” سلمني الخفين ، وقال : احفظهما لي ، وبحق بتاح ، لقد انسل بالليل إلي الشمال ، ما معني ذهابه إلي الشمال من أجل اليوبيل ؟ “
هذه رسالة بعث بها أحد عمال المقابر الفرعونية في ” الأقصر ” إلي أمه ، يشكو لها فيها من سخافة حارس المقبرة ، كان ذلك الحارس قد استودعه حذائه وسافر إلي الدلتا ، شمال مصر ، لحضور مهرجان ” تجديد شباب الفرعون رمسيس الثاني”!
هناك بالتأكيد لذهاب الحارس معني ، هو فقط يعرف ، عندما انسل بالليل إلي الشمال ، ما كان يدور وراء كواليس عقله ، لكن العامل الرقيق ، كان ينظر إلي ذهابه من زاويته الخاصة ، و يفكر فيه علي ضوء اهتماماته هو الشخصية ..
و إن تهافت الجنوبيين المعاصرين علي الذهاب الموسميِّ إلي يوبيلات الدلتا الصوفية ، تكريماً لذكري ميلاد السيد ” أحمد البدوي ” ، مرتين في العام أحياناً ، و ميلاد السيد ” إبراهيم الدسوقي ” ، و أساليبهم في الحديث بعد العودة من هناك عن ألوان الطعام ، و ألوان البهجة ، و الأهم ، ألوان نساء الدلتا و جمالهن الأخاذ – بالنسبة إلي نساء الجنوب طبعاً – ، وعطورهنَّ الجارحة ، وسهولتهنَّ ، وهي لا تعني بالضرورة انحلالهنَّ بقدر ما تعني ثقافتهنَّ المنفتحة علي تبادل أطراف الحديث مع الغرباء ببساطة ، كل هذا يدفعني إلي الظنِّ المستدير بأن البواعث وراء الكواليس واحدة !
و للسيد ” أحمد البدوي ” ، بشكل خاص ، حضور فادح في ذاكرة كل أهل الجنوب ، و كل أهل ” الدومة ” بشكل أكثر عمقاً ، ربما ، أو بالتأكيد الزائد عن الحد ، سبب هذا الحضور يعود بالأساس لشقيقين من أهل ” الدومة ” ، و من ” محاسيبه ” في الوقت نفسه ، هما الأخوان ” أحمد و محمد أبو شومان ” ، و لتلك ” الحضرة الشومانية ” التي كانا يقيمانها في مناسبات ” الدومة ” البسيطة ، كختان الأطفال ، أو العثور علي شئ ضائع ، و لمجرد الوفاء بالنذر أحياناً ، وتقرباً إلي الله في أغلب الأحيان ..
و حتي كتابة هذا الكلام ، لا يزال الريش يتطاير من جيوب الذاكرة الكلية للـ ” الدومة ” ، فينساب في سطحها شلالٌ من العصافير لا يصدأ ، ولا يواجه إلغائه ، تكريماً لذكري هذين المرحومين ..
كتبت عنهما من قبل ، و ربما ، لإفلاس العقل ، أو لضمور الرغبة في الكتابة ، سأستعير أصابعي القديمة ، و أكرر :
يدق الأخوان ” أحمد و محمد أبو شومان ” طبلتيهما علي نحو مذعور ، لكنه حميم ، قبل سلة من الأمتار من ساحة البيت الذي استدعاهما صاحبه لإقامة الحضرة ، وهذا وحده ، في قرية من قري ثمانينيات القرن الماضي لا تعرف إلا الخواء الروحيِّ ، كان حدثاً يستحق أن تستقبل النساء وفادتهما بالزغاريد العصبية ، و تستخف بعضَ الصغار نارُ المرح الداخلي فينزعون ثيابهم ، و يصير الصخبُ ممتلئاً حتي كأنه الهدوء ، يندمج مع الهمس و الأسرار الخفية و أصداء البيوت و حفيف الأشجار في الحقول و نقيق الضفادع و خفقات أجنحة الفراشات الساهرة في ليل ” الدومة ” و انتفاضات البهائم في الحظائر تنفض الغبار و الحشرات عن جلودها ، فيشتعل الليل مثل فضيحة ، أتذكر كل هذا فينتابني الاحساس بالخجل ، و أتسائل : كيف من أجل طقس بسيط كهذا الطقس ، مجرد رجلين يدقان طبلتين ، كانت ” الدومة ” تقيم الدنيا و لا تقعدها ؟ ..
يدق الأخوان لدقيقتين طبلتيهما و قلبي ، واقفين في صدر المكان و قلبي ، ثم تهبط حدة الإيقاع تدريجياً حتي يتفتت تدريجياً إلي شكوك خافتة ، تتابع خفوتها ، ثم ، فجأة ، تتلاشي ، لتتماسك من جديد عقب انتهاء طقوس العشاء ، و تنتظم حلقات الذكر ، انتظاماً ركيكاً في البداية ، لا يلبث أن يحتشد ، و تتحول الأجساد إلي جُمَل ٍ روحية ، و يحدث دائماً ، عندما يتأكد العم ” محمد أبو شومان ” من إمساكه التام بأزمة الرجال المترنحين علي الحافة الغامضة ، و في لحظة معايرة بعناية خاصة ، أن يبدأ في ترديد العديد من الحكايات الأسطورية عن السيد ” أحمد البدوي ” الذي .. ( أبو بطن واسعة ) ، و الذي شرب ماء البحر برشفة واحدة ليعيد طفلاً غريقاً إلي أمه ، و الذي .. كان المريدون يلتقطون بيض ” طيور الفردوس ” من صومعته ، و هنا ، لكي لا أشارك في تزييف التاريخ ، يجب أن أؤكد أن العم ” محمد ” لم يقل لنا و للتاريخ ، هل كان ذلك البيض نيئاً أم مسلوقاً أم مشوياً في نار جهنم ، أو لم أفهم علي أية حال ، و لكن ذكري مشابهة ، ” و هزي إليك بجذع النخلة ” ، تدفعني إلي الاعتقاد بأنه كان نيئاً ، ليدرك الذين يفضلونه مسلوقاً أو مشوياً قيمة العمل ! ..
و تعبر الأساطير تباعاً من نفس ٍ إلي نفس ، خلال الفجوات الذهنية ، و تحت درع ثقيل من الاعوجاج الفكري ، دون عائق ، بل والإيمان الطليق في صحتها ، أو هكذا يظن الحمقي ، هم أكثر خبثاً بالتأكيد الزائد عن الحد ، و هم لا يصدقون إلا ما يرون و يلمسون ، لقد اتخذوا من التعايش السلميِّ مع كل المعتقدات درعاً يحرسون به بقاءهم ، و هذا يقودني إلي حكاية طريفة ، ورائجة ، للعم ” محمد أبو شومان ” ، تعكس المشهد كاملاً ، وتشوهه تماماً كمشهد مرتجل ..
كان العم ” محمد ” ذات ليلةٍ شديدة العصافير مستغرقاً في حالته تماماً ، و كان يردد ، بنغم سكَّري :
– ساكن ” طنطا ” ، وفـ ” مكة ” صلاااااتو !
و حدث أن اقتحمت حالته ، فجأة ، زوجته ، الخالة ” صِدِّيقة ” ، مذعورة ، و ألقت عليه نبأ شجار عائليٍّ كان لا يزال نشطاً حول بيوتهم ، و أضافت بلهجة تنم عن رعب حقيقي ، أن العم ” حلاتو ” كان في زيارة لأصهاره في ” الدومة ” ، و تدخَّل كطرفٍ أصيل في المعركة ، ضدهم ، عندئذ ، تحلل تعبير الرضا علي وجهه إلي غضب عارم ، و يبدو أنه لم يتمكن من الانسحاب من حالته في الوقت المناسب ، و ربما كان الغيظ ، و ربما كان الذعر من تهور العمِّ ” حلاتو ” الشهير ، هو ما جعله يصعد بالإيقاع إلي ذروة العنف ، واستأنف الإنشاد بشكل مروع ، وهو يتساءل ، بنغم عدائي :
– و ايش دخَّلو فيها حلااااااتو ؟!
تعليق حقيقيٌّ ، بشكل متعصب علي أفكارنا السابقة عن الزنادقة ، وخبث الزنادقة حيال الحياة ..
و أنا لست هنا لأحمي روح المرحومين ” محمد و أحمد أبو شومان ” ، فقد كبر ذاك الطفل الذي كانوا يتوقعون منه الطاعة ، بل الصمت ، و هو هنا ليحطم عن عمد ، و ليرسم بالكتابة الوجه الآخر للسيد ” أحمد البدوي ” من منظور تاريخي لا من منظور تاريخ الأدب الشعبي في مصر ، و هذا لا يمنع أن للشقيقين ” أبو شومان ” لديَّ أثراً يستحق التقدير ..
” البساط أحمدي ” ، هذا التعبير الشعبي الدارج هو مفتاح باب شخصية ” أحمد البدوي ” ، و لتنمية هذا التعبير تحديداً جاء الرجل إلي مصر في توقيت معتني به تماماً ..
هو ، ” أحمد بن علي بن يحيى ” ، ولد بمدينة ” فاس ” المغربية عام ” 596 “هـ ، و توفي بمدينة ” طنطا ” المصرية عام ” 675 ” هـ ، و هو ثالث أقطاب الولاية الأربعة لدى ( المتصوفين ) ، و راية طريقته حمراء ، لُقب بـ ” البدوي ” لأنه كان كعادة البدو يستر وجهه باللثام ، لُقِّب أيضاً ، للسبب نفسه ، بـ ” شيخ العرب ” ، كما لقب بـ ” السطوحي ” لأنه كان يعيش علي سطح دار الشيخ ” ركن الدين ” بمدينة ” طندتا ” ، و هي ” طنطا ” الحالية ، و عاصر من الحكام بـ” مصر ” ، ” الملك الكامل ” ، و ” الملك العادل ” ، و ” الملك الصالح أيوب ” و ابنه ” توران شاه ” ، و ” شجر الدر ” ، و ” المعز أيبك ” و ابنه ” المنصور ” ، و ” السلطان قطز ” ، و ” الظاهر بيبرس ” ، و هذا معروف !
ما ليس معروفاً هو لماذا أتي إلي مصر في ذلك التوقيت المعتني به تماماً ، و لماذا بعد موت ” صلاح الدين الأيوبي ” مباشرة ؟
لقد جاء الرجل ليحطم عن عمد ، و لقد كان ضالعاً في خطة شيعية متعددة الأبعاد لاستعادة ” مصر ” إلي النطاق الشيعيِّ الذي أخرجها منه ” صلاح الدين ” بانتصاره علي الدولة الفاطمية ، و لقد صُمِّمت هذه الخطة في ” العراق ” ..
من الثابت أنه حدث فى سنة “634 هـ ” أن سافر ” البدوى” بصحبة أخيه الأكبر ” حسن ” إلى ” العراق ” ، و كانت في ذلك الوقت المركز الأكثر نشاطاً بين مراكز التصوف الشيعى الذى وُلِدَ في ” العراق ” علي يد ” معروف الكرخي ” مولي ” على بن موسى الرضى ” الذى كان أكبر شحصية شيعية فى عهد الخليفة ” المأمون ” ، و ” الكرخى ” كان نصرانياً ثم أسلم ، و لعل أصداء الرهبنة في تكوينه كمسيحي هي التي حرَّضت عقله علي النزوع إلي التصوف , ثم انتقل التصوف إلي ” المغرب ” فاتخذ أبعاداً أخري ، و استرده إلي ” العراق ” بحلته الجديدة وطور قواعده السيد ” أحمد الرفاعى ” ، و من هناك ، انتقل إلي ” مصر ” بواسطة ” أبو الفتح الواسطى ” ، و من بعده السيد ” أحمد البدوى ” و” ابراهيم الدسوقى ” ، و هذا حفيد ” أبو الفتح الواسطى ” و ” أبو الحسن الشاذلى ” , و كل هؤلاء كان يعمل سراً لإسقاط الخلافة العباسية عن طريق استقطاب العامة إلي دين جديد ، جديد بكل معني الكلمة ، دين المتعة المجانية !
و هناك ، في ” العراق ” ، تم إعداد ” البدوي ” للقيام بمهمته الإلهية هذه علي يد ” ابن عرب ” ، أكثر الحافظين لتعاليم ” أحمد الرفاعي ” في عصره !
و هناك أيضاً ، زار السيد ” أحمد البدوي ” قبر ” الحلاج ” ، و ” الحلاج ” حقيقيٌّ و أحد الذين حلقوا في المطلق بأجنحة صحيحة و بلغوا الأعتاب ، تماماً ، كـ ” محيي الدين بن عربي ” ، و هو مغربيٌّ آخر كان معاصراً للسيد ” البدوي ” ، و هذين لا يتضمنهما حديثي عن ” البدوي ” ، فإن فارقاً رحباً بين شخص يتكلم عن المطلق من داخل مذهب ، و بين من بلغ المطلق بمذهبه الخاص !
و الحانقون علي الشيعة يضغطون بقوة علي الجذور المسيحية لـ ” معروف الكرخي ” ، و من جانبي ، أقول :
بتحديق النظر في التشيع كمذهب ندرك علي الفور أنه كان الجرح التاريخي الذي تناسل في دمه اليهود المتحولون إلي الإسلام في كل زمان و مكان ، فرائد هذا المذهب هو ” عبد الله بن سبأ ” ، يهودي أسلم ، أو لعله ادعي الإسلام ، وصاحب فكرة إنشاء ” الأزهر ” لتدريس المذهب الشيعيِّ يهودي آخر أسلم أو ادعي الإسلام ، و هو ” يعقوب بن كلِّس ” ، و مؤسس فرقة ” الشيعة الإسماعيلية ” هو ” ميمون بن قداح الديصانى ” ، يهودي ثالث ، كما أكد ” السيوطي ” ، كان له الأثر الجلل في عرقلة مسيرة الإسلام ربما إلي الأبد ، فمن رحم هذه الفرقة ، فرقة ” الشيعة الإسماعيلية ” ، ولدت ، بالتفاعل ، عدة مجتمعات بعضها انكمش و ذاب في طيات الزمن ، و بعضها ما زال حياً ، كلها تنظر إلي الإسلام في أضواء خاصة بها ، مثل ، ” القرامطة ” الذين سرقوا ” الحجر الأسود ” و نقلوه إلي ” البحرين ” ، و ” الحشاشين ” في جبل ” لبنان ” ، رواد الاغتيالات السياسية في العالم ، و ” اخوان الصفا ” وهؤلاء إلي الماسونية أقرب ، و ” الدروز ” في ” لبنان ” و ” سوريا ” و ” اسرائيل ” ، و ” البهائيين ” ، و ” الأغاخانية ” ، و ” القاديانيين ” ، و ” النصيريين ” و إلي هؤلاء ينتسب ” بشار الأسد ” ، و ” العبيديين ” ، و هم ” الفاطميون ” ، و إلي هؤلاء ينتسب السيد ” أحمد البدوي ” ، و هنا ، يتضح أنه لا وجود لشئ اسمه الماضي ، و أن الزمن وحدة واحدة حبلي بالماضي و الحاضر و المستقبل أيضاً ..
أياً كان الأمر ، أستأنف :
بعناية تستحق التقدير ، اختار العلويون الشيعة السيد ” البدوي ” لهذه المهمة عقب إعدام رجلهم في ” مصر ” الفقيه الشاعر ” أبي عمارة اليمنى ” و أتباعه عام ” 569 هـ ” بعد اكتشاف مؤامرتهم ضد ” صلاح الدين الأيوبى ” ، و بعد موت داعيتهم ” أبو الفتح الواسطى” قبل ذلك بعقود ، و كان ” عز الدين الصياد ” أحد أهم تلاميذ السيد ” أحمد الرفاعى ” ، قد سبق ” البدوي ” إلي مصر بعام واحد لاختيار المكان الذى سيبدأ ” البدوى ” منه نشر دعوته ، و أشهد أنه أحسن الاختيار ، و لهذا السبب اتجه البدوى من ” مكة ” الى ” طنطا ” مباشرة ، و قد سبقت مجئ ” البدوي ” حملة إعلامية منقطعة النظير لتضخيم ” كراماته ” ، ترهلت هذه الحملة من المبالغة إلي الإحالة الصريحة دون خجل ، فقد ادَّعي بعض المروجون للرجل أن من بين ” كراماته ” أنه يحيي الموتي !
برغم كل ذلك ، منيت الخطة في النهاية بالفشل ، و لعل الشيعة قد استشعروا نذر فشلها ، لذلك ، بدأوا في اختبار خطط نائمة و أقل حرصاً لإسقاط الدولة ، مثلما فعل ” ابن العلقمي ” ، وزير الخليفة العباسي ، إذ راسل ” المغول ” سراً و تآمر معهم علي الخلافة ، وهذه رواية تاريخية لا تقبل الجدل ولا القسمة علي اثنين ..
نعم ، لقد فشل السيد ” أحمد البدوي ” في أن يستعيد دولة الفاطميين ، لصلابة عضلات الدولة المملوكية ، خاصة في عهد ” الظاهر بيبرس ” ، و هو العهد الموازي لأوج شهرة ” البدوي ” و جسامة أعداد الملتفين حوله ، لكنه ، نجح ، بالتأكيد الزائد عن الحد ، في أن يصنع ديناً موازياً للإسلام ، أصبح هذا الدين ، حتي في زمن ” البدوي ” ديناً داخل الدين وخارج سيطرة نواهيه تماماً ، كما أصبح هذا الدين ، و حتي يومنا هذا ، وهذا هو المهم ، هو الدين الشعبي في ” مصر ” ، لمرونته ، يتزاحم حوله العامة و المنحطون فكرياً و المدفوعون بالأطماع و الباحثون عن ألوان المتعة ، ليصبحوا دولة داخل الدولة ، لكن ، و هذا موطن الأسف ، داخل سيطرة الحكام في كل زمان ، بل أداة سهلة التوجيه من أدواتهم التي يدخرونها لوقت الحاجة..
لتعرف كيف حدث هذا ، لابد أن تعرف أولا أن ( مليونين ) من أصحاب الحد الأدني من المصريين و غيرهم يزورون ضريح ” البدوي ” في الأسبوع الواحد ، و لابد أن تعرف أيضاً ، أن ” الطريقة الأحمدية ” بعد موت ” أحمد البدوي ” تمددت في عدة طرق ، مثل ، ” الشناوية الأحمدية ” ، ” المرازقة ” ، ” الشعيبية ” ، ” الزاهدية ” ، ” الجوهرية ” ، ” الفرغلية ” ، ” الإمبابية ” ، ” البيومية ” ، ” السطوحية ” ، ” الحمودية ” ، ” التسقيانية ” ، ” الكناسية ” ، ” المنايفة ” ، ” الجعفرية الأحمدية المحمدية ” ، ” الجريرية ” ، و لكل طريقة من هذه الطرق ” شيخ طريقة ” يبايعه علي الولاء المطلق آلاف ينتشرون في كل شبر من أرض ” مصر ” ، لذلك ، لم يكن علي السلطة ، لتضمن ولاء كل هؤلاء ، سوي استمالة شيخهم فقط ، و هذا سهل كالماء ، فهؤلاء مشهورون باستعدادهم المطلق للتضحية حتي بأعراضهم مقابل دعوة علي وجبة من الفتة و اللحم السمين ..
و هؤلاء ، عائق جلل في طريق أي تغيير يحدث في ” مصر ” ، و أشد فداحة من المجالس المحلية ، و بكثير ، بل إن كثيرين من ” العمد ” و ” مشايخ ” القري من بين محاسيبهم ، لذلك ، يجب علي أول حاكم منتخب بعد الثورة القادمة ، لا محالة قادمة ، أن يكون قراره الأول هو حل هذه الطرق و تجريم المنخرطين فيها من قريب أو بعيد ، و إلا ، فاحتمال الثورة المضادة سيظل نشيطاً علي الدوام ، لتتأكد من هذا ، اقرأ سيرة من شئت من مشايخ الطرق الصوفية ، في أي عصر شئت ، سوف تكتشف منذ السطور الأولي أن هؤلاء كانوا و ما زالوا و سوف يكونون ، طفيليات تنمو بصوت مسموع حول شرج كل صاحب سلطة ، أو ، يكفيك ، مؤقتاً ، أن تحدق النظر في مشاهير هؤلاء أين يقفون الآن ، و في خندق من كانوا يقفون أيام ” يناير ” ، و قبلها ، و علي مر السنين !..
ربما ، لهذا السبب وحده ، استراح كل الحكام ، و لا أستثني أحداً ، في كل العصور ، إلي وجود هذه الميليشيات الروحية علي هامش البلاط ، و أدركوا مدي قوة الدولة العميقة لهؤلاء الطفيليات الضارة ، كما أدركوا ، كذلك ، أنهم يستطيعون متي شاءوا إحداث خسائر فادحة لمن يحاول الوقوف بينهم و بين ألوان المتعة المجانية المتعارف عليها ، تماماً ، كما حدث في عام ” 721 هـ ” في عهد ” الناصر محمد بن قلاوون ” !
ذلك السلطان المسكين ، استهان بقوة هؤلاء الفاحشة ، و أراد تعطيل الاحتفال بمولد ” البدوي ” دون أن يدور بباله أن الرد سيكون بتلك البشاعة ، بل بذلك التهديد الصريح لدولته من جذورها ، لقد دبر أحد المتصوفة ، و هو ” عبد الغفار بن نوح ” – كأن اسم ” عبد الغفار ” في مصر قديم إلي هذا الحد – ، و هو تلميذ ” أبي العباس الملثم ” مريد ” البدوي ” و رفيقه ، دبر ، احراق جميع الكنائس في أنحاء ” مصر ” بطريقة واحدة و توقيت واحد ، إذ أحرقت كلها في وقت صلاة الجمعة ، و من جراء ذلك ، كادت تشتعل في البلاد فتنة طائفية عارمة !
المدهش ، أن عدد الكنائس التي احترقت في ذلك الوقت كان ” 60 ” كنيسة ، نفس عدد الكنائس التي قيل أنها احترقت يوم مجزرة ” رابعة العدوية ” بالضبط ، ” 60 ” كنيسة ، و هذا يدفعني إلي الظن في أن هؤلاء المتصوفة يقفون وراء هذه الجريمة الأخيرة أيضاً لا الإخوان ، فهذا أسلوبهم القديم ، و تطابق العدد قرينة تستحق الاعتبار ..
و لهذا السبب الأخير أيضاً ، عملت كل الأنظمة علي تضخيم قيمة هؤلاء الأكياس البشرية المملوءة بروث البهائم و التودد إليهم ، و تشجيع نسج الأساطير حول ” كرامات ” أهل المدد ، و تكريس جهود الدولة لحراسة كرنفالات الجنس الجماعي التي تقام حول الأضرحة المسكونة بالأوهام ..
كيف كانت السلطة تشجع الخرافة ؟ ، إليك هذه القصة ..
ذات يوم من أيام العام ” 1735 م ” انتشرت في ” مصر ” من أقصاها إلي أقصاها شائعة بأن يوم البعث سيكون يوم الجمعة الموافق لـ ” 26 ” من شهر ذي الحجة ، و راح الناس يودع بعضهم بعضاً الوداع الأخير ، و يهيمون علي وجوههم في الحقول و الطرقات ، و انقضي ذلك اليوم و لم تقم الساعة و الناس مازالوا أحياء يرزقون ، هنا ، تدخلت السلطة بشائعة أخري ، و هي أن السيد ” أحمد البدوي ” و السيد ” ابراهيم الدسوقي ” و ” الإمام الشافعي ” تشفعوا للناس عند الله أن يؤجل لهم قيام القيامة ، فقبل شفاعتهم ، و لعل الشائعة الأخيرة هي ذريعة إطلاق الشائعة الأولي لا العكس !
لكن ، لماذا احتشد الناس للالتفاف حول دين هؤلاء ؟ ، هذا سؤال غير متطلب أبداً ..
لقد كان السيد ” البدوي ” ، و دعاة الشيعة عامة ، أكثر واقعية من غيرهم ، إذ أدركوا أن أيسر الممرات لاستقطاب الناس إلي دعوتهم هو إضفاء ظل من المتعة علي الدين ، أو لأكون أكثر دقة ، إضفاء ظل من الدين علي المتعة الصريحة بشتي بصورها ، الطعام و الجنس خاصة ، لذلك ، كانوا يغضون البصر عن كثير من التجاوزات التي تتنافي مع تعاليم الدين الإسلامي ، هذا جعل ” الجبرتي ” يقول عن فقراء ” الطريقة الأحمدية ” :
– ” إن بعض زوار المولد كان هدفهم الفسوق ” !
و قال ” المقريزي ” في إطار حديث له عن هؤلاء :
– ” إنهم لا ينسبون إلى علم و لا ديانة و إلى الله المشتكى ” !
بل بلغ الأمر بفقراء ” الطريقة الأحمدية ” أن استباحوا لأنفسهم نهب المحال , و سرقة الناس , و أكل أموالهم بالباطل فى موسم مولد ” البدوي ” ، وبرروا هذا بأن ” الغربية ” بلاد ” البدوى ” و هم من فقرائه , فكل ما يأخذونه حلال لهم !
كما انتشر تعاطى ” الحشيش ” بينهم حتى أصبح عرفاً دارجاً في حلقاتهم ، و حتي أصبح يسمي بـ ” حشيشة الفقراء ” ، بل إن هناك طريقة صوفية تتخذ من تعاطي ” الحشيش ” محوراً لها تسمي بـ ” الأنفاس المحمدية ” ، و مقرها في ” القليوبية ” ، يمارس أتباعها ، ككل المتصوفين ، الزنا الجماعي , و دعواهم أن كل رجال و نساء الطريقة إخوة يحل لهم الاختلاط و النوم في فراش واحد ، و أعترف بأني ، ذات يوم ، فكرت في الانخراط في هذه الطريقة و أخذ العهد من شيخها ، و هذه حقيقة ، و أقسم بأبي علي هذا !
و أخوض في ” البدوي ” قليلاً ..
لم يكن ” البدوي ” صاحب رأي و لا صاحب حجة ، لذلك ، ادعي ” الجذب ” كوسيلة يدخرها للفرار من مناظرة قد تحدث ، و لذلك ، لم يترك لمريديه تراثاً ، إلا بعض الوصايا لتلميذه ” عبد العال ” ، و قراءة سريعة لهذه الوصايا تكفي للحكم علي أمية الرجل ، مثل :
– يا ” عبد العال ” ، إياك و حب الدنيا فإنما يفسد العمل الصالح كما يفسد الخل العسل !
– يا ” عبد العال ” أشفق على اليتيم و اكس العريان و اطعم الجيعان و أكرم الغريب و الضيفان !
يا سلام ع الحكم ، و كما ترون ، كلمات عادية لا تستحق أن تنسب حتي إلي ” نجَّار بلدي ” !
و روى ” الحافظ السخاوى ” فى كتابه ” الضوء اللامع ، أن ” ابن حيان ” زار ” البدوى ” مع الأمير ” ناصر الدين بن جنكلى ” يوم الجمعة , و كان الناس يأتونه أفواجا فمنهم من يقول : يا سيدى خاطرك مع بقرى , و منهم من يقول : زرعى , إلى أن حان وقت صلاة الجمعة , فنزلنا معه إلى الجامع بـ ” طنطا ” , و جلسنا فى انتظار الصلاة , فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة , و ضع ” أحمد ” رأسه فى طوقه بعدما قام قائماً و كشف عن عورته بحضرة الناس و بال على ثيابه و على حصير المسجد , و استمر و رأسه فى طوق ثيابه , و هو جالس حتى انقضت الصلاة و لم يصل ” !
كل هذا ، و العم ” محمد أبو شومان ” كان يقول لنا أن المريدين كانوا يلتقطون بيض طيور الفردوس من صومعته ، عم ” محمد ” ، ارقد في سلام ، عليك السلام ..