منذ انتهاء معركة عرسال بين الجيش اللبناني من جهة وجبهة النصرة وتنظيم داعش من جهة أخرى في أغسطس 2014، وانقشاع الموقف عن وقوع نحو 27 عنصرا من عناصر الجيش اللبناني وجهازي الأمن العام والأمن الداخلي أسرى في يد هذين التنظيمين، حصلت محاولات عديدة للتوصل إلى صفقة تضمن إطلاق سراح المخطوفين العسكريين.
دور الوسيط القطري
https://www.youtube.com/watch?v=V7xtz3ie5EQ
ما من شك في أن الدور الأمني الذي لعبه مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم من موقعه الرسمي في إدارة ملفات التفاوض مع جبهة النصرة، سواء ما تعلق بمعتقلي اعزاز مرورا براهبات معلولا وصولا إلى عرسال والعسكريين، يعتبر الدور الأبرز في إطار التوصل إلى عقد هذه الصفقة وعملية التبادل، خاصة في ظل دعم رسمي وشعبي وثقة بقدرته على إدارة الملف، وقد أثبت في هذه العملية قدرته على السير بها إلى نهاياتها المرجوة في ظل التزام بالسرية التامة.
ولم يوفر إبراهيم أي جهة عربية أو إقليمية قادرة على فتح طريق التوصل إلى اتفاق، فأجرى زيارات مكوكية شملت تركيا وقطر وحتى في بعض الأحيان إيران، من أجل دفع كل الأطراف القادرة على تقديم المساعدة ولعب دور في حل أزمة العسكريين، ومن هنا يأتي دور الوسيط القطري بارزا إلى جانب إبراهيم في هذه الصفقة خاصة في اليومين الأخيرين، حيث شهدت جرود عرسال حضورا للوسيط القطري إلى جانب وجود إبراهيم فيها.
إبراهيم لعب دورا بارزا في التواصل مع الجهات المعنية بأزمة العسكريين، إن كان مع النظام السوري الذي رفض أي تعاون في البداية في ظل إحجام الدولة اللبنانية عن تلبية التواصل مع دمشق والطلب منها المساعدة في تسهيل عملية التبادل. ويبدو أن إبراهيم استطاع تجاوز هذه العقدة والتوصل إلى تفاهم مع دمشق والحصول منها على قرار إطلاق بعض الأسماء التي طالبت جبهة النصرة بإطلاق سراحهم.
دور سلبي لحزب الله
الجهود السياسية التي بذلت في البداية اصطدمت بعقبة استمرار العمليات العسكرية لحزب الله في جرود القلمون السوري مع هذين التنظيمين، وأدت في مرحلة تصاعد القتال إلى لجوء جبهة النصرة لإعدام الجندي محمد حمية، وتنظيم داعش إلى إعدام العسكريين علي البزال وعباس مدلج، في محاولة لوقف الاندفاعة العسكرية لحزب الله في القلمون.
التسوية العسكرية التي ضغطت قيادة الجيش لترسيخها في الجرود اللبنانية لبلدة عرسال، منعت حزب الله من الاستمرار في معركته، وكرست دور الدولة اللبنانية في التعامل مع موضوع انتشار هذه الجماعات داخل الأراضي اللبنانية، وبالتالي التمهيد لعملية تفاوضية بهدف إطلاق سراح العسكريين.
جنبلاط ينجح في تليين جبهة النصرة
الوضع العسكري المستجد في جرود عرسال، سمح للقوى السياسية اللبنانية، خاصة النائب وليد جنبلاط بفتح الطريق أمام تحرك جدي والدفع باتجاه تشكيل خلية أزمة وزارية لمتابعة أزمة العسكريين المختطفين.
جنبلاط مبكرا اتخذ موقفا أثار الكثير من الانتقادات ضده، خاصة من قبل قوى الثامن من آذار، وتحديدا حزب الله عندما حاول التمييز بين جبهة النصرة وتنظيم داعش، وخرج بموقف أربك الأطراف اللبنانية بالحديث عن اعتدال النصرة وإمكانية التفاوض معها، والتفاوض على الأقل من أجل إطلاق سراح العسكريين.
الموقف الذي اتسم بالليونة من جبهة النصرة الذي اتخذه جنبلاط، لاقى صداه لدى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي اقترب في موقفه من النصرة من موقف جنبلاط، بهدف مباشر هو التخفيف من حدة التوتر بين الجانب اللبناني وهذه الجماعة التي تحتجز 16 عسكريا، وقطع الطريق على أي ردة فعل قد تؤدي إلى ما أدت إليه بإعدام الجندي محمد حميه، إضافة إلى التقاط إشارات عن قابلية هذه الجبهة للتفاوض ليس فقط على المستوى أزمة العسكريين اللبنانيين، بل أيضا على مستقبل سوريا.
ويمكن القول إن الدور الذي لعبه جنبلاط ممثلا بوزير الصحة وائل أبو فاعور، كان الأكثر فعالية في الحد من الأضرار الجانبية التي كان من الممكن أن تحدث حتى من قبل أهالي العسكريين وكل الخطوات التصعيدية التي قاموا بها. وكان الجهة الرسمية الوحيدة تقريبا التي زارت أهالي العسكريين في مكان اعتصامهم في ساحة رياض الصلح على مقربة من مقر رئاسة الوزراء، وفتح الطريق أمام المسؤولين السياسيين لعقد لقاءات مع الأهالي لطمأنتهم على الجهود المبذولة وتخفيف حدة الاحتقان بينهم ضد القيادات السياسية.
تفكيك أزمة إنسانية
ولا شك أن الإنجاز الذي حققه لبنان في هذه الصفقة يتلخص في إطلاق سراح العسكريين الستة عشر، واستطاع تفكيك أزمة إنسانية تتمثل بمعاناة الأهالي والحد من الأضرار النفسية والمعنوية على المؤسسة العسكرية التي كانت تواجه صعوبات في اتخاذ قرار يمكنها من الدخول في عمل عسكري لتحرير أسراها.
إلا أنها في المقابل، قدمت خدمة لوجيستية لعناصر جبهة النصرة في المنطقة الجردية، لجهة أنها عادت ووافقت على ما سبق وطلبته هذه الجماعة من توفير المستلزمات الغذائية والمساعدات الطبية التي تساعد عناصرها على الصمود بوجه المتغيرات المناخية في هذه المنطقة الباردة والقاسية.
جبهة النصرة.. ماذا استفادت؟
جبهة النصرة حصلت على فرصة لإعادة ترميم حاجاتها اليومية، ومن خلال الشروط التي وضعتها فيما يتعلق بالوضع الإنساني لمخيمات اللاجئين في الجرود على حدود الأراضي اللبنانية داخل الحدود السورية، وباتت الآن خاضعة للمعايير المتبعة في التعامل مع مخيمات النازحين داخل الأراضي اللبنانية، لجهة التقديمات الطبية والإنسانية والغذائية، خاصة أن هذه المخيمات تعتبر مناطق لجوء عوائل مقاتلي النصرة في جرود القلمون، وكانت خاضعة لحصار محكم من قبل الجيش السوري وحزب الله من الجهة السورية، ومن الجهة اللبنانية من قبل الجيش اللبناني.
النقطة الأبرز في الاتفاق، التزام الدولة اللبنانية والقضاء اللبناني بتسوية أوضاع كل الأسماء التي تم إطلاق سراحهم من السجون اللبنانية، وكف الملاحقة القانونية عنهم بعد إطلاق سراحهم، وهو ما برز منذ البداية من خلال تأجيل صدور أي حكم مبرم بحق سجى الدليمي طليقة أبي بكر البغدادي، وتحضيرها منذ البداية لتكون ورقة تفاوضية، وهي استفادت من الصفقة الموقعة بأن اختارت السفر إلى تركيا عبر مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت بناء على التسهيلات التي ضمنتها عملية التبادل، في حين اختار المفرج عنهم البقاء داخل الأراضي اللبنانية في بلدة عرسال تحت سيطرة الدولة اللبنانية وعدم الالتحاق بمخيمات مقاتلي النصرة في الجرود داخل الأراضي السورية.