في وطن يحدق سكانه النظر في القراءة بعيون مستهترة، أو علي أوفر التقديرات حظاً، يعتبرون القراءة ترفاً، هل يجوز لي أن أستعير أصابع شاعر مثل “قيصر باييخو” في إطار الحديث عن قضية يكترث لها حتي بسطاء القوم وهو من أوفر الشعراء حظاً في التجسس علي الأصوات التي كانت تنبض في أعماقه وترجمتها علي الورق غموضاً، نعم، ترجمتها غموضاً بكل معني الكلمة؟
ربما، إلي هذا السبب وحده، تنخفض العلة التاريخية لعظمة “باييخو”، وإلي هذا السبب وحده، وبنفس القدر، أحصي الرجلَ كلُّ من لمس عالمه العميق في طليعة الشعراء الأكثر التباساً وعسراً علي الإطلاق..
فإن مما هو في حكم المؤكد ألا شاعراً خاطب المتلقي بتلك الخصوصية شاهقة الارتفاع جداً كما فعل شاعر “ألبيرو” الفادح هذا، بلغت هذه الخصوصية حداً ليس من السهل أبداً أن يستطيع المتخصصون حتي تصميم جسور تربط بين متاهات عالمه الشعري دون السقوط في حفر التأويلات المتعسفة للنص الشعري، وهذا أمر غريب يندر حدوثه..
لا يجوز هذا أعتقد، غير أنني سأفعل، أقصد، سوف أستعير أصابع هذا الشاعر العسير، بل أستعير شعره في ذروة النقطة، حين رق وصفا واستحال رموزاً مغلقة أمام الأذهان، مع ذلك، هي مرشحة لاستقطاب المتعة، تطرب لها الصدور تماماً كما تطرب الصدور لأغنية بلغة أجنبية لا نفهم معاني كلماتها لكنها توقظ أشجاناً نائمة في مناطق بكر ٍمن أعماقنا لم نكن قبل سماع تلك الأغنية ننتبه إلي وجودها أصلاً!
في أجمل دوواوينه وأشدها التصاقاً بالألم الإنساني، وأعظم ديوان مكتوب باللغة الإسبانية في زمانه وفي ما قبل زمانه، ولعله آخر دواوينه، ديوانه (اسبانيا.. ابعدي عني هذه الكأس)، يقول:
يا أطفال العالم، إذا ما سقطت “اسبانيا”، – أعني، هو خاطرٌ فحسب-، إذا ما سقطت “اسبانيا”، نازلةً من السماء، أوثقوا ساعدها، في لجامٍ، بلوحتين أرضيتين!، أيها الأطفال، أي عمر هو عمر الرؤوس الفارغة!، كم باكراً في وضح النهار ما كنت أقوله لكم!، كم قريبة في صدوركم الضوضاء العتيقة!، كم قديمة سنواتكم الاثنتين في مفكراتكم!
من الواضح جداً أنه كان أثناء الكتابة يلتقط أصواتاً من داخله ويسجلها كما هي في لحظتها الحارة المجردة، واضح أيضاً أنه كان يكتب تحت وطأة إحساس بالقلق يمزق روحه، سوف يستدير هذا الكلام في أذهاننا عندما نعلم أن توقيت كتابة هذه القصيدة هو توقيت اندلاع الحرب الأهلية في “أسبانيا”، وطنه الأم، حدث هذا في (17-يوليو – 1936)، وشغلت بال كل الناطقين بالإسبانية في جنبات العالم حتي (1-أبريل – 1939)..
كان مجموعة من العسكر بقيادة الجنرال “مولا” في الشمال، والجنرال “فرانكو” في “المغرب” والجنرال “كييبو دي يانو” في “أندلسيا” وجنرالات آخرين قد انقلبوا علي الشرعية في “مدريد”، وكان هذا كافياً لاندلاع تلك الحرب الضروس بين الجمهوريين والقوميين، ودون تفكير، انحاز “قيصر باييخو”، ككل المثقفين الجوهريين في “اسبانيا” والدول الناطقة بالإسبانية في ذلك الوقت ضد العسكر، وهذا انحياز في سياقه الطبيعيِّ بطبيعة الحال، فمتي وأين، ولا متي ولا أين، ولدت حرية من رحم دولة يحكمها عسكر؟..
يقول أيضاً:
يا أطفال العالم، أمنا “اسبانيا” وبطنها على كتفيها، معلمتنا بعصيِّها، هي الأم والمعلمة، الصليب والخشب، لأنها منحتكم الرفعة، الدوار و التقسيم و الإضافة، يا أطفال، هي مع نفسها، آباء منصفون!
إذا ما سقطت “اسبانيا”، -أقصد، هو محض خاطر- إذا ما سقطت “اسبانيا”، نازلة من الأرض، يا أطفال، كيف لكم أن تكفوا عن النمو!، كيف للسنة أن تعاقب الشهر!، كيف لن يكون أبداً أكثر من عشرة أسنان لكم!، كيف للإدغام أن يبقى في سكتة، الميدالية في دموع!، كيف سيستمر الحمَل مقيداً من ساقه إلى محبرة كبيرة!، كيف ستهبطون درجات الأبجدية نحو الحرف الذي ولد فيه الألم!
طلاسم، هذا واضح، لكن الحقيقة أن تلك الحرب كان لديها أثر كبير علي نضج تجربة هذا الشاعر الكبير، ذلك الأثر يلمع كالخنجر في كل ما نزف من شعر بعد اندلاعها، لقد توقف في الحقيقة، تعقيباً علي تلك المأساة، عن أن يكون ذلك الشاعر الذي كانه قبلها، كان قد التحم تماماً بالمطلق، وذاب فيه، فشفت روحه واحتدت بصيرته حتي أنه، وهذا ثابت، تنبأ بموته في “باريس”، بل تنبأ أن موته سيكون يوم “خميس” ممطر، وله في هذه النبوءة شعر، الغريب، أن هذا هو ما قد حدث فعلاً، وبحذافيره!!
ويستأنف طلاسمه:
يا أيها الأطفال، يا أبناء المحاربين، في هذه الأثناء، اخفضوا أصواتكم، لأن “اسبانيا” في هذه اللحظة توزعُ طاقتها على مملكة الحيوان، الزهور الصغيرة، المذنبات و الرجال..
اخفضوا أصواتكم، لأنها في عظمة شدَّتِها، لا تعرف ما هي فاعلة، و في يدها الجمجمة تتحدث وتتحدث و تتحدث، الجمجمة، بالضفيرة، الجمجمة، على قيد الحياة!
هذا كلام يصعب استيعابه علي نحو دقيق، أعرف هذا وأتعايش معه، لكن، لماذا قلتُ ما قلتُ، أو قلتُ ما قال “باييخو” علي وجه الدقة؟
الإجابة “تونس”، نعم، قلته من أجل “تونس” طبعاً، ذلك أن نذراً سوداء توحي بأن البلد الذي كان الحجر الذي بني عليه الربيع العربيُّ كل فرضياته عقب “ثورة الياسمين” هناك، الآن فقط، هناك نذر سوداء توحي بأنه مقبل علي أمر عظيم!
قد يقول قائل:
– أهل “تونس” أدري بشعابها..
هذا صحيح، لكن عذري الوحيد هو أنني حين أحاول أن أتجسس علي مخاوفي من الخطر المتربص بـ “تونس” إذا استقرت الأوضاع في الإطار الذي تفضحه الأخبار التي ترد من هناك حول ترجيح فوز مرشح حزب “نداء تونس” المحسوب علي نظام “زين العابدين بن علي” برئاسة هذا البلد، عقب فوزالحزب بأغلبية مقاعد “برلمان” هذا البلد، أقول:
إذا استقرت الأوضاع، القلقة حتي الآن، في هذا الإطار، فلابد أن يختل إيقاع التوازن الضروري بين القوي السياسية عقب الثورات علي وجه الخصوص، لابد أيضاً أن خطراً داهماً سوف يولد بين الأجنحة السياسية المتصارعة قد يعصف بالثورة من الأمام ومن الخلف ومن الجانب الآخر، بل قد يتطور الصراع في بلد داخل دائرة الفقر وملتهب الحدود مثل “تونس”، بالإضافة إلي أنه يقع تحت طائلة الكثير من المؤامرات الإقليمية في الوقت نفسه، وهذا هو الأهم، قد يتطور الصراع إلي حرب أهلية، وهذا فقط هو كل ما يعنيني..
ذلك أنه سوف يولد من سقوط “تونس”، لا قدر الله، في الحفرة التي سقط فيها من قبل كل بلدان الربيع العربي، دليل لا يقبل القسمة علي اثنين علي فشل فرضيات الثورات العربية كلها، ثم، أنا أيضاً، كالتونسيين، لدي دراية بشعاب “تونس”..
أدرك أن أداء الرئيس التونسيَّ ” المنصف المرزوقي” كان هزيلاً وضحلاً، دفع الكثيرين من التونسيين، الشباب خاصة، إلي الإحباط، وتخثرت بفضله الكثير من الأحلام البيضاء التي كانت تراودهم عقب الثورة..
أدرك أيضاً أن “جماعة الإخوان المسلمين” في نسختها التونسية، علي الرغم من كون المنتمين إليها أشد دهاءاً وأرقي فكراً وأكثر انفتاحاً من أعضاء ” جماعة الإخوان المسلمين” في “مصر”، أبداً لم يستوعبوا الحالة التونسية علي نحو صحيح، ولم يدركوا أبداً أن دغدغة مشاعر القطيع بالخطاب الديني فقط، بعد أن جرت مياه كثيرة في نهر الإنسانية، توقفت عن أن تكون كافية للعبة سياسية ناجحة..
أدرك كذلك، وهذا هو الأهم، أن المتربصين بالتجربة التونسية، للأسباب التي لمستها من قبل، كثرٌ، بل كثرٌ جداً، وهوية هؤلاء، هوية القبيلة والخيمة والوتد وحنين النوق، معروفة، معروفة جداً..
وهؤلاء ما زالوا هناك، ومن المؤسف أن أصابعهم الملطخة بالزيت بمقدورها الوصول إلي رئة تونس والعبث بأنفاسها حتي الاختناق، لهم أساليبهم أيضاً، ولهم امتداداتهم من مرضي القلوب من التونسيين، و”الموساد” لهم أيضاً، ليت التونسيين يضعون هذه الحقيقة في بالهم كجمرة في البال!
في النهاية..
ثمة سؤالٌ يتراقص علي مقدمة لساني منذ ساعات لم يجف بعد، أود، لو كان هذا بإمكاني، أن أوجهه إلي كل تونسيٍّ علي حدة:
– ما دام الأمر هكذا، أما كان من الأولي أن تدَّخروا المال الذي بذرتموه في الإنفاق علي الاستحقاقين الإنتخابيين لبناء مكتبات ومستشفيات ومدارس بعد أن تحسموا منه فقط ثمن عدة مقاعد في طائرة تقل “زين العابدين بن علي” وأفراد أسرته من “السعودية” إلي دولة ما قبل “17 – ديسمبر- 2010″؟!
رحم الله “محمد البو عزيزي”، ذلك الرجل الذي استوعب أكثر من أي شخص آخر، وعن غير عمد، نظرية الأواني المستطرقة!
علي أية حال، هناك دائماً شئ رقيق للغاية ودقيق للغاية يولد من خلال الدهشة، فلقد أكدت الحالة التونسية أن اللعبة السياسية في هذه البقعة الرديئة من العالم تعتمد علي أدوات ثابتة لا تتغير، ووفق نسب ثابتة أيضاً:
1- إعلام مضلل = 75 %
2- مال سياسي = 24 %
3- سياسة = 1 %
علي أية حال، يجب علي جميع الأطراف في “تونس” أن تذعن لما تقول الصناديق، فلا معني للحديث عن الديمقراطية إلا باحترام لهجة الصناديق، كما أن بديل عدم الإذعان هو الهاوية بكل تجلياتها وصورها، لذلك أقول:
تونس.. ابعدي عني هذه الكأس..
محمد رفعت الدومي
تأخذ تونس عنك الكأس بعدما افرغته ؟!!
لقد سقوك إياه وكل دول الربيع الغير بمبي… الى القعر حتى الثمالة ! فما فاءدة ان يبعدونه عنك فارغا انت وكل الشعب العربي هاذيا مترنحا ؟؟؟
روح خذ حمام ودوش بارد عسى ولعل تفيق .