يعتبر البريطاني دومينيك أوبراين صاحب أقوى ذاكرة لإنسان حي على وجه الأرض، حيث حقق بطولة العالم في مجال التذكر لـ 8 مرات كما دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية في 2002 بعد أن تذكر 2808 ورقة لعب (54 باكيت) بعد أن رآها مرة واحدة، وهو يتمتع بقدرات هائلة في هذا الجانب، ويعمل الرجل اليوم في مجال التأليف حيث له العديد من الكتب حول الذاكرة، كذلك يقدم محاضرات ودورات تدريبية حول العالم في هذا المجال.
والمثير في قصته أنه لم يولد بذاكرة قوية، بل كان شخصا عاديا وتلميذا أقل من عادي في المدرسة كما يروي هو بنفسه، وأنه كان يخطئ في الامتحانات ويوبخ دائما، لكن كل ذلك تغير لاحقا كما سوف نرى! عندما بدأت القصة في 1987 ليسير في طريق جديد بذاكرة مختلفة. وقد عمل بالإصرار والابتكار في الأفكار ليبني ذاكرة غير مسبوقة، فائقة القدرة، وهو يعزز هدفه بالالتزام في تطوير قدراته الدماغية.
حادث في الطفولة وعسر قراءة
ولد دومينيك في 10 أغسطس/آب 1957 وفي بداية حياته كان يعاني من عسر القراءة ونقص في الانتباه وتعرض وهو رضيع لحادث طارئ أدى لإصابته بعدة كدمات في الجزء العلوي من الجبهة، لذا اعتقد الأطباء حينها أنه قد يعاني من بعض أضرار في الدماغ؛ لكنه خيّب ظنهم.
ويروي الرجل خلال مناسبات عديدة أن هذه المشاكل الصحية لم تُعِقه من الوصول لهدفه، في أن يصبح بطلا عالميا في تذكر الأشياء، مؤكدا أن كل شخص يمكنه فعل ذلك، فالأمر يتطلب نوعا من التفكير الإبداعي فقط.
لعبة البوكر تقود إلى البدايات
أما قصة دخوله هذا المجال، فقد كانت يوم شاهد في عام 1987 رجلا في التلفزيون له القدرة على حفظ مجموعة من بطاقات لعبة البوكر وأدهشه ذلك الأمر العجيب، فقرر أن يتعلم كيف يفعل ذلك، وقد تحقق، ليكون بمقدوره اليوم أن يرتب آلاف البطاقات في بضع ثوان، وهذا أدى إلى منعه من دخول الكازينوهات لأنه سيكون الفائز بلاشك في أي منافسة بوكر.
وعندما بدأ رحلته مع الذاكرة الجديدة والقوية كان في الثلاثين من عمره، وطوّر نظريته الخاصة في ذلك ليقدر على تذكر الأشياء بطريقة غير اعتيادية، إلى أن كسب غينيس بوصفه قد حفظ تلك الـ 54 باكيت في حين أن الرقم السابق هو 6 باكيت أو مجموعات ورق فقط.
نظرية “الرحلة” في التذكر
الطريقة التي طورها للتذكر يقول إنها ليست جديدة مستمدة من الإغريق واسماها “الرحلة”، تقوم على التذكر من خلال الربط بين الأرقام أو الكلمات وصور ذهنية مسبقة لها في دماغنا، وذلك في تسلسل قصصي.
وقد سجل ذلك في أول كتاب له صدر عام 1994 شرح فيه كيفية بناء ذاكرة مثالية، وفي عام 1991 استطاع في أحد التجارب أن يتذكر كل علبة بطاقات الورق في 2 دقيقة و29 ثانية، وهو لا يزال إلى الآن يحتفظ بالرقم القياسي الذي وصل 20 ثانية فقط.
والفكرة أن الدماغ يتذكر من خلال الصور بشكل أفضل، ولهذا فإذا أردت مثلا تذكر قائمة مشتريات من 10 أغراض وأنت ذاهب للتسوق فعليك أن تخزنها في دماغك في شكل صور وليس أسماء. وهكذا، وإذا تم ربط هذه الصور من خلال قصة، يكون ذلك أفضل للتذكر.
وفي محاضرة كان قدمها في دبي العام الماضي، عندما استضافته الإدارة العامة للإقامة وشؤون الأجانب ضمن سلسلة من محاضرات قادة التميز، كشف دومينيك عن مهارته وشرح العديد من الأفكار حول تطوير الذاكرة، وقال إن تذكر أوراق اللعب مثلا ليس مهما في حد ذاته ولكنه مهارة تقودنا إلى تطوير طريقة التعلم في الحياة من خلال تغيير نمط التذكر عند الإنسان.
الذاكرة القوية بلا توظيف لا معنى لها!
وإذا كان يرى دومينيك أن الدماغ البشري هو كنز الإنسانية، فهو يؤمن بقدرات العقل غير المحدودة، ومن هنا أسس مع آخرين بطولة الذاكرة، لإثبات القوة اللانهائية للدماغ البشري.
لكنه يعود ليقول إن الذاكرة بلا توظيف لا معنى لها، وشبه الأمر بمنفذ في دماغك يمكن أن تضع عليه فلاش موصول بالإنترنت ويكون بالتالي موصلا بكل المعارف في العالم، فهذا لا يعني أنك سوف تصبح عبقريا لأن التحدي في معالجة المعلومات وتحليلها والاستفادة منها.
وهنا يلفت الانتباه إلى نوعين من الذاكرة: الذاكرة المؤقتة والذاكرة العاملة، حيث أغلب الناس يستخدمون المؤقتة ولا يستخدمون الذاكرة العاملة Working memory وهنا التحدي.
وهذا يتطلب مبدئيا أن نفهم أن الذاكرة هي أهم وظائف الدماغ فكل واحد منا هو نتيجة تراكم معارفه، فهي التي تعرف بالشخصية وتجعلنا نمتلك التميز، وكل الناس لديهم قدرة الذاكرة والتذكر لكنهم لا ينتبهون لذلك وبالتالي لا يفكرون في تطويرها.
على سبيل المثال.. كيف نتذكر 300 رقم تتلى علينا متتابعة، بمعدل رقم كل ثانية. للناس العاديين فإنهم يتذكرون ليس أكثر من 7 أرقام بعد الفراغ من تلاوة الأرقام جميعها، لأنهم يستعملون في الواقع الذاكرة المؤقتة وليس العاملة، ولهذا فإذا ما استخدمت الأخيرة فسوف تنعكس النتائج ويرتفع التذكر، حيث ستعمل الذاكرة العاملة على زيادة قدرة التعلم الأسهل والحفظ، بل والعمل تحت الضغط الشديد.
ما المقصود بالذاكرة العاملة؟!
ماذا تعني الذاكرة العاملة؟.. إنها ببساطة تشير إلى القدرة على القيام بمهام متعددة في وقت واحد، أي الربط السريع بين الصور والأرقام والحروف وغيرها.
هذه الآلية من الربط هي التي تجعلك تتذكر، على سبيل المثال إذا قلت قطة فأنت ستتذكر الفأر وأرنب سيذكرك بالجزر، وهكذا.
كذلك عندما نرى صورة فراولة فإننا نفكر في عدة أمور كاللون والطعم والرائحة والمكان الذي زرعت فيه أو ارتبط بذهننا عنها، حيث إن الصور ترتبط في دماغنا بأشياء معينة وأمكنة وهذا ما يجعلنا نتذكر.
وبخصوص التذكر فإن ما يحفظه الإنسان كأن يعيد استرجاع 20 رقما رآها للتو على لوحة يبقى ذلك في العادة لمدة 24 ساعة في الدماغ، ومن خلال تجربة دومينيك وإذا ما أردت لمسألة كهذه أن تبقى لفترة أطول فإن عليك تذكرها أو مذاكرتها بعد 24 ساعة ومن ثم كل أسبوع فثلاثة أشهر فسنة وهكذا لتبقى مدى الحياة.
ويرى أن بإمكاننا أن نبقي أشياء في ذاكرتنا للأبد إذا شئنا، فـ “الأمر يتعلق بنا، برغبتنا”.
وقد كتب دومينيك عن نظرياته هذه في عدد من الكتب منها كتاب “كيف تنمي ذاكرة كاملة؟”.. “كيف تجتاز الامتحان؟”.. “اليد الفائزة”.. “صندوق الذاكرة المدهش”.
وقد أكد أن الاختبارات المعملية لعلماء في بريطانيا بطلب منهم أثبتت عبر تصوير دماغه أنه عادي ككل الأدمغة، ما يعني أن الأمر يتعلق بتوظيف الدماغ وليس مسألة تشريحية.
قصة رجل لا يتذكر إلا لـ 30 ثانية فهل أغلبنا مثله؟
من طرائف قصصه أنه قصّ عن موسيقي يدعى نيكولاي وليم كان يعاني من مرض سببه فيروس في الدماغ، جعل ذاكرته لا تتعدى 30 ثانية ولهذا لم يعد بإمكانه أن يتذكر أي شيء. ولكنه فقط يتذكر ما سبق إصابته من وقائع.
فكان كلما قابل زوجته يشعر كما لو أنه لم يرها من قبل لأن الـ 30 ثانية مرت قطعا، فيقول لها: “إنني لم أرك منذ سنوات طويلة”.
وقد كان يكتب مذكراته ويقول انه يشعر بالوعي كل 30 ثانية في كل مرة يعيد فيها الكتابة، ولاحظ بعد فترة أن كل ما كتبه يبدأ بعبارة “في المرة الأولى في حياتي”.. كما وجد أيضا العديد من المذكرات في مكتبته التي تذكر العبارة نفسها، “في المرة الأولى من حياتي”.
لكي نتذكر علينا أن نتحرر من “في المرة الأولى في حياتي”..
أن نقفز فوق الثلاثين ثانية. ولنجرب.