أعتصر بيديه المظلمتين سيجارتة ثم سحب منها نفساً فاق حجم رئتيه ، قبل أن يجيب على سؤال السجين الجديد ؛ مما جعله يبدأ حديثه بالسعال :
– تسألني كيف انتهى بي الأمر هنا ، تسأل كيف تحول الرجل الذي واجه الفساد إلى سجين، كيف ينتهي بالمتمسك بالمبادئ إلى خلف القضبان .
في ذات صباح خرجت لعملي لا أحمل سوى أمل بالتغيير ، كانت الحياة تسير على خُطى الأمس حتى أتى يوم مختلف ، يومٌ واحد كان بحجم عُمر ؛ حينما داهَمَتْ ابنتي وللمرة الأولى مقر عملي الذي لا تعلم عن طبيعته شياً باستثناء أنني أعمل بذلك المبنى الضخم المُتخم بالصامتين ، أتت لاهثة تعدو باحثة في الوجوه البائسة عن وجه مألوف ، وجه لم يعتاد على الصمت ، يرفض مبدئ السمع والطاعة وانتظار فُتات بقايا العيش التي تسقط من أيدي السادة .
وصلت إلى مكتب الرئيس فوجدتني هناك جالساً على مقعدي ، علمتُ حينها بأن خطبًا جللاً قد وقع ؛ سألتها بقليل من الصوت :
– أي خبر سيئ تحملين؟
لم تنطق بكلمة، سارت نحوي وقد علقت الكلمات في صمتها حتى أصبحت أمامي وكأنها أرادت أن تتأكد مما رأت، اقتربت أكثر حتى جلست بجواري وأخذت تحدّق بعيني لتنعكس صورتها . كسر الفزع صمتها وقالت وهي ما زالت تحدق بي :
– أبي أنهم يكيدون لك ، وووو ….. تم فصلي من العمل .
قاطعهُ السجين الجديد محاولاً ملاطفته بعد أن انتابه الأسى :
– لا بأس يا صديقي، ستنسى كل هذا فيما بعد ..
أكمل سرد قصته ولم يأبه لمقاطعة السجين الجديد له، لم يعرهُ انتباهاً ؛ وكأنه كان يحدث نفسه . كان يرغب بالحديث فحسب ، آلمه كثيراً صمته الطويل، لبث بالسجن ما يقارب الشهر لم يقصص قصته تلك لأحد برغم أن الجميع خلف القضبان يعرفها ، كان يُسأل في بداية الأمر ولا يجيب إلا بالصمت ؛ حتى قرر الجميع ألا يسألوه مجدداً ومن حينها أصبح هو من ينتظر السؤال فلا يجده ، كان قرارهم بالنسبة له حكماً آخر بالسجن ، بسجن البوح خلف قضبان الألم ، كاد أن يقتله الصمت لولا سؤال الرحمة الذي أطلقه ذلك السجين الجديد . أكمل قصته بعد أن رفع يديه أمام عينيه وكأنه في حالة دُعاء :
– كفنته بيدي هاتين ثم دفنته ، لم تكن المرة الأولى التي أدفنه ؛ فقد سبق وأن دُفِن ، كتبوا الفاسدين على رفاته بلغتهم ، رغم أنه أخبرني بحلمه في الأنتحار بعد ما عاناه معي ، دفنت جثمانه مع أحلامه في أن يكون له مكان لائق تحت شمس هذا الوطن ، في ذلك اليوم المشؤوم ، مات العدل ..
توقف مرة أخرى عن الحديث ليمسك بسيجارته ويمتص منها نفساً ولكنها أبت ؛ فقد ذابت بين إصبعيه ولم يبق منها شئ . وضعها هنيئه نصب عينيه ثم رمى بها بجوار حذائه وسحقها به، حدق بحذائه بعمق وأكمل حديثه وكأنه يقرأ منه ما يقول :
– لم أستطع العيش أمام نظرات ابنتي لي ، كانت تتهمني تلك النظرات بقتل أحلامها . بعد موت العدل ماتت أشياء كثيرة حولي وأنا كنت ضمنها . حتى أبنتي جفت تماما ً لم أعد أتذكر كيف كانت حين تبتسم، شحت كلماتها ، كان الصمت يعتاش على دمائنا ..
أعطاني الرئيس إجازة من العمل لأسبوع ؛ ليقضي عليها الصمت، حتى البكاء هجرني وكأنه يعاقبني وكأنهم أرادوا لي جميعاً ألا أتحرر من ذلك الحزن الذي خيم على صدري وأطبق عليّ بشدة حتى أصبحت متلهفاً لأنقضاء ذلك الأسبوع السحيق لكي أخرج لعملي وأزاول مهنتي كسابق عهدي ويمضي الوقت سريعاً ..
أتعْلَمُ يا صديقي : لا تفرط بكرامتك وتمسك بالحق مهما حدث ؛ لأنه لن تعاد لك الكرّة لأستعادتهم . إنهم كالعمر : إن رحلوا لا يعودون . حاولت استرجاع كرامتي باليوم الأول للعمل بعد انقضاء الإجازة ؛ فاعتذرت للرئيس في أن أكون واحداً منهم ، وسأعلن للجميع عن ذلك الفساد ، تقَبل ذلك بصدر رحب وقال لي كما تشاء ، لم أكن أعلم بأن ذلك يخالف ما يريده ، ما يريده أناس صامتون لا تعكر صفو الصفوة ، المنتقاة بعناية منه ، أنا لم أكون واحداً منهم ولن أكون .. ما يؤلمني قتل رغبتي بالتغيير قبل أن تبزغ . عُدت لبيتي منكسرًا ..
في الصباح التالي ذهبت للرئيس المتغطرس ، لم آبه بالخوف الذي أنتابني ..،
وحين دخلت على مكتبه وجدت (من يشغل مكاني) واقفاً أمام الرئيس ، كان يحدث الرئيس عن حجم الفساد …..، حينها قاطعتة ، و .. صفعته على وجهه ، انهلت عليه بالضرب ، وصرخت في وجهة ..
– اهرب يا غبي .. أهرب قبل أن يلقوا بك في السجن ، أهرب قبل أن يقتلوا حلمك وحلم أبنائك !!….