ربما كانت رغبتي في حجز مقعد قبل فوات الأوان بين المواطنين الشرفاء الذين امتلأت بهم مصر مؤخراً هو أحد أسباب كتابة هذا المقال ، أو بدقة أكثر ، كتابة هذا البلاغ ، من الأسباب الحاثة أيضاً أن أري المواطن “أحمد فتحي سرور” ، برغم شيخوخته وضمور مخارج الألفاظ في حنجرته ، قد خرج من عزلته مؤخراً ، وله الحمد ، ليحرض المصريين علي الجهاد في غزوة الصناديق القادمة ، كأن الرجل يعتذر عن كونه أنفق عقوداً من عمره في قلب المشهد السياسي ، بل أحد أهم كارتيلات السياسة المصرية ، ولم يهتدي إلي صياغة ٍ لهكذا دستور مؤهل لانتشال مصر من العالم الثالث ، والصعود بها مباشرة إلي الكواكب !!
“مفيد شهاب ” أيضاً ، وله السابقات ، خرج من عزلته ، مزدحماً بأشياء الشيخوخة ، ليدق طبول الغارة ، ويشجع المواطنين الشرفاء علي جهاد منتصف يناير ،،
وبما أنني لست أقل وطنية ، ولا يعنيني في الوقت نفسه ، صوَّت المواطنون الشرفاء علي الدستور الجديد بـ “نعم” أو بـ “لا” ، ربما لأن القضية التي أنا بصددها تتجاوز قضية الدستور ، وربما لأنني حصلت كالآخرين ، منذ أسبوعين ، علي النتيجة من كنترول جريدة “الجمهورية” التي أثق في تقديرها لاتجاه الريح ، ورائحة الزمن القديم ، كما أنها الجريدة التي تنتمي إلي عهد “جمال عبدالناصر” ، حبيب الملايين ، والرمح الذي أرسلته السماء ليطعن الظاهرة الإمبريالية العالمية المتعفنة في الصميم ، وسيدنا وابن سيد العرب ، وشجرة الكريسماس ، وأنور وجدي ، والذي كان ” مبارك ” إحدي هداياه للمصريين ، ربما يغفر له كلُّ هذا كونه لم يترك الدنيا إلا بعد أن حسم من الوطن خمس مساحته تقريباً ،،
لذلك سأتجاوز الكتابة عن التحريض علي التصويت بـ “نعم” ، وسأحكي في هذا البلاغ شكوكي حول الإرهابية ، تركية الجذور ، ” الأبلة فاهيتا ” !!
قد يوقظ بلاغي هذا في النفوس شدواً مريباً ، ما لم يكن مضاءاً بأسباب قوية ، لذلك سأبدأ من عند “محمد علي ” ، ذلك الألبانيِّ الذي كان لديه أثر لطموح جعله يقفز مباشرة ، وعلي زنود المصريين أنفسهم ، خارج تاجر التبغ الذي كانه لامتلاك مصر خالصة له ، ولموقده الأسريِّ من بعده !!
لقد حكم الأتراك مصر غابة من الأعوام ورحلوا ، ولم يكن رحيلهم تعقيباً علي انفعال “23” يوليو “1952” الشهير كما علمنا مؤرخو البلاط ، بل لأن قوة اللحظة عقب الحرب الثانية كانت كافية لتعصف بالمقدمات ، وتدهم عن عمدٍ كلَّ قديم ، بالإضافة إلي هذا فإن ” أمريكا ” المنتصرة ، التي لا أرتاب في أنها تفعلها ، كانت في ذلك الوقت ، وبالتأكيد الزائد عن الحد ،عاقدة العزم علي تغيير لوحة الشرق التراثية إلي لوحة أكثر حداثة ، ظلت مع الصعود في درجات الزمن والحداثة تتبدل ألوانها ، وتفقد وضوحها ، ويتبعثر الظلام حول حوافها ، حتي وصلت في النهاية إلي ذروة السريالية !!
رحل الأتراك ، وبالرغم من رحيلهم ، ولأنَّ شيئاً رقيقاً للغاية ، ودقيقاً للغاية ، يتركه الراحلون فينا دائماً عند الوداع ، فلقد احتفظت لهجاتنا ببعض المفردات التركية كذكري لهذه المرحلة ، وبعض الأسماء التي صارت مثاراً للسخرية ، كما صارت تخسر لياقتها تدريجياً ، مع ذلك فهي تنبه علي الفور في البال ذكراهم ، مثل ، “ميرفت” ، وما “ميرفت” إلا تحريف لاسم “مروة” العربي ، وهناك أيضاً “رأفت” ، “عصمت” ، ورباعية الفنان “عبد المنعم ابراهيم” الشهيرة في شخصية “لمعي” فيلم “آه من حواء” ، حلمي فهمي نظمي رسمي … ، “قصدي” ، “الدمرداش” ..
وكما يليق بصديق وفيٍّ علي أن أتوقف هنا لأطلب الصفح من صديق يحمل أحد هذه الأسماء ، وكلنا في الهم شرق ، كما أطلب منه أن يتذكر أنَّ للإسرائيلين أحاسيس مثلنا وكرامة ، مع ذلك لم يمنعهم الذوق السليم من انتخاب السيد “نتنياهو” ليدير شئونهم مرتين ، بالرغم من أن معني اسمه في العبرية يوازي في العربية اسم ” عطية ” !!
ومن المفردات القليلة جداً التي ، لسبب غير مفهوم ، احتفظت بلياقتها حتي الآن ، حين أصبح غيرها من المفردات مهجوراً ، مثل : فلد ، خرسيس ، خنزؤور ، تشكرات ، أدب سيس ، يوك ،،
أقول ، من المفردات التي تحتفظ حتي الآن بلياقتها ، ولعلَّ المصريين قد ادخروها في الذاكرة الكلية لمثل هذه اللحظة الرخيصة ، مفردة ” أبلة ” وتعني في التركية ” أخت ” !!
ومن المفارقات الغريبة أن هذه المفردة كانت تحظي برواج كبير في شارع “محمد علي ” تحديداً ، يتنادي بها راقصات القاع في احترام مبتذل !!
أعود لأستأنف :
لقد أصبحت واضحة الآن أكثر مما ينبغي ذريعتي للشك في ” الأخت فاهيتا ” وهو دليل لا يقبل القسمة علي اثنين ، ولا الجدل ، علي إخوانيتها وولائها التام للمرشد ، وضلوعها ، في مخطط ” أردوغان ” لتهديد الأمن القومي المصري ، وكونها ، وهذا هو الأهم ، وكما يبدو للعاقلين مثلي ، ومثل النظام ، أكبر من مجرد شخصية كرتونية !!
إذن ، لقد برهنت ، وبالمستندات ، علي أن ” الأخت فاهيتا ” ما هي إلا أحد أعضاء الجماعة الإرهابية التي فازت ، لا أدري كيف ، بخمس أو ست استحقاقات انتخابية متعاقبة ، أو خمس أو ست غزوات متعاقبة ، وفي انتخابات نزيهة أيضاً !!
لكن الغريب في الأمر أن يأخذ النظام علي محمل الجد روايةً عن مؤامرة من الماسونية العالمية تواترت عن طريق ” أحمد سبايدر ” ، النسخة الأخيرة من ثوار الزمن الخنزؤور ، والذي لا يمنعني الحقد أن أعترف أنه ، بالإضافة إلي الثائرة ” سما المصري” من أهم أيقونات اللحظة الراهنة ، كما لا يمنعني الخجل أن أعترف أنني شعرت عصر اليوم بثقل في لساني وتنميل ضئيل في أطرافي حين سمعته يقول مزهواً :
– دي أول ضربة مني للمخابرات الأمريكية ، ضربة من شاب عمره 23 سنة !!
ولعله نسي أنها ليست الضربة الأولي التي وجهها للمخابرات الأمريكية والماسونية العالمية ، فهو الذي اكتشف من قبل أن كلمة “سلمية” هي مؤامرة ماسونية حول بلاد الربيع العربي ، وحسب اكتشافه ، “س” سوريا ،”ل” ليبيا ، “م” مصر ، “ي” يمن ، “ة” تونس !!
هذا العبث يدفعني الآن ، وأكثر من أي وقت مضي ، إلي أن أتذكر “مينا دانيال” ورفاق دربه ، وكلما تذكرت ذلك المسيح أشعر أني تسللت إلي قافية من الشفق العميق باهظة الشجن ، وكلما قررت أن أكتب عنه ما هو أكبر من مقال عابر ، لسبب ما ، تموت الحروف علي أصابعي ، لكن ، سوف يجئ اليوم الذي أنشط فيه للكتابة عن هذا الثائر المطبوع ، الذي كان ، حسب كل الروايات عن موجات الثورة في ظل المجلس العسكري ، يقف بصدد الدبابات غير هيَّابٍ ولا متخاذل في محاولة للبحث عن منطق أنبل للحياة ، ولتعريف أجمل للوطن ، في الوقت الذي كان فيه “سبايدر” يأخذ زينته عند كل ديسكو ، ويواظب علي ترتيب زينته ، وعلي الذهاب في موعده للكوافير ، ودكتور السنان ، والخياطة !!
كيف انحدرنا إلي هذا القاع ، وكيف وصلت بنا وتيرة السقوط إلي هذا الحد المزري ؟!
من الجدير بالذكر أن “سبايدر” في مصر هو القاعدة ، كما أن “مينا” هو الاستثناء ، لكن هذا أبداً لا يعطي انطباعاً بالإيمان بالإطار كنهاية بائسة ، مع ذلك ، فهي فعلا نهاية ، لكنها نهاية مطاف وبداية انطلاقة ، والتغيير دائماً هبة الاستثناء لا القاعدة ، وأن الملايين من سكان القاعدة ، في حلبة التغيير “ملاليم” !!
أتذكر استغراقي في الضحك في إحدي ليالي عام الدكتور ” محمد مرسي ” عندما سمعت من صديق نبأ القبض علي حمامةٍ بتهمة التجسس ، ولم يكن سبب استغراقي في الضحك لسخافة الخبر بقدر ما كان للطريق الذي طارد فيه عقلي نقطة انطلاق الحمامة المتهمة ، لقد فكرت بصمت ، أن هذه الحمامة لابد أن تكون الحمامة الضائعة في فيلم ” وا إسلاماه ” ، التي أرسلها “بلطاي” إلي التتار تحمل خبر موت “شجر الدر” ولم تصل ، وتذكرت ” أحمد مظهر ” وهو يقول لرسل التتار فيما معناه :
“يبدو أن الرسالة الأخيرة ضلت الطريق” ،،
ولأنني صدقت ظني ، تساءلت في صمت :
كيف لم تمت حتي الآن هذه الحمامة التي كانت تعيش في الستينات ؟!
كان “تويتر” في تلك الليلة شادراً للنكات الجديدة ، وكان بعض هذه النكات يطال الدكتور “محمد مرسي ” شخصياً ، ذلك المسكين الذي واظب طيلة عام كامل علي عدم اعتبار كرامته جزءاً من شخصيته الاجتماعية ، ولأننا محدثو حرية ، كنا نظن هذا خلقاً لا يليق برئيس للجمهورية ، أنا شخصياً تصورت يوماً تحت ضغط هذا الإحساس أنه لو حدث يوماً ، وذهب بعض الأطفال العابثين ، وراحوا يقذفون نوافذ القصر الجمهوري بالطوب ، لن يفعل الدكتور ” مرسي ” أكثر من أن يطلب من حراس القصر أن يعرفوا عناوينهم ، ليرتدي بعدها حذائه ، ويذهب هو شخصياً ليشكوهم إلي أهلهم ، وينهي كلامه لابد بانفعال الطيبين :
– باحذركم لآخر مرة ، لموا عيالكم لأحسن الموضوع يوسع ،،
لقد نسيَ المصريون في لحظة طيش جماعية ، ومدفوعة ، أنهم منذ عامين لا أكثر ، كانوا يعتبرون أن إلهاً يسكن هذا القصر ، كما كان يعتبر اليابانيون قبلنا “الإمبراطور” إلهاً تجب عبادته ، حتي سمعوه عبر الراديو يعلن وهو يبكي استسلام اليابان ، علي أن “مبارك” كان أقلَّ شأناً من أن يعلن استسلامه بنفسه !!
كتبت من قبل عن إعلان بيبسي ، مؤكداً أنه إعلان مقصود ، وتحريض جهاري ، وعن عمد ، وهم لها ، ومن المبالغة ، بل الإحالة فيها ، أن نسئ تقدير سعة موجتنا في محيط العالم ، ونعتقد أنهم يحسبون لنا حساباً ، أو أننا نخيفهم ، وأنهم يحتاجون لاستخدام الرموز في المؤامرة علينا !!
سوف أضئ كلامي هذا من الأمام ، ومن الخلف ، ومن التراث ،،
كان العرب قديماً يتباهون بالغارة الصباحية ، بوصفها الدليل علي القوة واستيعاب الثغرات ، وما من شاعر مدح ملكاً من ملوك ذلك الزمن إلا ووصف جيشه بالغارة صبحاً ، وتسللت هذه المقاربة إلي القرآن أيضاً ، وعدها تقليداً مقدساً يستحق القسم به :
والعاديات ضبحاً ، فالمغيرات صبحا ..
وإنهم وصلوا إلي هذه المرحلة لكن ، بلهجة هذا الزمان ، وأصبحوا لثقتهم في تفوقهم وإحساسهم الباهظ به ينذرون قبل الغارة مراراً وتكراراً !!
تلح علي ذهني الآن ، بمناسبة الشكوك في ضلوع “الأخت فاهيتا” في المؤامرة علي مصر ، نكتة رائجة :
رجل من المواطنين الشرفاء ، قال لصديقه :
– أنا شاكك إن مراتي بتخوني مع المعلم “مطاوع” الفرارجي
الصديق :
– ليه ؟ مسكت عليها حاجة ؟
المواطن الشريف :
– امبارح بالليل بصيت تحت السرير ، لقيت ريش
الصديق :
– يا راجل اتقي الله في الولية ، تتهمها بالخيانة عشان بصيت تحت السرير لقيت ريش ؟!!
المواطن الشريف في تأثر :
– أصل لما شلت الريش لقيت المعلم “مطاوع” مستخبي تحت السرير !!
ليت النظام يعلم قبل فوات الأوان أن مصر حبلي ، وأنها بالضرورة سوف تضع وليدها وإن احتشد الليل والملاليم ، وعليه أن يتركها تلد في هدوء ، وإلا ، سوف يسمع صرخات طلقها العالم ، ويري العالم خلاصها !!
وليت النظام يدرك قبل فوات الأوان ، وقبل أن تضيع كل خطوط الرجعة ، وقبل كل شئ ، أن العهد البائد قد تخثر إلي الأبد ، وقام الماضي بهضم عبثيته تماماً ، تماماً ..