تقوم كتب التوراة المتداولة بين أيدي اليهود على الفصل بين الأفكار والناس، ليلعب الوعي الزائف دوراً فاعلاً في الواقع الاجتماعي والتاريخي في المجتمع الصهيوني عبر العصور وحتى اليوم، وتعميم هذا الوعي على الأمم والشعوب.. وهو يقوم على بنية هذه الكتب المزيفة وأصولها وأجناسها وأنواعها وتناقضاتها ولا عقلانيتها وتخلفها الفكري والعلمي.. وهي التي دونت ـ وبشكل قاطع ـ بعد عصر موسى بمدة طويلة وحرفت بما اتفق لها مع رغبات وغرائز كتبتها وظروفهم أو واقع حالهم، معتمدين على الروايات الشفوية والمكتوبة المنتخبة من الروايات والآداب لشعوب المنطقة القديمة كما جرى عليها الحذف والإضافة بحسب الحالة والظروف.. وإلا كيف يمكن أن ينزل الله كتاباً يأمر بالاغتصاب والكذب ويقتل الأطفال والشيوخ والنساء سيما وأن الوصايا العشر، التي تؤلف توراة موسى النبي، تأمر بعكس ذلك تماماً.. ويلاحظ الدارس لهذه الكتب بوضوح: الافتراء على الأنبياء ـ والتفرقة العنصرية ـ وإباحة الامتياز الخاص لليهود دون غيرهم فيما تقوم ديانة موسى التوحيدية على أساس الوحدة البشرية المطلقة دون تفريق بين الأقوام والشعوب ـ وأنها تقر بالبعث والنشور وباليوم الآخر والقيامة في حين أن هذه الكتب المزيفة تخلو تماماً من ذكر القيامة والآخرة والجنة والنار، (أو تمر عليها في مواطن عدة لكن بصورة مبهمة في بعض النسخ) ـ ويلاحظ التناقض التاريخي بين عصر وعصر، والخلط بين دور ودور، وبين قوم وقوم (ما بين عصر يعقوب ويوسف، وعصر موسى واليهود ـ ثم الفترة ما بين عصر موسى والكتبة) وسكت عنها كاتب التوراة سكوتاً مطلقاً بل فاضحاً.. كما خلط بين الديانات، دون تسلسل زمني مع تجنب الدخول في التفاصيل. وقد انقسم الباحثون في دراسة هذه التناقضات وتعيين التناقضات والازدواجية الحاصلة في هذا الكتاب، فقال بعضهم بأن الأصل الأساسي لهذا الكتاب هو كنعاني ـ إبراهيم الكنعاني ـ وعدم ارتباطه بعصر موسى واليهود. وهذا الرأي يخالف ادعاء ما أسموه بتيار التسجيل اليهودي، وقال بعضهم بتيار الإيلوهيمي (نسبة لإيل) وهذا أيضاً إله كنعاني الأصل وقد اصطدم أصحاب هذا التيار باليهودية المتزمتة.. حيث أن المعادين لهذين التيارين لم يستطيعوا اقتلاع الإله الكنعاني من الكتاب، وأن آثاره باقية فيه رغم كل التحريف والحذف والإضافات أو التحوير.. وإن الإله الكنعاني (إيل) هو تيار ديني صرف، أما اليهودي فهو عنصري سياسي محرف. ومن كلتا النظريتين، وبالمقارنة مع التوراة، نتبين أن هناك اثنين باسم إبراهيم، واحداً بعد الآخر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العبرانيين عندما امتزجوا بالعموريين ذابوا فيهم وعبدوا آلهتهم واشتركوا معهم في كل طقوس العبادات، والإله إيل هو إله العموريين أيضاً وقام اليهود ـ فيما بعد ـ إلى تصعيد نسبتهم إليه وعبرنوه إلى جد مدفون في حبرون (الخليل) يسمى أبرام وأن قبره مشترى بالمال من ملوك الأرض الأصلاء.. وقالوا بأن تسمية الحفيد بالجد مألوفة أي أن نسبهم يعود إليه. ويقول تاسيتس (55-120م) صاحب كتاب “تاريخ تاسيتس”: إن أكثر الكتاب متفقون على أن وباء وبيلاً كان يترك تشويهاً فظيعاً في الجسم تفشى في زمان ما في مصر، وفيما كان الملك بوخاريس يفتش عن دواء لهذا الداء الوبيل أشار عليه كهنة “آمون” بطرد هؤلاء ليطهر مملكته من هذا الجنس الممقوت من الآلهة إلى بلد أجنبي. فعمل الملك بهذا الرأي وأخرجهم إلى الصحراء، خارج المملكة، ولما استولى عليهم اليأس خرج منهم رجل يدعى موسى بعثته يد القدرة الإلهية ليتولى قيادتهم”. وقد أخذ بهذه النظرية من قبل، بومبيوس وترونمس وليسمارس في القرن الثاني قبل الميلاد، وقبلهم مانثيون في القرن الثالث قبل الميلاد، وخاريمون أواسط القرن الرابع قبل الميلاد، وديودورس الصقلي في القرن الأول قبل الميلاد، ومع أن هؤلاء يمثلون مرجعاً تاريخياً وثوقياً، إلا أن هناك كتاباً يكتبون تاريخاً أشوه خدمة للصهيونية وضد البشر والتاريخ. من مثل سوكولوفٍٍٍومن هنا يستحسن أن نعرض إلى تطور الأحداث التوراتية عبر الكتب الموثقة الثابتة والحقائق الراسخة.
يجمع الباحثون في أصول أقوام الشرق الأدنى (العربي) أن أسلاف هذه الأقوام كانوا يتمتعون بحضارة قديمة عريقة في الطرف الجنوبي من الجزيرة العربية العامرة بالأنهار والأمطار، وقد تعرضت لتغيرات مناخية، من جفاف أنهار وانحباس مطر، فهاجرت الأقوام البشرية والحيوانات إلى أماكن الكلأ، ذات موارد دائمة للعيش. فكان أن توجه سكان الجزيرة العربية شمالاً وتوزعوا على أطرافها الشرقية (بلاد الرافدين) وغرباً إلى سيناء والنيل وشمالاً إلى بلاد الشام (فلسطين وسوريا ولبنان) وعرفوا بالكنعانيين ـ الفينيقيين والعموريين فبنوا دولة العمالقة. كما بنى المصريون كيانهم العربي القديم في الغرب فقام الكيان العربي القديم في الشرق بإمبراطورياته الأربع: الأكادية ـ البابلية ـ الآشورية ـ الكلدانية، ثم الأنباط والتدمريون فالغساسنة والمناذرة ثم الإسلامية، وقد عمت هذه الإمبراطورية الأشراق الثلاثة: الأدنى والأوسط والأقصى..
ولضرورة البحث سنعرض لتاريخ الشرق الأدنى وفلسطين تحديداً…
يبتدئ تاريخ فلسطين ـ بحسب المؤرخين الغربيين ـ قبل الألف الثالثة من ميلاد المسيح، وينتهي بظهور موسى على سطح الأحداث…
فقد هاجر الكنعانيون من الجزيرة العربية (في الفترة ما بين 4000 ـ 3000 ق.م) إلى فلسطين وأقاموا دولة منيعة وحضارة راقية، وبنوا مدناً كبرى منها: أريحا ـ بيت شان ـ مجّو ـ جازو.. وهذه الأسماء كنعانية.. إلا أن الآثاريين (حسب الرقم المكتشفة) يرجعون تاريخ مدينة أريحا إلى ما قبل 7000 سنة، وقالوا بأنها أقدم مدينة في العالم، وفيها أقدم معابد في التاريخ وكذلك مجدو (منذ 3000 ق.ك)ًًًًًٍٍٍٍٍٍٍٍٍ ًًًوأكدوا ورود كلمات كنعانية في المدونات المصرية من عصر الأهرام (2800ق.م).
وفي مكتشفات (رسائل) تل العمارنة بصعيد مصر: أن تحوتمس الثالث (في 1500ق.م) استولى على القسم الجنوبي من الشرق بما فيها فلسطين، وكان اسم هذه المنطقة “كنعان ـ Kanaan” أما القسم الجنوبي فهو أمورو ولبنان وشرق الأردن.
ًًًوورد في الكتابات التاريخية القديمة ذكر مدينة بابلية اسمها “كنعان ـ Kanaan” وسمي ساكنها كنعاني Kannanai وتشير إلى كنعاني فلسطيني…
وازدهرت الزراعة في كنعان في عهد بيبي الأول (2500ق.م). وقد حفر نفقاً في بلدة جازر (35 كم شمال غرب أورشليم) للوصول إلى منابع المياه تحت مستوى الأرض على عمق 100قدم بواسطة درج (80 درجة) وبطول 128 قدماً، وأقام مشروعاً مثيلاً لـه في أورشليم لإيصال المياه إلى الحصن الذي شيده اليبوسيون سكانها الأصليون على الهضبة الشرقية من مدينة القدس (وهم فرع كنعاني من الجزيرة استقروا في فلسطين أوائل 3000 ق.م وقد سميت باسمهم). وجروا إليها المياه من عين تقع شرقي الحصن، ويمتد 17 ياردة وسميت هذه العين “جيحون” (نبع العذراء اليوم). وهنا تقول التوراة رواية بأن داود اكتشف النفق ومدخله الشرقي فأدخل رجاله فيه وباغتوا اليبوسيين وأحكموا قبضتهم عليه بعد أن صمت اليبوسيون ثلاث مئة عام إلى أن سقط على يد داوود ـ هذا حسب قصة التوراة.
وقد اخترع الكنعانيون الأبجدية. فدالت دولتهم وتمدد انتشارهم وانتشرت لغتهم وآدابهم وديانتهم.. وكون فرع منهم مدناً عديدة في المنطقة الجنوبية من كنعان، وهم الفينيقيونًًًومن مدنهم المركزية: عكو (عكا)، أكزيب (الزين)، أحلب (محلبا)، قانا، صور، صرفة (صرفند)، صيدون (صيدا)، بيريتو (بيروت) جبيل (بيبلوس)، عرقة سين، صمارة (سومرة)، أرواد، أوغاريت، وغيرها… وقضى عليها الإسكندر السلوقي تقريباً.
وعاشت هذه المدن 3500سنة، وقام من بين هؤلاء الأجداد علماء منهم: زينون الرواقي (236 ـ 246 ق.م) وهو فينيقي ولد في قبرص وقصد أثينا عام 314 ق.م وأنشأ فيها رواقاً (301 ق.م) ولما مات كتب على قبره: “لن يضير منبتك في فينيقيا ضيراً”. وفيلون الجبيلي (61-141 ق.م) وهو غير فيلون اليهودي الاسكندراني بالطبع، فهذا من جبيل، وأوريانوس الصوري (200 ق.م).. الخ.
وكان الكنعانيون متعددي الآلهة، لكن أكبرها “إيل” (الإله العلي The Superremo God)، وهو الذي يبعث بمياه الأنهر لتجري في الأرض وتحيي الموات، وبالمطر فتسيل الوديان عسلاً، ويمنح الإذن بإنشاء المعابد إلى الآلهة الأخرى، وجميع أرض كنعان هي أرض الإله إيل.. الإله الحامي (The Protection God) ويقع موقعه في مغرب الشمس عند مصب الأنهر في البحر وسمي مقامه بمقام “إيل”.. وإيل هو بداية ديانة التوحيد (وقد عرفه الملك الكنعاني ملكي صادق ـ ملك أورشليم ـ باسم الله العلي وتعبد له)، وبهذا المفهوم كان الإله العلي مالك السموات والأرض يتجلى واضحاً في العقل الكنعاني. ومن آلهتهم أيضاً “بلعام”.. وإن أحلاف الكنعانيين كما بين تاريخهم لم يكن مهيأ للغزو والقتل والتدمير، ذلك لأن ديانتهم السمحاء وآدابهم تدور حول أبوة الإله الواحد “إيل” ومن صفاته أنه السيد ـ بعل أو أدون ـ الخالق الجبار.. فلا يدمر الخالق ما صنعت يداه.. وجاء في المكتشفات الفينيقية أن اسمه “إيلوس” وهو أبو السنين (مخطوطات أوغاريت ـ مطلع ملحمة بعل وعناة ـ ومكتشفات الصفاة والرحبة قرب جبل العرب السورية).
أما الآراميون فقد كان لهم إلههم “إيل” واتخذ ملك أرباد (اسمه تكملة لإيل “متى ـ إيل” الذي تعاهد مع ملك آشور نيراري (754-745 ق.م).
ونرى مما تقدم، أن الآراميين هاجروا إلى بلاد الرافدين في 3000 ق.م، وكان مركزهم في حران، ومن عشائرهم: أخلامو والخبير أو العبيرو، وهي القبائل العربية الراحلة في الجزء الشمالي من الجزيرة العربية، وصنفت إلى عبراني ـ وفي الآشورية آرومو (أرامو) وجمعهم ريمي ـ وقد انتشرت تجارتهم في الأمصار فانتشرت لغتهم وديانتهم وتعلموا فن الكتابة من الكنعانيين… ومن آلهتهم الأخرى: حداد ـ وهو إله الزوابع والعواصف. وكانت معابده في كركميش (جرابلس) وسمأل (في زنجرلي بتركيا) وفي حلب ودمشق. وقد أضاف ثلاثة من ملوك دمشق اسمه إلى أسمائهم وكانت مواطنهم: آرام النهرين، فدان آرام، آرام دمشق، آرام صوبا (في البقاع)، آرام بيت رحوب (عند الليطاني)، آرام معكة (مقاطعة دان بفلسطين)، حشور (بين اليرموك ودمشق)، بيت أغوشي (في حماه) ومركزها أرفاد، وبيت بخياني ومركزها جوزان (تل حلف)، وحلب وكركميش.,. وقبيلتيه (سمأل) ولها اسم آخر (يعودي) ومركزها عند جبل أمانوس غربي عينتاب في تركيا ومن ملوكها شعيل، كيلامي، حياني، فنامو، بار، ركوب، وفي العراق: بيت عديني ومركزها بورسيبا.
أما كلدة أو الكلدانيون (وكلدة شيخ عربي) كان مركزها غورني عند العقير، وقد تاجرت مع بابل، استولت سلالة بابل الرابعة على جميع دول سورية وفلسطين في زمن نبوخذ نصر (نيوبولاخير) وابنه (43 سنة) من 605 –526 ق.م.
وهنا نبدأ بتاريخ اليهود القادمين من الشرق إلى الغرب أي من وسط آسيا، في عصر الجفاف المذكور وقد استوطنوا إلى جانب الآراميين.. فقد بدأ أول دور لهؤلاء في هذه الفترة المائة السادسة الخامسة قبل الميلاد ـ لأول مرة وبذا يبدأ الدور الأول لليهود مع بداية حملة نبوخذ نصر الأولى على يهودا سنة 597 ق.م فاستولى على أورشليم وسبى اليهود إلى بابل ومعهم الملك “يهوباكين” وأهله.. ووزعهم هناك أسرى… ثم سباهم مرة أخرى عام 586 ق.م… وقد جاء هذه المرة بنفسه على رأس الحملة.. ودمر القدس وأحرق بيت الرب وبيت الملك والأعيان وأسر 5000 شخص ونقلهم إلى بابل.
وبعد وفاة نبوخذ نصر سنة 562 ق.م خلفه ملوك ضعفاء فغزاهم كورش ملك الفرس الأخميني فسمح لليهود بالعودة إلى فلسطين ومعهم الكتاب الذي دونوه خفية في هذه الفترة ـ السبي ـ وقام واحد منهم هو “عزرا” بتدوين حكايات قال أنه توارثها عن رواة ثقة فجاءت بهذا الشكل وقد نعت عزرا كورش بالمسيح اليهودي المنتظر لفضله على جماعته ـ وقال بأن هذا الكتاب اسمه التوراة.. وتعني كلمة “التوراة” “تورة” الهدى والإرشاد.. وتشكل مع التلمود مصدر الديانة اليهودية. أما مصادر التوراة فهي الأساطير السائدة في المنطقة، والتي شكلت ديانات شعوبها من أكاديين وسومريين وبابليين وكلدانيين وآشوريين وكنعانيين وفينيقيين.. ومصريين.. وتقول التوراة أنها من صنع الله ومنقوشة على لوحي حجر كتب الله على جانبها بإصبعه (وقد كتبها الله مرة ثانية بعد أن غضب موسى فألقى اللوحين على الأرض فكسرهما، بسبب غضبه عندما شاهد قومه يعبدون العجل ويرقصون حوله).. إلا أن هذه الشريعة التي كتبت على حجر اختفت من الوجود.. فوضعت في خزانة خاصة (وتسمى تابوت العهد) وكانت لغتها مصرية، وتقوم على ديانة أخناتون التوحيدية أي أنها غير التوراة التي كتبها الأحبار بعد موسى بثمانية قرون.
وذكر أن الفلسطينيين استولوا على تلك الخزانة (التابوت المطلية بالذهب كرمز لوجود الله وهي أقدس جزء في طقوسهم يحملونها في حلهم وترحالهم ثم ردوها إلى داود الملك ووضعها سليمان في الهيكل فيما بعد.. ثم لم يعرف مصيرها حتى الآن.. ويقول اليهود أن موسى تلقى الوصايا وأحكام الشريعة في عربات مؤاب فكتبها وسلمها للكهنة، وقالوا أنه لقنها لهارون ويوشع.. وهنا نرى، حسب الرواية اليهودية الأخيرة أن موسى هو الكاتب، وهذا يتناقض مع الرواية الأولى.. ومع هذا لم يعثر حتى الآن على أي أثر لها..وقالوا بأن لغتها وتسميتها “شفة كنعان” أي لغة كنعان ولسانه.. كما استعملوا حروفاً فينيقية وكتبوا بالسومرية.. حيث أن العبرية لم تكن لتظهر بعد، إذ اقتبست من الآرامية بعد أكثر من 600 سنة من دخولهم إلى فلسطين، وبها كتبت التوراة في بابل بعد موت موسى بـ 800 سنة، كما سنرى.
وتتألف التوراة من 39 سفراً وتقسم الأسفار إلى ثلاثة أقسام:
الأول: يتكون من خمسة أسفار: التكوين ـ الخروج ـ اللاويين “وهو سفر الأحبار” ـ والعدد والتثنية. وأطلق عليها كتب موسى الخمسة، وفيها الوصايا العشر (أنا الرب إلهك فلا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تضع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة، لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً، اذكر يوم السبت لتقدسه، أكرم أباك وأمك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تشته بنت قريبك ولا شيئاً مما يملك) “سفر الخروج”.
والثاني: يتكون من أسفار: الأنبياء (نبييم) وهي على شكل مجموعتين:
1. خاصة بالأنبياء الأوائل (من دخول نبي إسرائيل يشوع حتى هدم الهيكل).
2. خاصة بالأنبياء المتأخرين (من موت يشوع إلى ولادة صموئيل) وهي: القضاة ـ صموئيل 1-2 الملوك 1-2 من موت داود حتى السبي البابلي سفر أخبار الأيام (1-2) وثائق غير مصنفة مع سلالات نسب روائية “من آدم حتى موت موسى”. أما سفر الأنبياء المتأخرين فهم: سفر إشعيا ـ إرميا ـ حزقيال ـ يوئيل ـ عاموس ـ يونان ـ ميخا ـ ناحوم ـ حبقوق ـ صفنينا ـ حجي ـ زكريا ـ ملاخي.
والقسم الثالث (كتوبيم): هي أسفار وكتابات: مزامير داوود ـ أمثال سليمان ـ نشيد الإنشاد ـ أيوب ـ راعوت ـ هوشع ـ مراثي إرميا ـ الجامعة ـ أستير ـ دانيال ـ عزرا ـ نحميا.
وتكون هذه الأسفار التسعة والثلاثون أقسام التوراة الثلاثة: الينتابيك ـ النبييم ـ الكتوبييم. وهي كتب كهنوتية إذ أن الكهنة هم الذين فسروها، وهم صلة الوصل بين اليهود وإلههم يهوه، ومنقذو الشريعة، وموجهو الشعب ووارثوه وحصروا في نسل هارون وهم اللاويون، وقد لعب مجمعهم الديني الأعلى (السنهدرين)ًًًًًًًٍ ًًًدوراً هاماً في حياتهم بعد رجوعهم من السبي وخاصة فيما يتعلق بمحاكمة السيد المسيح. ويقول اليهود أنه وجد قبل 600 ق.م وأن أول مجلس وجد في عهد موسى عندما دعا إليه السبعين رجلاً ليعملوا معه فتذمر أتباعه وقرروا العودة إلى مصر وكانت تتمثل فيه فئتان:
1. سادوسي (متمسكة بالدين والزهد).
2. بيروشيم (وتتمسك بالعمل وجمع المال والإثراء ـ الذهب).
وصلاحيات هذا المجلس تتسع بحسب الظروف، وقد منحهم الرومان صلاحيات لعدم تأثيره عليهم، ونأتي هنا إلى القول بأن السنهدرين هو الذي قام بمحاكمة السيد المسيح ومن ثم صلبه سنة 29م. وهذا منصوص في سفر الأحبار مر: 14(53-64) ومت: 26 (56-68). كان ذلك من صلاحياته القصوى وكان يتألف من (72) عضواً من كبار الكهنة والشيوخ والحاخاميين. وكان يحصل النصاب فيه بحضور 33 عضواً، (وعندما عين غابينوس أول ملك روماني على سورية “57” ق.م، قسم المنطقة اليهودية إلى خمسة أقسام وأقام في كل منها سنهدرين محلياً مؤلفاً من سبعة أعضاء وسمي سنهدرين القدس السنهدرين الأعلى تمييزاً لـه عن الأخرى..
ويعتنق اليهود كتاباً تفسيرياً للتوراة يعتمدون عليه بل حل هذا الكتاب محل التوراة كلها.. وهو التلمود.. وهو جزء أحكام اليهودية وتعاليمها، ويمثل التلمود جملة الشرائع التي نقلها الأحبار لشرح وتفسير التوراة واستنباط أصولها. وعليه فأصل كلمة التلمود هي آرامية (من تلماد ـ أي يتعلم أو تلميذ، وهي كلمة شرق آسيوية) ويقسم إلى قسمين:
1. المشنا: وتعني النص أو المتن: والمشنا هي مجموعة تقاليد اليهود ـ اليهوديين ـ في الحياة اليهودية حسب النصوص التوراتية.
2. الجمارا: وتعني التفسير أو الشرح: وهي مجموعة المناظرات التي جرت بعد وضع المشنة. ويزعمون أن موسى هو الذي ألقى هذه المناظرات على قومه شفاهة وكان عليهم وضعها؟!…
وقد دون المشنا في طبريا ـ بعد قيام فئة أو طائفة العلماء وتعرف بـ “الثنائيم” ًًًوقد بوشر في تحريرها سنة 10 من مولد السيد المسيح. وقد فرغ من تحريرها عام 230م في طبريا وقد كتب بلهجة آرامية شرقية هي أقرب إلى المندائية العراقية كما فيه مصطلحات يونانية ولاتينية، وحجمه أوسع من الجمارا بأربعة أضعاف ويقع في 5894 صفحة ويطبع عادة باثني عشر جزءاً ًًً وشرح “الثنائيم” التوراة ونقحوه وبوبوا شرائعه في مجموعة المشنة هذه، وقد استغرق عملهم هذا مئتي سنة (من 10ق.م إلى 220 ميلادية) وقد جمعت بعناية الحبر الأكبر يهوذا بن شمعون الملقب بالربن الأقدس (135-220م) وهو الرب الأكبر يهوذا بن الرب عميال سابع رؤساء المجمع اليهودي الأعلى المسمى بـ “السنهدرين” جامع المشنة.. وقد صارت هذه أساس التلمود وقامت في فلسطين، ثم نشأت طائفة أخرى من الربانيين: وهم “الأمورائيم” ًًًًأي المعلمون المحدثون.. وقد درس هؤلاء المشنة وعلقوا عليها وشرحوها لتكون شرائع لليهود وتقاليدهم وطقوسهم وتاريخهم وجمعت في التلمود الأورشليمي الذي أنجز أواخر القرن الخامس للميلاد ًًًًوبعد تداول اجتهادات الأمورائيم وانتهائها قامت طائفة أخرى من الفقهاء التلموديين هي “السبورائين” وتعني الأساتذة الشارحين (من 500-588م) في بابل. أخذت على عاتقها شرح وتفسير التوراة بمنهج جديد وتنظيم أبوابه بالشكل المعروف الآن. ثم قامت بعدها مباشرة (589م) فئة شارحة أخرى وقعت على مسؤوليتها تطبيق تعاليم التلمود وتولت إصدار الفتاوى للدين اليهودي في الشرق والغرب هي طائفة “الغاؤوييم” (مفردها غاؤون وتطلق على الربيين من رؤساء المدرسين). وقامت في (فومبديثة وسورا) ببابل واستمرت من 589 حتى 1030 ثم انتقل مركز اليهود إلى الأندلس. أما الأشعار والقصص والأمثال فهي مستقاة من آداب المنطقة التي اطلع عليها كتبة التوراة، بابلية أو كنعانية أو مصرية.. وبذا تكون التوراة كتبت بعد إبراهيم بألف وثلاث مئة سنة، وبعد موسى بسبع مئة سنة. وهناك طائفة يهودية لا تعترف إلا بخمسة أسفار (موسى) وهي السامرية (من السامرة ـ نابلس ـ شكيم القديمة ويدعون بأنه توجد لديهم نسخة منها مدونة بالآرامية على رق يزعمون أنها ترجع إلى عهد ما قبل المسيح، ويرفضون كل ما عداها ويتمسكون بذلك. وقد استقلت عن بقية الطوائف التي رفضتها، لكنها أعادتها وبنت هيكلاً لها في جبل جزريم عند نابلس. وقام بينها وبين بقية اليهود عداء استحكم قروناً.. ولا تلتقي معهم إلا في الغزو فتحارب معهم.. ويعتقد أنهم من بقايا الجماعات التي نقلها الآشوريون من بابل وعيلام وسورية وبلاد الغرب ليحلوا محل اليهود الذين تم سبيهم إلى أماكن بعيدة، وعزلهم اليهود بعد عودتهم إلى فلسطين من السبي عن المجتمع اليهودي وحرموهم من التزاوج مع اليهود والاختلاط بهم (ويقول الباحثون أن عدد أفراد هذه الطائفة في نابلس اليوم لا يتجاوز بضع مئات) ولغتهم هي اللغة العربية، ويقول البيروني عنهم في الآثار الباقية في القرون الخالية ـ طبعة ليبزيغ 1932 ص:21): “أنهم أعانوا نبوخذ نصر ودلوه على نقاط الضعف عن اليهود حين غزا يهوذا وسبى اليهود إلى بابل ولم يمسهم بأذى. وأن السامرة هم اليهود.. وكان السامرة قد أعانوه ودلوه على عورات بني إسرائيل فلم يحركهم ولم يقتلهم ولم يسبهم. وأنزلهم فلسطين من تحت يده وجعل عامتهم يكونون بموضع في فلسطين يسمى نابلس وبها كنائسهم، ولا يمسهم الناس وإذا مسوهم اغتسلوا ولا يقرون بنبوة من كان بعد موسى من أنبياء إسرائيل”، وتلخص عقيدة السامريين في وحدانية الله ـ ونبوة موسى وقداسة جبل جزريم ـ والإيمان بالتوراة ذات الخمسة أسفار الأولى من العهد القديم على أنها منزلة من الله ـ والإيمان بيوم الدنيوية والبعث فإنه لا ريب فيه.. وننتقل من طوائف اليهود ومعتقداتهم التي هي شكل من أشكال تناقضات التوراة إلى التكوين التاريخي للتوارة. ويقسم إلى ثلاثة أدوار:
الدور الأول:
وهو دور إبراهيم 1900 ق.م وكانت اللغة الأم هي الآرامية الكنعانية (قريبة من الأم) وحفيده يعقوب كانت لغته آرامية كنعانية، كإبراهيم، وكذلك أولاده ـ كلهم آراميون.. وقد انتهى هذا الدور بهجرة إبراهيم وأسرته إلى مصر وانضمت إلى يوسف وذابت بالمجتمع المصري وبالمصريين. وتدعي التوراة أنهم بقوا 600 سنة ولم ينصهروا بالمصريين؟!.
الدور الثاني:
في هذا الدور (بعد ستة قرون من الأول) جاء موسى وجماعته إلى أرض كنعان، ومعهم بعض الهيكسوس الذين دانوا بدين التوحيد الأخناتوني وسميوا بقوم موسى وكانت لغتهم مصرية. وقد نسبتهم التوراة إلى أسرة يعقوب وإبراهيم، كما نسبت موسى إلى كهنة بني لاوي ابن يعقوب، وتقول التوراة عن موسى أنه “تربى في بلاط أخناتون واتخذته ابنة فرعون ابناً لها ثم تزوج من امرأة كوشية (أثيوبية)” واسمه مصري صميم تسمى به أباطرة عصر الإمبراطورية الفرعونية (أحمى أو أح موسى ـ تحوتمس ـ أو تحوت موسى ـ وتحوت إله مصري تعني رب الحكمة) كان عبداً ثم شكل الطائر إيبيس (أبو منجل) في الدلتا وبعد أن وجد لنفسه موطناً جديداً في مصر الوسطى طار إلى القمر وهو الذي يدير الزمن ويشرف على نظام العالم المتجدد لذلك ظهر اسمه مسطوراً في قصتي خلق العالم والإله أوزيريس)ًًً ًًً
الدور الثالث:
ويبدأ من السبي إلى بابل 600 ق.م إلى 586 ق.م ويهود هذا الدور هم بقايا جماعة يهوذا المنقرضة، وهم الذين كونوا الديانة اليهودية وكتبها في بابل ومارسوا طقوسهم هنا وأشرف عليها الكهنة ودونوا أهم فصول التوراة والتمهيد لتدوين التعاليم باسم التلمود البابلي. وقد صور السبي هذه الديانة باليهودية.. وعليه صاروا يسمون باليهود واليهودية.. ولغتهم آرامية مقتبسة (آرامية التوراة) إذ كانوا يعرفون السومرية والهيروغليفية ـ وثبتوا في أسفارهم التي كتبوها نسبهم لإبراهيم وقصة الأرض الموعودة. ولما قدم اليونانيون وضعوا أصحاحين في فلسطين هما: المكابيون 1-2 وأضافوهما إلى التوراة اليونانية ثم ترجما إلى اللغة الجديدة “العبرية” (167-37 ق.م) وهما يشرحان وقائع وأحداثاً وقعت في عهود آشور وبابل والإغريق ولا دخل لموسى وكتابه بها..
أما طائفة الصدوقين (نسبة إلى مؤسسها ورائدهم الأول الكاهن “صدقة أو صدوق”) فهم يشبهون السامريين في معتقداتهم وظهرت في عهد المكابيين وتنتمي إلى طبقة الكهنة وبعض الكتبة من اليهود الذين يميلون إلى مسالمة الرومان وكان لها ممثلون في السنهدرين (20 عضواً من أصل 72)، واعتنق الصدوقيون البعث والنشور واعتقدوا بأن العقاب يحصل في الحياة وخالفوا الفريسيين الذين يعتقدون بأن الصالحين من الأموات سينشرون في الأرض ليشتركوا في ملك المسيح المنتظر ويدخلوا في دينه. ولا يقبلون من التوراة إلا خمسة أسفار ومنهم خرجت طائفة القرائين: وقامت هذه الحركة على إنكار التلمود وتعاليم الربانيين والحاخامات وتمسكوا بأسفار العهد القديم التي نادى بها السامريون والصدوقيون والاكتفاء بالتوارة. وظهرت في القرن السادس الميلادي في بغداد وفي فارس واشتهرت بتزمتها بالطقوس ويوم السبت.. ثم ظهرت على لسان يهودي من أهل سورية يدعى “المسيزنيوس” عام 720م ودعا اليهود بأن “اتركوا تعاليم التلمود” وصار أتباعه يدعونه بالمسيح المنتظر، حتى ضاق به يزيد بن عبد الملك (720-624م) ذرعاً فأمر بتسليمه لليهود أنفسهم ليتدبروا أمره، ثم ظهر داع يهودي آخر من أصفهان هو “عوباديا بن عيسى(750م)” ونادى بنفس الإصلاحات السابقة وتعديل عديد من أحكام اليهودية وعرف أتباعه بالفرقة العيسوية نسبة لابن عيسى هذا، ويقر أتباعها بنبوءة عيسى ومحمد.. وفي القرن الثامن الميلادي قامت طائفة يهودية أخرى ـ إصلاحية ـ أسسها الحبر داوود بن عنان دعت لرفض التلمود، وقد اصطدمت هذه الفرقة وغيرها من الفرق الإصلاحية من القرائين مع الربانيين إلى درجة القطيعة ورفض الربانيون الزواج منهم أو إزاجتهم بنسائهم، وقام الخليفة المنصور بسجن عنان هذا بعد أن شكاه الربانيون.. وبعد أن أُطْلعَ المنصور على أبعاد القضية عفا عنه.. ونفاه إلى القدس… وهناك بنى ابن عنان كنساً لـه ولأتباعه من جماعة القرائين، وقام بتأليف كتابين يدعو فيهما إلى تحرير التوراة من التلمود هما (كتاب الفرائض ـ وكتاب الفذلكة) ًًً
وبإلقاء نظرة سريعة على التلمود نجد أنه أقر حق تسلط اليهود على الأرض والبشر بالحرب. وذلك “لتتم لهم السلطة والثراء، وعندها يتهود الناس أفواجاً” ًًًً ونظر إلى الأديان الأخرى نظرة حاقدة موتورة فقالوا عن المسيحيين “أنهم سافلو الأخلاق ولا يستحقون المحبة والعدل” كما شتموا السيد المسيح ووصفوه بالمنافق والدجال.. وما إلى ذلك من كلام قبيح.. وقال التلمود البابلي (الأمورائيم والسبورائيم) بالتناسخ وهي فكرة بابلية هندية، أخذها حاخامات بابل وثبتوها في كتابهم هذا، وليست موجودة في الثنائيم. وذكر التلمود في تعاليمه الحياتية: الفلاحة والزراعة ـ الأعياد والمواسم ـ النساء وما يتعلق بهن من زواج وطلاق وإرث ـ النواهي والعقوبات ـ الذبائح والتقدمات والقرابين ومراسم الهيكل ـ التطهير، وهي ستة أقانيم يقوم عليها التلمود، ومقرونة بظروف الأحقاب السالفة وحياتها البدائية، أي أنها غير صالحة للخلود الإنساني ولا مقياس أبدي. وقد أخفي هذا الكتاب مدة طويلة (أربعة عشر قرناً) كيلا يطلع عليه المسيحيون خاصة بعد أن أصبحت ديناً عالمياً فخشيوا نقمة العالم المسيحي عليهم.. ولكنه انكشف عام 1243م. فأمرت الحكومة الفرنسية بإحراقه علناً بعد أن اطلعت على ما يحتويه من عبارات طعن وقذف وإهانة ضد المسيحية خاصة والأغيار عامة، ثم حرق عدة مرات في مختلف الأقطار والأزمان، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في عام 1168م. قام اليهودي موسى بن ميمون بوضع تفسير للمشنة بالعربية (بالمصرية الدارجة والكتابة بالحرف العبري) أسماه “السراج” كما وضع مصنفاً آخر في الفقه العبري استمده من التلمود وأسماه “تثنية التوراة” اعتمد فيه على التلمود البابلي وشيء من التلمود الأورشليمي، بحسب الحاجة.. كما وضع كتاباً آخر هو “دليل الحائرين” بحث فيه عن إمكانية تدعيم المعتقدات اليهودية بأدلة معقلنة لا نقلية. ثم قام بترجمة السراج إلى العبرية، ومن ثم انتقلت حركة الطوائف إلى أوروبا ومنها: طائفة القبالة والزوهر..
بعد انتشار التلمود ظهر رهط من الأحبار الذين تأثروا بالمعتقدات والأفكار الشرقية (ديانات فارس ـ والزرداشتية) فخرجوا بمجموعة باطنية من الأحكام حول أسرار الكون والإله والكائنات، وأنشأوا حركة عرفت باسم “الحكمة المستورة” في البدء وتسمى لدى اليهود “القبالة” (وتعني القبول أو تلقي الرواية الشفوية) ويرى القباليون هؤلاء أن هذه الروايات قد نزلت على القديسين من قديم الزمان، وتتنبأ بظهور المسيح المنتظر، وأن كتاب التكوين عندهم مستمد من موسى وهذا استمده من إبراهيم.. فيما استمد هؤلاء رواياتهم من القصص والحكايا الباطنية التلمودية ومذهب التصوف الذي راود الغاؤونيم، وكذلك من الفلسفة العربية ـ الأفلاطونية المحدثة.. ومن تعاليم القبالة التي انتشرت في أوروبة في القرن 12 أن الله فيها كائن مطلق وأن روح الإنسان تنتقل من جسم إلى جسم حتى تعود في النهاية إلى الله وتفنى فيه. واندمجت تعاليمها في وثيقتين: السفر جزء (الخلق) على لسان إبراهيم، والسفر هازوهر أو الاستنارة وقد جمعت روايات الاستنارة في كتاب واحد جامع سمي الكتاب المقدس الجديد وعرف بـ “الزوهر” وتعني النور أو الضياء أو الاستنارة وهي مأخوذة من عبارة في التوراة: “والفاهمون يضيئون كضياء الجلد” (دا: 12-3) وقد سمي بالاستنارة لأنه “ينير تفكير العقلاء كنور السماء” ـ كما شرحه واضعه “موسى الليوني 1250-1305م ـ بالآرامية في إسبانيا ـ وتعود نصوصه إلى زمن الحاخام سمعان بن يوشي من القرن الثاني عشر الميلادي ًًً وبنى القباليون تعاليمهم على خرافات المجوسية بما تشمل من فروع: الزردشتية والمانوية والمزدكية ومنها اليهودية أيضاً ومن تعاليمها انتقال روح الإنسان من جسم إلى جسم ـ وتسمى رحلة الروح، أو النفس الناطقة (نيشماه) أي أنها تتناقل: إما بالنسخ ـ من جسم إنسان إلى آخر مثله، أو بالرسخ ـ من جسم إنسان إلى جسم نباتي، أو بالمسخ ـ من جسم إنسان إلى جسم حيوان، أو بالفسخ ـ من جسم إنسان إلى جماد.. وتتصل الزوهر بالتوراة من حيث التأويل والألغاز بحيث أن كل حرف فيها يحمل معنى باطنياً ـ كما يعتقدون ـ وأن لا أحد غيرهم قادر على فهمها.. ومن أساطير وبدع الزوهر أن الحروف الإثني والعشرين من الأبجدية العبرية نزلت من السماء قبل الخليقة بستة وعشرين جيلاً وأنها نقشت بنار ملتهبة.. (علماً بأن العبرية مأخوذة بكليتها من الآرامية وأن معجمها واشتقاقاتها مأخوذة من الكلدانية والآشورية والكنعانية. وبمقارنة بسيطة بين الآشورية والكلدانية والعربية نرى أن هذه اللغات هي الأصل وأن العبرية هي إحدى لهجات الآراميين الشماليين (كما مر معنا فيما مضى). أما الحياة في رأي الزوهر فهي صراع بين الخير والشر وكلاهما يخدمان غاية مقدسة.. ومن مشاهير الزوهر: نجمان، وموسى بن ميمون (في الأندلس).. وتعتبر القبالة المصدر الذي استقت منه الجمعيات السرية الصهيونية تعاليمها ورموزها مثل فرسان المعبد، والبنائين (الماسونية) وكلها تقصد هدم النصرانية وإزاحتها من طريقها من أوروبا وخاصة في بولونيا. وقد تحدثت عن المسيح المنتظر (اليهودي) بأنه إما من نسل داوود أو من نسل يوسف.. ومن إشارات ظهوره قيام العالم الجديد الذي لن يكون كالعالم الحالي. وأن الناس سينضمون إليه.. ويقول الزوهر بأنه سيقوم بمحاكمة يشهدون فيها أعداء إسرائيل الأرضيين، وهذه البدعة مستمدة من حياة التشتت اليهودية في الفترة الرومانية فولدت لديهم الحقد، وسجل كتبة الزوهر هذه الخرافة كباعث للأمل في نفوس معتقديه، وقالوا بنهاية العالم لخدمة مصالحهم في عالم آخر مادي (أرضي) للانتقام من أمم الأرض التي عادتهم. وهناك من يقول إن فكرة المسيح المنتظر قد برزت بعد سقوط يهوذا وأسرهم في بابل وكل هذه البدع مستمدة من الزرداشتية ـ وجاء في سفر إشعيا: 9/6-7: يولد لنا ولد. ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً ويكون إلهاً قديراً وأباً وأبدياً رئيس السلام. تنمو رياسته. يجلس على كرسي داوود وعلى مملكته يثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد. غيرة رب الجنود تفعل هذا”.
ولما حلت بهم المطاردات والملاحقات (في عام 1553 حرق التلمود في إيطاليا.. وفي بولونيا اشتدت حملات الملاحقة لهم). فقالوا بأن هذه الفترة هي فترة ظهور المسيح 1648. فظهر في أزمير بتركيا يهودي آخر هو ساباتاي زيوي، فقال بأن المسيح هو “قبالي” وكون لـه أتباعاً ألغى تعاليم اليهودية ودعا إلى شطب اسم السلطان محمد الرابع من الخطب في المساجد وإحلال اسم ساباتاي المسيح محله.. ثم أضاف إلى اسمه ابن داوود وسليمان 1666. ثم عاد إلى استنبول ولكن الباخرة التي أقلته منيت بعاصفة هوجاء.. كادت تودي بحياة هذا المسيح المنتظر ابن داوود وسليمان إلى قاع البحر فيغدو طعاماً لأسماك البحر.. ولكن القدر “أنقذ المسيح المنتظر هذا” من الموت وسيق مكبلاً إلى الوزير الأعظم محمد كوبريلي.. وانتصر لساباتاي هذا روفائيل يوسف جلبي في مصر. وناتان بنيامين لاوي في غزة، وأمداه بالمال.. وهنا ساومه السلطان محمد الرابع وأقنعه.. فقبل هذا “المسيح المنتظر” العرض وأعلن إسلامه وصار اسم “هذا المسيح المنتظر” (محمد أفندي) وخصص لـه السلطان راتباً شهرياً..
غريب أمر هؤلاء الخطائين، فما أن تكشف حيلهم وألاعيبهم حتى يتوبوا ويعلنوا دخولهم في دين الخصم.. وهذا ما حصل مع اليهودي الذي افترى على عمر وعلى علي.. والحبل على الجرار.. ولم يكن ساباتاي المنافق الأخير.. وهو دخول تآمري بطبيعة الحال.. وأخذ ساباتاي يدعو خفية في طائفة الدونما (اليهود الذين خرجوا من إسبانيا واعتنقوا الإسلام تقية في الظاهر، ويمارسون طقوسهم في الخفاء ولا يتزوجون من غير الدونما) وادعى كذباً أنه يبشر بالإسلام بين اليهود.. فنفاه السلطان إلى مدينة دلسيكنوا في ألبانيا وتوفي فيها سنة 1676م. لكن دعوة ساباتاي لم تمت.. فقد قامت في بولونيا في القرن الثامن عشر حركة أخرى مشابهة قادها “إسرائيل البدولي” فأسس طائفة تدعى “الحسيديم” ًًًًعام 1740، واستمد تعاليمه من الزوهر لكنه لم يعتقد أن الكون صورة من صور الله بل إن الكون كله هو الله. وأن الشر عنصر فيه لأنه ليس خبيثاً في ذاته، بل في علاقته بالإنسان، وبذا فليس للخطيئة وجود مادي.. وهذا يشير إلى ناحية هامة هي أن إله اليهود يمثل الشر وإله البشر يمثل الخير فكان يهوه الطرف الآخر لله ولهذا يجب التدقيق في تعاليم هذا المذهب من هذه الزاوية.
وقد استخدم طرائق السحر والشعوذة للإقناع، وتبعه مريدون كثر.. وفي إثره قام داعية آخر هو “حويل بن أوري” اعتمد على السحر باسم الله.. ورفضوا القرابين والملكية الفردية، ودعوا إلى التعايش بين الشعوب.
وقد انتشرت الجمعيات والتيارات القبالية كطائفة الفرنكين (نسبة ليعقوب فرانك 1755م) ودعيوا بالزوهريين أو “إخوان الشعلة” في بولونيا. وعاش فرانك هذا في بذخ ترفي لا يعرف مصدره وانتهى الأمر به إلى اعتناق النصرانية (هذه المرة). وعلى أية حال فقد عدت طوائف اليهودية اثنتين وسبعين طائفة حتى الآن. وعندما وقع هذا الكتاب الممقوت في دائرة الملاحقة فطن بعض من أحبارهم إلى خطورة الموقف، فقرر المجمع الأعلى الكهنوتي في اجتماعه المنعقد عام 1631م في بولونيا، حذف العبارات المهينة للغير “الغوييم” وخاصة تلك التي تدعو المسيحيين “بالسفلة وعديمي الأخلاق” والقذف على السيد المسيح.. وعلى إثر ذلك قامت فئة من بينهم تدعى “الهكسلاة” ًًًًأو حركة الاستنارة، في أوروبا في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، فنادت بسيادة العقل في النشاط الحياتي. وقد اعتمدت هذه الحركة على فلسفة “جون لوك” الليبرالية، وعلى التجريبية الروسية القائلة بأن العالم تتحكم به قوانين وعلاقات يمكن لعقل الإنسان تفهمها والتحكم بها، وأن الإنسان ليس مخلوقاً صوفياً عجيب الأطوار غير خاضع للقوننة والتقويم بل أنه يتأثر بالبيئة الاجتماعية والحضارية.. وأن يكون العيش بحسب ما يمليه عقله بين الناس.. ونادوا باختلاط اليهود وترك عزلتهم الغيتو وإدخال التعليم العام في مدارسهم وأن ينفض اليهودي عن نفسه قشرة العنصرية القومية المتخلفة والاندماج ببقية الشعوب وأن يكون ولاؤه الأول والأخير لبلده الذي يعيش فيه لا لانتماءاته الدينية.. ثم قالوا: “بأن اليهودي يهودي في منزله وإنسان عادي خارجه” ورفضوا الشخصية اليهودية المتخلفة ـ البدائية ـ الغارقة في طقوس لا علاقة لها بالزمان والمكان.. وقد هزت الهكسلاة المجتمع اليهودي برمته وحركت اليهودي الذي يعيش على هامش التاريخ والعصر.. خاصة وأن أحد أعضاء الثورة الفرنسية أعلن عام 1789: “أننا نرفض منح اليهود كأمة أي شيء، أما اليهود كأفراد فإننا نمنحهم كل شيء”.. فأعاد الهكسلاة تقويم رؤيتهم، وصياغة أنفسهم ليواكبوا العصر..
وكانت فلندا في شمال روسيا وأوديسا جنوبها مركزاً لهذه الدعوة وانبثق عنها نشاط أدبي يهودي في ألمانيا بلغة جديدة (اليديش الألمانية القديمة) ويعتبر موسى مندلسون 1629-1786 الألماني اليهودي، فيلسوف الهكسلاة ومنظرها الأول، فحاول تحطيم الغيتو العقلي الداخلي وعزا تخلف اليهود إلى الحاخامات والكتب الخرافية، وسيطرتها على اليهود ـ في كتابه: “أورشليم أو انعتاق اليهود المدني” 1876، وقال: “إن هناك أسساً ثلاثة لليهود :
1- وجود الله.
2- الإيمان بالعناية الإلهية.
3- خلود اليهودية”..
ًًًً وترجم أسفار موسى الخمسة للألمانية. وقد أثر مندلسون في التوصل إلى صيغة يهودية عصرية تجانب المنطلقات اللاتاريخية واعتبر التلمود جامداً في عصره ويجب التكيف مع العصر الحالي إلا أنه وبعد حدوث المجزرة القيصرية لليهود 1881 تحولت الهكسلاة من الاندماج إلى الانبعاث القومي والانعزالية ونمو الحركة الصهيونية بديلاً عن الهكسلاة كمنظمة علنية، والماسونية كمنظمة سرية تدعو إلى المحبة والإخاء في الظاهر.. وقد كانت هذه الحركة تبريرية أو وجهاً من وجوه التقية في أوروبا لتجاوز ظروفهم الصعبة آنذاك. وعقدوا مؤتمراً لهم في بطرسبرغ 1885 تقرر فيه:
“أن الكتاب المقدس ليس من صنع الله، بل هو وثيقة من صنع الإنسان” ومن أعضائه هولدهايم ًًً ومن زعماء هذه الحركة أبراهام غايغر (1830-1874)، دافيد فرايدلنر (1756-1834) وقد نجح اليهود بهذه البرغماتية ـ التبريرية من تحقيق بعض الإنجازات الدولية لصالحهم منها: دستور الولايات المتحدة الذي سمح بالعمل بغض النظر عن الدين (1787) ولعل في هذا الدستور أثراً كبيراً في صالح اليهود. وإعلان حقوق الإنسان في فرنسا (1789). حيث كانت الماسونية منتشرة بين صفوف رجالاتها ومفكريها ـ وفي 1791 منحهم المجلس الوطني للثورة الجنسية الفرنسية. وألغي الغيتو في إيطاليا 1797 – 1812 ومنحهم فريدريك وليم الثاني حق المواطنة البروسية ـ وإعطاؤهم الحقوق كاملة في النمسا والمجر 1767- وفي 1870 سقطت روما في أيدي القوات الاتحادية وكان لأموال اليهود دور كبير فيها مما منحهم كامل الحقوق. واستفادوا من ثورة 1917 في روسيا من الحرية التي قدمتها الثورة البلشفية والمساواة بين الناس في الحقوق والوطنية.. ًًًً وبعد هذه التحولات ما لبثت الإصلاحية اليهودية “الهكسلاة” أن عادت إلى سابق تخلفها وخرافاتها العنصرية.. فقامت حركة مضادة تزعمها الحاخام مسون روفائيل هرش (1808-1888) وزكريا فرانكل (1801-1875) وقالا بالتطوير من داخل اليهودية لا من خارجها. رغم إيمانهما بأن التوراة خرافات شفهية “ابتدعتها الربانية لكي يضيفوا لوناً من الحقانية على ما أقره الإجماع الشعبي ًًًً واقترح الحاخام الصهيوني سلومون شيختر (1847-1915) على إسرائيل المجمعة على هويتها “كلال إسرائيل” بدراسة التراث والخرافات اليهودية.. ومن هذه الطائفة بن غوريون الذي أعلن: “بأن أسطورة الوعد الإلهي بمنح اليهود أرض كنعان، سواء أكانت حقيقة أم لا فالمهم أنها مغروسة في الوجدان اليهودي ويجب أن تبقى سارية المفعول حتى بعد أن يثبت أن الوعد المقطوع هو مجرد أسطورة شعبية ليس لها أي مصدر إلهي” ًًًً ولم تكن هذه الصورة من التقلبات والذرائعية هي الأولى والأخيرة في التلون اليهودي عبر التاريخ.. فقد سبقتها حركات قديمة في إطار التلمود نفسه أي أن الحركات اليهودية قسمان: قسم سياسي، وآخر ديني، ولضرورة البحث نعود إلى بحث الجانب الديني من تطور التوراة تاريخياً، أو التلفيق التوراتي لحقائق التاريخ بالمعنى الأدق. وتقوم هذه الحركة الدينية على مصدر أساسي هو التوراة والتلمود وبعد كل هذه التحولات فقد اقترح توينبي على اليهود رأياً بل حلاً مفاده: “إذا أراد اليهود أن ينجوا من الكذب، عليهم بكتابة تاريخهم من جديد وبما ينطبق مع الحقائق بعيداً عن اغتصاب أرض فلسطين.. وأن إسرائيل برمتها مهما كانت وما تزال وستبقى من الوجهة القانونية ملكاً للعرب الفلسطينيين الذين أجلوا عن ديارهم بالقوة”. إلا أن هؤلاء الملفقين المحتلين لم يقبلوا بفكرة توينبي لأنهم خدام الدول والإمبراطوريات ولأن مشروعهم هو مشروع استعماري غربي وقد تعهدوا أن يكونوا خدام هذا المشروع ومنفذيه.
ويقول سوكولوف في كتابه “كيف نما الشعب اليهودي”: “أن الشعب اليهودي نزح إلى فلسطين من بلاد الرافدين في حدود 4000ق.م بقيادة إبراهيم وكان عددهم بحدود 4000 شخص” وأن هذا الكتاب يدرس في جامعات أوروبية وأمريكية، للترويج للصهاينة وبهذه الأفكار الساذجة التي تعوزها الدقة والمعلومات التاريخية الصحيحة. فالألف الرابعة ق.م هي العصر الحجري وتبعد عن إبراهيم 2700 سنة فقط!!..
ًًًعن مراجع وكتب تراث ودين ووثائق تاريخية ًًً