القضاء جزءٌ كامل التبعية للنظام السياسي أو الأدق أن النظام السياسي الطائفي كامل السيطرة على القضاء بمعزل عن القيمة الشخصية والعلمية للكثير من القضاة…
في فرنسا ضجّت الطبقة السياسية سابقا وتتململ بين وقت وآخر مما يمكن أن يكون ولاءاتٍ سياسية غير معلنة لقضاة التحقيق والنيابات العامة. لكن في النتيجة الذي يصنع التوازن في الحياة العامة الفرنسيّة مزيج ثابت وقوي من عوامل شرعية الانتخاب ورأي عام قوي وحاضر وتقاليد استقلالية القضاء في سياق آلية قدرة كل منها على رسم ضوابط للعامل الآخر.
أظهرت قضية الفساد التي فتحها قضاة تحقيق وضباط شرطة وأدّت إلى اعتقالات طالت المحيط الخاص لقيادة “حزب العدالة والتنمية” أن رجب طيِّب أردوغان يعتبر شرعيّته الشعبية (الانتخابية) أعلى من القضاء والشرطة وسابقا الجيش. لا يستطيع المراقب أن يصدِّق كيف يمكن لتصريحات وردود أفعال غاية في العناد والتعالي أن تصدر عنه أمام ملف لا سابقة بحجمه- كقضية فساد- في تاريخ الجمهورية التركية. نَقَل عشرات ضباط الشرطة من مناصبهم ووضع المدعي العام الرئيسي في محاكمات “إرغنيكون” التي كسرت الوصاية السياسية للجيش على الحياة السياسية تحت ضغط شخصي عبر بعض وسائل الإعلام وتصريحات السياسيين وهو القاضي “زكريا أوز”. فبعدما كان أوز “بطلا” أيام تلك المحاكمات في نظر قيادة أردوغان أصبح متآمرا بعد تحريكه لملف الفساد الذي جُمِّدت الاعتقالات فيه بعد أن كادت تصل إلى بلال إبن رجب طيِّب أردوغان في الجزء من الملف المتعلِّق بالانشاءات العقارية (هناك جزء آخر معقّد يرتبط بمصالح الفساد الشخصية التي نمت على هامش التعاون بين الدولتين التركية والإيرانية لتجاوز العقوبات على إيران بما يفيد الاقتصاد التركي).
السؤال الجاد المطروح في تركيا حاليا ويجب أن يطرح في دولنا هو “هل وجود دوافع سياسية وراء تحرك القاضي تُبطِل قيمة قرائن ومستندات الاتهام؟ “… ولماذا لم تُبطِل قرائن محاكمات “إرغنيكون”؟! (مصطفى أكيول في “نيويورك تايمز”).
الجواب طبعا لا. إنها لا تبطل لأن قيمتها قائمة بذاتها. أضِفْ أنه كما ثَبُتَ حتى في دول مثل فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، لا تظهر سياسيا ملفاتُ فسادٍ إلا حيث يكون هناك مسار تدهور ما في الحياة العامة بمعزل عن من هي “البقرة” التي سقطت اليوم أو غدا؟ فكيف سيكون الوضع إذن في “مَزارِعِنا”؟
في الحقيقة يبدو أردوغان منذ أحداث حديقة جيزي الشبابية في الصيف الماضي نسخة قريبة جدا من أنماط من الحُكّام خبرنا جيلين منهم في العديد من الدول العربية حيث كل اختلاف مع الحاكم هو “مؤامرة على البلد”.