كعادة الغرباء، قررنا، منذ الساعات الأولي، البحث عن مسكن، حتي لا نكون ضيوفاً ثقالاً، كنا حديثي السن، و كنا حديثي العهد بمدينة ” أسيوط “، و هي، لمن لا يعرف، مدينة قاسية القلب، أقسي قلباً من “القاهرة”، و بكثير !
ربما لأن معظم سكان هذه المدينة وافدون، ليس لهم جذور عائلية قديمة علي أرضها، لذلك، أصبح استغلال الغرباء هناك تقليداً شهيراً، حتي سكان قري ” أسيوط ” لا يسلمون، ككل الغرباء، من احتيالهم ..
كنا خمسة أصدقاء و أبناء عمومة في الوقت نفسه، ألقي بنا مكتب التنسيق من هدوء قريتنا النائمة في عمق ” قنا ” و معاركها الصغيرة، إلي قلب هذه المدينة الصاخبة، و فخاخها، من الدار للنار كما يقولون،
كان يحق لاثنين منا الإقامة في المدينة الجامعية، أنا أحدهم، مع ذلك، آثرنا جميعاً ألا نفترق !
بدلاً من النزول في ” لوكاندة “، و نزولاً علي وصايا أهلنا العصبية، نزلنا ضيوفاً علي أبناء عمومة لنا، أكبر منا سناً، لذلك، انخرطوا قبلنا في المرحلة الجامعية، و فهموا حالة ” أسيوط ” قبلنا، و استوعبوا أساليب أهلها، ربما لذلك، علي الرغم من شهرتهم في قريتنا بالهدوء و حسن الخلق، فوجئنا بهم في هذه المدينة غيرهم، لقد كانوا في احتشاد دائم للدخول في معركة !
في مساء اليوم التالي، بعد أن رجع كل منا من زيارته الأولي إلي كليته، اقتادونا، كصغار الماعز، إلي محل ” عم مصطفي” المكوجي، السمسار الذي سوف يجد لنا مسكناً، كان رجلاً قصير القامة و طيباً و أليفاً، و في ما بدا أنها عادته مع كل الغرباء الوافدين حديثاً، حذرنا من الوقوع في مكائد ” الأسايطة “، و دفعاً لكل ريبة تطاله، قال أن أجداده من ” المنيا” !
سألنا عن قيمة الإيجار التي نستطيع الوفاء بها أول كل شهر دون تأخير، و أجبناه، فأخبرنا أن لديه ” شقة ” لائقة و هادئة في شارع ” الجمهورية “، لكنه لا يستطيع أن يصحبنا إليها في مثل هذا الوقت، فمالكة العقار امرأة مسيحية، تعيش هي و كلبها وحيدين، بعدما هاجر كل أبنائها إلي ” كندا “، و هي توصيه في كل مرة تخلو فيها ” الشقة”، و تلجأ إليه للبحث عن ساكن جديد، أو سكان جدد لها، ألا يدق بابها هو بمفرده، و لا هو و الغرباء ليلاً، و اتفقنا علي أن نلتقي أمام المحل صباح ذاك الغد !
كان البيت هادئاً فعلاً، من طابقين، لكنه قديم الطراز، ولجنا من الباب الكبير الموارب خلف ” عم مصطفي “، فاصطدمت عيوننا، لأول مرة، وراء باب ” شقة ” الطابق الأرضي المفتوح، بامرأة ترتدي قميص نوم أسود، عارية الفخذين تماماً، و الشعر الفضي المجعد أيضاً !
كانت قد تجاوزت الخمسين من عمرها منذ سنوات، بدينة بشكل لافت، مع ذلك، كانت علي وجهها مسحة من جمال قديم، لكنها، لدهشتنا، لم ترتبك لرؤيتنا، و لم تغير جلستها، كعادة نساء قريتنا عند رؤية الغرباء، إنما، فاجأت ” عم مصطفي “، و أصابعها الغليظة تتخلل فروة الكلب الأبيض الذي يقف متحفزاً إلي جوار المقعد الوثير الذي تغوص فيه، بلهجة لا تنم عن أي احترام :
– الشقة خلاص سكنت يا مصطفي !
كانت صدمة لنا لا تنسي، لقد استرحنا، منذ الدقائق الأولي، لهذا البيت، و لهذين الفخذين الممتلئين أكثر، و استطاع كل منا أن ينسج حولهما حلمه الخاص في دقائق قليلة !
طالت الصدمة أيضاً ” عم مصطفي “، ربما كان قد نسج، هو الآخر، حول عمولته الضائعة حلمه الخاص، لذلك، تحولت، و هو ينسحب، كل تعبيرات وجهه السابقة، إلي تعبير واحد لا تخطئه عين، الغيظ القاتل، لذلك، في طريق العودة، لم نصدق نميمته حول العلاقة المحرمة بين هذه المرأة و كلبها، و اعتقدنا أنه يتكلم بلسان الغيظ ..
فذلك أمر ما كنا لنتصور أبداً، في مثل ذلك العمر، أنه يحدث، علاقة بين امرأة و كلب، كيف ؟، لكننا، خجلاً من ” عم مصطفي “، استطعنا بصعوبة أن نحتجز ضحكاتنا السائلة !
بعد أن كبرتُ بما يكفي لأدرك أن عالمنا كريه، عرفت أن علاقةً بين امرأة و كلب أليفة في العالم حولنا و رائجة، أكثر من هذا، روي لي صديق أثق في روايته جداً أنه يعرف عن قرب، امرأة تسكن ” شقة ” في بناية من أرقي بنايات ” الجيزة ” تمارس الجنس مع كلبها، و تدعي ألا رجلاً اقتحم جسدها استطاع أن يصل بها إلي النشوة المطلقة كما فعل كلبها، و هي لا تري في الإفصاح عن مثل هذه العلاقة ما يدعو إلي الخجل !
الرغبات دروب ..
استطاع ” عم مصطفي ” في مساء ذلك اليوم أن يجد لنا مسكناً، و في شارع ” الجمهورية ” أيضاً، و هناك سمعت حكاية لا يزال لها صدي يثير الذعر في قلبي !
في ذلك الوقت، كنا قد استوعبنا حالة ” أسيوط ” كأنما ولدنا فيها، و تبخرت المخاوف، وبرأنا من أمراض الدهشة الأولي، و أصبح لنا صداقات جديدة، وجيران جدد يتكلمون بلهجات بلدانهم، و يبادرون لنصرتنا إذا دعوناهم إلي معركة في أي وقت، و كل وقت، و أصبح لنا رواة جدد لحكايات جديدة أيضاً !
لا أعتقد أن أحداً في العالم لم يسمع حكاية واحدة علي الأقل، بطلها شبح أو عفريت أو جنيٌّ، تزداد حدة هذه الحكايات الأسطورية في أوساط أصحاب الحد الأدني عادة، لذلك، كان الريف، كما الصحراء، هما المصدرين الثريين لتربية الأساطير ..
و في قريتي، تكاد الحكايات الأسطورية أن تكون الشريعة المحلية، في المساء خاصة، تستطيل الحكايات في مجتمعات الساهرين، لا تخشي ضغط الزمن، كأنه بلا قيمة، الجد ” فرج الله ” صارع العفريت و غلبه، و الخالة ” نجية ” سلبت عقلها الجنية، و العم ” جمعة ” رفض أن يسكن مع الجنية التي عشقته تحت الأرض، و لكل واحد من أهل ” الدومة ” حكايته الخاصة مع شبحه الخاص !
مثل هذه الحكايات يتبخر أثرها عادة بعد أن يتجاوز أحدنا الطفولة، لأنها حكايات جافة لا يقوم عليها دليل، كما أن تفاصيلها تكاد تكون متطابقة، و مستهلكة ..
مع ذلك، في ” الدومة” أيضاً، هناك حكايات نابضة، بمقدورها أن تثير رعب الإنسان فعلاً !
مؤخراً، قيل أن إحدي نساء قريتي، استيقظت، كعادة النساء في القري، قبل الفجر بقليل، فرأت، و هي في الطريق إلي دورة المياه، امرأة ترتدي ثوباً أحمر اللون، تقف في المطبخ تطهو، تسمرت رجليها مأخوذة، و نظرت إليها المرأة الشبح و هي تبتسم، ثم، فجأة، أطلقت ضحكة مدوية، فسقطت المسكينة علي الأرض مغشياً عليها، و لسوء الحظ، لم ينتبه إليها أحد قبل زحف الشمس علي جدران المنزل، بعد ذلك، ظلت هذه المرأة، لشهور طويلة، طريحة الفراش،
قالوا فيما بعد، أن ” أنبوبة البوتاجاز”، قبل أن يعاد إصلاحها و استخدامها مجدداً، انفجرت حتماً من قبل في أحد البيوت، و التهمت النار هذه المرأة / الشبح !
و في مدينة ” أسيوط “، عجوز قبطيٌّ يعمل حارساً بأحد الفنادق، و يبدو أن ذلك العجوز كان يرغب في استقطابي إلي المسيحية، لذلك، روي لي أنه، قبل دخوله أحد المستشفيات لإجراء جراحة، طلب من ” العذراء ” أن تشفيه، فظهرت له قبل دقائق من إجراء الجراحة في زي ممرضة !
و في مدينة ” أسيوط “، و في شارع ” الجمهورية “، قالوا لنا أن طالباً بكلية الطب من ” سوهاج “، كان يسكن، منذ سنتين فقط، في البناية المواجهة للبناية التي نسكن إحدي ” الشقق ” فيها، أصيب بالجنون، و هو الآن نزيل في ” مستشفي الأمراض العقلية ” !
و قالوا، لقد رآها أول مرة في أحد مدرجات كلية العلوم، كان في زيارة لأحد الطلاب من أقربائه هناك، فوقع أسير العشق، و ارتأي فيها، منذ اللحظة الأولي، زوجته المستقبلية، لقد كانت فاتنة جداً، و تعارفا ..
و كعادة المبتدئين في الحب، كانا يلتقيان كل يوم تحت ظلال موسيقي كونية مجهولة المصدر و قصائد ” نزار قباني “، و أصبح أهم طقوسه قبل النوم أن يكتب لها رسالة غرامية ..
و هو، لأنه كان قد اتخذ قراراً داخلياً بالارتباط بها، كان يتكتم تفاصيل تلك العلاقة ..
فيما بعد، قال القلائل .. القلائل جداً، أنهم رأوها معه أكثر من مرة، يتجولان معاً في أحد الشوارع الرئيسية، أو يجلسان في ركن قصي في ” حديقة الفردوس ” أو في ” السينما الشتوي “، و كانوا يتسائلون كالمأخوذين، كيف لم ينتبه أبداً إلي تلك السيولة في نظراتها الحادة، و لا إلي ذلك البريق الذي يثقب القلب في عينيها البنيتين ؟!
حتي جاء يوم، و قالت له و هي تبكي بعيون حقيقية أن شاباً من أقاربها تقدم لخطبتها، و أبوها يميل إلي القبول !
قالوا، هو لم ينم تلك الليلة، و لم يبدل ثياب النهار، و ظل يبكي بكاءاً عصبياً، نظراته أيضاً كانت عصبية، و قرر الذهاب إلي أبيها بمجرد أن تفقد النجوم وضوحها، و هذا تماماً ما قد حدث !
أهل ” المنيا ” طيبون، و أهل مدينة ” سمالوط “، ككل أهل الجنوب، لا يتركون الغريب إلا علي باب البيت الذي يسأل عنه، يبدأ الموكب عادة بفرد أو فردين، ثم يتزاحم الأطفال حول حوافه، و تلتف حوله عيون النساء المتشحات بالسواد من وراء طرحهن السوداء، فيترهل الموكب سريعاً و يصبح حدثاً تلوكه الألسنة !
و كعادة أهل الجنوب، استقبله صاحب البيت مرحباً، و اختبر معه كل ألوان الكرم، و طالت الجلسة، لا هو يفصح عن نفسه، و لا صاحب البيت يسأل، حتي جاءت اللحظة الحاسمة، لقد قال في شجاعة المخمور أنه جاء لخطبة ابنته ” داليا “، و أنه يعرف أن شخصاً سبقه إلي هذا الطلب، هو خيرٌ منه علي كل حال، علي الأقل، سيصبح بعد سنتين أو ثلاث طبيباً !
بهت صاحب البيت، شهق من الدهشة، و راح ينظر إلي ذلك الغريب بريبة، لقد أيقظ أحزاناً نائمة، و لمس ندوباً في قلبه قديمة، الماضي، تلك الجثة الأمينة، يتذكر الآن أكثر من أي وقت مضي أنه ارتكب أكبر أخطائه علي الإطلاق حين أكره ابنته ” داليا “، أجمل عذاري المركز، علي الزواج من شخص لا تحبه، و حين كان يظن أنها قد استسلمت في النهاية، أشعلت النار في جسدها، و احترقت حتي عظامها، تفحمت !
انتاب صاحب البيت شعور بالخوف من ضيفه، لذلك، أرسل أحد أطفاله لاستدعاء بعض رجال القرية،
ثم بطريقة أو بأخري، عرف الضيف أن ” داليا ” التي وقع أسير هواها، و جاء لخطبتها، التهمتها النار منذ سنين، حينئذ، جفت كل الحروف في فمه لساعات، و اختلت كل ايقاعات أعصابه تماماً، و حلق الصمت فوق الحاضرين جميعاً، و للصمت موسيقاه أيضاً، حتي كسرت الصمت صرخة مذعورة أطلقها الضيف، خرج علي إثرها يركض في ليل القرية مذعوراً، و ركض الرجال يطاردونه حتي أمسكوا به، هنا، هنا تحديداً، كان الحاجز بين الوعي و اللا وعي في عقله قد انهار تماماً، لقد أصبح تلك اللحظة بالفعل مجنوناً كاملاً !
قالوا، أنه، وهو بين أيدي الرجال الذين نجحوا بصعوبة في السيطرة علي حركاته، كان يحدق النظر في وجه امرأة علي حافة الموكب تبكي، و هو يبتسم، و يردد اسم ” داليا “..
الآن، أظن أني نضجت بالقدر الذي يكفي ليلهمني التمييز بين المزيف و الحقيقي، لذلك، أكاد أجزم أن هذه الحكاية التي كانت تثير ذعري لشهور طويلة، كنت خلالها لا أستطيع النوم وحدي في الظلام، حكاية مزيفة، و عليه، فإن طالب الطب ذاك، لابد أنه كان وقتها في بداية الجنون، وكان الحاجز بين الوعي و اللا وعي في عقله قد بدأ يتخلخل فعلاً، و أنه، لابد، قبل ذلك الوقت، سمع، بطريقة أو بأخري، مأساة ” داليا ” الحقيقية، بكل تفاضيلها، و ما أكثر طلاب ” المنيا ” في جامعات ” أسيوط “، لكنه، تفاعل معها بطريقة المشرفين علي جنون أكيد !
إذا صح هذا الاعتقاد فهو يواجه ثغرة، أولئك الذين قالوا أنهم رأوها معه أكثر من مرة، و تحدثوا بذعر عن سيولة نظراتها و بريق عينيها الذي يثقب القلوب، و هذه ثغرة يمكن سدها ببساطة، لقد كانوا يكذبون بالتأكيد، يضحون بالحقيقة في سبيل الفوز بدور ثانويٍّ علي هامش الحكاية، و ما أكثر الذين ينشطون، أو يتظاهرون بالنشاط في مثل هذه الظروف !
أياً كان الأمر، لقد كانت هذه الحكاية من أغرب ما سمعت ..
تم الاطلاع
المغترب® … سابقاً … من دمشق.