لعل السؤال الذي يطرح منذ بدء الثورة السورية على رئيس النظام السوري بشار الأسد، هو عن سبب رفض طائفته، والتي هي طائفة العلويين، الانخراط في صفوف الثورة السورية، منذ اندلاعها عام 2011؟
ودائماً ما تختلف الإجابة عن السؤال السابق، مع كل عام يمرّ على الثورة السورية على نظام الأسد.
فمع أن الطائفة العلوية هي جزء من المكوّن الاجتماعي السوري، ولقيت ما لقيه باقي المكوّنات الاجتماعية الأخرى من بطش النظام الأسدي، أباً وابناً، وتعرّض طيف واسع من أبنائها، بشكل أو بآخر، لآثار مباشرة من طبيعة النظام الأمنية، عبر اغتيال أو قتل أو اعتقال أو تعذيب، إلا أن الكتلة الاجتماعية الأساسية للطائفة، لا تزال خاضعة لمؤثرات ضغط عالية من إعلام الأسد، الذي نجح بإقناع طائفته أنهم يقاتلون “دفاعاً” عن الوطن.
هذا النجاح لم ينعكس بالبيئة العلوية وحدها، بل إن حقيقة الأمر، لا يزال هناك من سوريي الطوائف الأخرى، من يعتقد، تحت ضغط إعلام الأسد المدرسي والجامعي، وحتى صحافة الحائط، أن الأسد يقاتل “دفاعاً” عن الوطن.
الولاء للوطن أصبح ولاء للأسد
بالنسبة للعلويين، المسألة أكثر حدة، فهم بالإضافة إلى خضوعهم لضغط إعلامي حاد، جعل من ولائهم للأسد ولاءً للوطن، فهم يخضعون لاعتبارات أخرى إضافية، ساهمت إلى حد بعيد بتكوين موقف سلبي لديهم عن الثورة السورية ومنعتهم من الانخراط فيها.
ولعل السبب الأبرز للإحجام العلوي عن الانخراط بالثورة، هو انتماء رئيس النظام إلى تلك الطائفة. فأصبحوا يتعاملون مع فكرة إسقاط الأسد، على أنها إسقاط لطائفتهم، في استنتاج كارثي، لا علاقة للمقدمات فيه بنتائجه.
إلا أن الآلية التي اتبعها آل الأسد، لضمان مزيد من الربط مابين وجودهم في السلطة ووجود الطائفة، كانت أكثر تعقيدا وتأثيرا مما يظن البعض.
فأول شيء قام به الرئيس السابق حافظ الأسد، حتى من قبل وصوله إلى السلطة، كان تفكيك البيئة الاجتماعية العلوية التي سبقت ظهور آل الأسد على مسرح الأحداث في سوريا منذ نهاية الخمسينيات.
تفكيك البيئة الاجتماعية تم من خلال فرز طبقي حاد، عبر عزل ما يُعرف بالطبقة العاملة عن سياقها الاجتماعي، وجعلها هي الثقل الاقتصادي والسياسي ومن ثم الأمني، بعد أن قام بتجريد القوى الاجتماعية الأخرى ليس فقط من سلطاتها التاريخية ودورها، بل سحب الصفة الوطنية منها على اعتبارها “عميلة رجعية” للاستعمار الفرنسي للبلاد.
المنتصرون بالنظام الاشتراكي ذاك، وهم طبقة الفلاحين والمزارعين والعمال وفئات اجتماعية مهمّشة أخرى، والتي حظيت بتوزيع للأراضي وملكيات حوّلتها من فئة أجيرة إلى فئة مالكة، هم الجمهور الأصلي ليس للبعثيين فقط، بل لآل الأسد بصفة حصرية، ومن هذا الجمهور، كانت الطائفة العلوية التي كانت في غالبها من الفلاحين والفقراء.
حافظ الأسد فرّغ النسيج الاجتماعي العلوي من مكوّناته
قطع حافظ الأسد أي صلة للعلويين بنسيجهم الاجتماعي التاريخي، والذي سبق وأفرز ثقافة وطنية عربية تمثلت، على سبيل المثال لا الحصر، بكون واحد من أبنائها، وهو الشاعر محمد سليمان الأحمد المعروف عربياً بلقب بدوي الجبل (1903-1981)، عضواً في وفد رسمي للملك الهاشمي فيصل.
بل امتدّت يد القطع إلى تلك العائلة نفسها، والتي تجاور آل الأسد في منطقة القرداحة، فقتل أغلب أفرادها بظروف غامضة، ومنهم بدوي الجبل الذي تعرض لعملية اغتيال عام 1968، مات على إثرها، لما كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع، وتوجهت إليه الأصابع بالاتهام، كونه كان يعلم من هم الذين اختطفوا البدوي، ووجّه لهم إنذاراً، الأخير الذي لم يعرف حتى الآن إلى من وجَّهه؟
أصبحت البيئة الاجتماعية العلوية، هي الطبقة العاملة التي أسس لها حزب البعث العربي الاشتراكي، في مختلف أرجاء سوريا، بطبيعة الحال، إلا أن تأثيرها على الطائفة العلوية كان حاسماً أكثر من غيرها.
فنظراً إلى محدودية عدد أبناء الطائفة العلوية، قياساً بالأكثرية السورية التي هي على دين إسلام السنّة والجماعة، ونظراً إلى محدودية الإرث الاجتماعي الذي بالكاد قدرت أن تحصّله مابين نهاية الحرب العالمية الأولى وانتصار الفكر الاشتراكي في سوريا، نهاية خمسينيات القرن الماضي، فقد كان تأثير الاشتراكية عليهم فادحاً، إذ أصبحوا، عملياً، مفتقدين إلى آلية الدفاع الذاتية، بعدما حوّلتهم اشتراكية الأسد الأب إلى كيان اجتماعي بلا جذور.
لم يكن لدى العلويين من سلطة اجتماعية، قبل وجود آل الأسد، إلا سلطة رجل الدين المتمثلة بالشيخ، والسلطة الثانية كانت متمثلة بالعائلات السياسية التقليدية، التي ساهمت بامتصاص قوة الجيش الفرنسي الذي نزل ساحل اللاذقية محتلاً أول عشرينيات القرن الماضي.
عمل آل الأسد على تصوير تلك العائلات التقليدية على أنها مجرد “أذيال للمستعمر” بل أوصلوا تلك المعلومات إلى صحافي شهير هو باتريك سيل، وعملوا بشتى السبل على إقناعه بأن تلك العائلات “الرجعية” هم عبارة عن “دُهاة” استطاعوا إقناع فرنسا بأهميتهم، كما يورد سيل نفسه. في الوقت الذي لم يجهد فيه الصحافي نفسه ليعرف أن الفرنسيين عندما نزلوا الساحل السوري، كانت العائلات التقليدية تمارس دور الزعامة التاريخية بدون أي “إزعاج” يذكر لسلطتها الاجتماعية النافذة.
حتى إن كتاباً لمستشرق فرنسي يدعى ليون كاهون هو “رحلة إلى بلاد العلويين عام 1878” ذكر عدداً من أسماء تلك العائلات كآل الخير، وآل مهنا، وسواهما! أي أن البنية الاجتماعية للطائفة العلوية كانت محكومة بنظام أُسري فاعل انتهى مع نهاية الحرب العالمية الأولى إلى تكوين جبهة سياسية شكّلت بداية لأرضية لم تعمّر طويلا مع انتصار الفكر الاشتراكي، وقطع الجذور الذي نجح به الأسد 100%.
من الاحتلال العثماني، وفوراً إلى حزب البعث
ومع أول سبعينات القرن الماضي، بدأ استثمار الأسد للطائفة التي فرّغها من سياقها الاجتماعي وحوّلها إلى طبقة عاملة، شبه مكتملة. لتتوزع هذه الطبقة مابين موظفين في الدولة أو عسكريين في الجيش والأمن أو فلاحين عاملين في أراضيهم التي وزعهم عليها ما يعرف بنظام الإصلاح الزراعي.
أما الرابط الاجتماعي للطائفة، والذي يعكس علاقة الأجيال بعضها بالبعض الآخر، عبر ما يعرف بالذاكرة الاجتماعية، فقد اضمحل إلى الدرجة التي ينتقل فيه الحديث الشفوي العلوي، من آل الأسد، إلى الاحتلال العثماني، مباشرة ودفعة واحدة، بدون أن يمر بأي محطات تاريخية حاسمة، كالعلاقة مع الغرب متمثلة بالاحتلال الفرنسي ومن ثم تأسيس ما عرفت بدولة العلويين، وانتهاء بالمؤثرات الايديولوجية والأدبية والاجتماعية.
هذا القطع العنيف، في إرث العلويين الاجتماعي، جعل الثنائية لديهم هي مجرد: حزب البعث، والاحتلال العثماني، أو من آل الأسد، إلى الحرب العالمية الأولى. بدون أي فواصل تعكس التدرج والتغيرات التي مرت فيها الطائفة وأثرت في محيطها.
وليعزز آل الأسد من هذا القطع التاريخي والاجتماعي، فقد عمل الأب منذ صراعه مع الإخوان المسلمين أول ثمانينيات القرن الماضي، على الإفادة من المخزون المذهبي الذي أسسه الأسد الأب، بجعل العلويين يقفزون من كل التاريخ السياسي لسوريا ولا يعرفون إلا مرحلة الاحتلال العثماني كما لو أنه لم يأت بعد زواله عام 1916 دولة وطنية وشخصيات وطنية بل حتى “دويلة” لهم!
فازداد اجتماع العلويين وتحلقهم حول الأسد، بسبب الطبيعة الدينية التي برزت في صراعه مع الإخوان المسلمين قي الثمانينيات. ونظراً إلى أنه فرّغ ذاكرتهم فلم يعد لديهم ماضٍ سوى الاحتلال العثماني، مباشرةً! وما يعنيه الأخير من صلة مع المخزون المذهبي الذي تلاعب به آل الأسد بكل طريقة ممكنة.
ثمانينيات الرعب وذوبان العلويين بشخص الأسد
وأسّست فترة الثمانينيات إلى شيوع ظاهرة “اللهجة العلوية” ونفوذ الشخصية العلوية، والاستثناءات التي تتمتع بها تلك الشخصية التي حاضرها أسديٌّ اشتراكي، أما ماضيها فهو مجرد احتلال عثماني يصيب الطائفة بدوار ورعب لمجرد استذكاره!
في عام2011 عندما ولدت الثورة السورية، كان العلويون قد تشكّلوا على تلك الآلية التي جعلتهم بين زمنين وهميَّين: عصر الأسد الاشتراكي الذي حولهم إلى طبقة عاملة نافذة بدون جذور اجتماعية، وعصرِ الاحتلال العثماني الذي اهتمّ به آل الأسد كثيرا باعتباره الخلفية التاريخية الدينية الوحيدة التي أبقاها للعلويين حفاظاً على إخافتهم المدروسة المتواصلة.
وبين طبقة عاملة لا تملك ذاكرة سوى ذاكرة مؤسسها وراعيها، أو طبقة عاملة لا ماضي لها، بعد التفريغ والقطع الممنهجين، نشأ الرفض العفوي والسريع للانخراط بالثورة على الأسد. فالأخير نجح في جعل الماضي مجرد احتلال عثماني، وحسب (كما لو أن شيئا لم يحصل بعده!). وكذلك نجح بجعل الحاضر، حاضر الطائفة، هو طبقة عاملة تتمتع بمواصفات استثنائية، بدون جذور.
وهذا يفسّر السعي المحموم، كما يعلم الجميع، لإعلام الأسد، للتصويب الدائم على تركيا (الاسم الحديث للدولة العثمانية!). فالأخيرة هي كابوس الرعب الذي حوّلته اشتراكية الأسد إلى ماضٍ وحيد للعلويين بعدما قطع جذورهم التاريخية الاجتماعية.
حتى إن إعلام الأسد في مطبوعاته الحزبية، كان يتجاهل حقيقة أن السلطنة العثمانية كانت تتعامل بحنكة خاصة مع العلويين في جبالهم، إلى الدرجة التي عجز فيها نظام الأسد عن تفسير ظاهرة وجود كثير من العلويين يحملون اسم “تركي” ومنهم مسؤولون في النظام كتركي صقر. فلماذا تقدم عائلات علوية في أعلى الجبال، وعلى نطاق واسع، على تسمية أبنائها بتركي، لو كانت الدعاية الأسدية، كولونيالية المنشأ، صحيحة؟!
هذا ما منع العلويين من الثورة على نظام الأسد
مع الإشارة إلى أن كل مؤلفات الطائفة العلوية، بكتبها الدينية المخطوطة باليد، تخلو من أي إشارة إلى “مذبحة” مزعومة. خصوصا أن مشائخ الطائفة ما تركوا بابا إلا وألفوا به، حتى باب سمات الأشخاص وملامحهم ومقاساتهم وألوانهم (!) فلم لا يوجد لديهم أي كتاب على الإطلاق يتحدث عن “مذبحة” مزعومة قام بها العثمانيون ضدهم؟!
وكذلك هذا يفسر، ومنذ أيام، عندما تحامل الأسد على الرئيس التركي، وتلفظ للمرة الأولى بألفاظ خارجة، بحقّه.
فالأسد الابن يعرف ماذا يفعل بالضبط: تركيا الآن، هي عثمانيو الأمس، فياعلويين: هذا هو الماضي الوحيد!
زمنان يمنعان العلويين من الانقلاب على الأسد وإنهاء الأزمة السورية: الزمن الحاضر الذي تحولوا فيه إلى طبقة عاملة بمواصفات استثنائية، بدون محتوى اجتماعي وتاريخي.
والزمن الماضي الذي لم يخرج بعد من إسار الدولة العثمانية.
هذا هو التأسيس الذي اشتغل عليه آل الأسد، بضراوة، لجعل ذاكرة العلويين قصيرة وانتقائية إلى درجة القفز الاعتباطي والفوري، من زمن الأسد الذي حوّلهم إلى طبقة عاملة بدون محتوى اجتماعي إنما بمواصفات استثنائية، إلى زمن السلطنة العثمانية، ويقف بينهما –الزمنان السالفان- آل الأسد، مقدّمين أنفسهم، كما في كل مرة، وكما حصل بعد الثورة السورية عليهم، بأنهم هم وحدهم الآن: الحُماة والرُّعاة!
quelle question, c normal, il les protège ce connard