كل كلامٍ يقال عن حديث القلب يذوب ، لا يبقى حينها للّغة مجالاً للتعبير ، وكيف بإستطاعة بضعة أحرف على أن تقول شيئاً ما عن كل هذا الطوفان الذي يجتاح العالم ، وهذا الإعصار الذي لا يهدأ ، وعن الأشياء التي لا تعرف كيف تقولها للآخرين . عن هذا الشعور الذي يلاحقكَ مراراً يقع في منتصف الإنسانية تماماً ، تلك التي تخلّى عنها الكثيرون لأنه ليس لديهم على الأرجح ما يجعلهم يعيشون قيد هذا الشعور ، وهو الأمر الذي يجعل من “الزومبي” حقيقة ، أولئك الأموات الذين لم يعودوا للحياة ، بل الأحياء الذين يعيشون كالأموات ..!
سيكون المستقبل الذي يحدّق بغضب ، بعيون المسلمين المقيمين في بلاد الغرب قاتماً بلا ريب مع تزايد الهجمات التي تُنفّذ باسمهم -شاؤوا أم أبوا- ، فيرتد اللوم الآن عليهم ، وقد يتطور اللوم إلى أفعال، عملاً بقاعدة أنّ العنف يولد العنف ، وأنّ رد الفعل يكون من جنس الفعل نفسه !. ولعل المسؤولية التي يتحملها المسلمون في بلاد الغرب ، والتي يسميها الجاهلون في أدبياتهم «بلاد الكفر» ، تكمن في وقوفهم على هامش الحدث ، واختيارهم الحياد في شأن يمسّ كينونتهم ، ويهدد سكينتهم ، ويُسبغ عليهم أوصافاً تخرجهم من حيّز الإنسانية ، وهو أمر لا يرضاه أحد .
لن ينفع خطاب المظلومية والإقصاء والتهميش لتبرير إقدام شخص ، عندما يبلغ العشرين من عمره ، على دهس أشخاص مدنيين بينهم أطفال في ساحة عامة مخصّصة للتنزه وتزجية الوقت ، وليست ساحة معركة أو تدريب على الرماية التي تستهدف قنص المسلمين أو القضاء عليهم . فما الذي يسوّغ ذهنياً ومنطقياً أن يعطي شخص ما لنفسه ، بتفويض إلهي مزعوم ، حق وضع نهاية لهذا الفرح الإنساني البرئ ، وتحويل البهجة إلى مأتم وفضاء من الموت والدم ؟.
المسلمون في الغرب مسؤولون بقدر ما عن ذلك . لأنّهم لا يعملون بما يكفي لإنتاج أدبيات لإسلامهم تتماشى مع البيئة الجديدة التي انتقلوا إليها، فالإسلام الأفغاني لا يصلح للبيئة الأوروبية لأنّه متشدّد وغوغائي ولا يمتثل لاشتراطات الزمان والمكان، ولا يدرك هذا الإسلام الأفغاني ومثيله مما تعتنقه الجماعات الإرهابية أنّ النص الديني ثابت ومعناه متحوّل، وأنكم يا معشر المسلمين، أدرى بشؤون دنياكم، كما قال النبي الكريم.
إنّ ما يملأ قلوب أولئك المغرّر بهم من الشباب مغسولي العقول، ليس القيم النبيلة الجامعة في الدين، وإنما خطاب الكراهية الذي أشاعه أبو بكر البغدادي، جرياً على سلفه بن لادن، إذ توعد الأول، قبل ثلاث سنوات في خطابه الذين ينهل منه أولئك المجرمون السفهاء، بأنّ «للمسلمين اليوم أقداماً تدوس وثن القومية، وتحطّم صنم الديموقراطية» علاوة على أنّ العالم في نظر البغدادي هو ذاته الذي تجلى لابن لادن: فسطاطان اثنان، وخندقان اثنان. فسطاط إسلام وإيمان، وفسطاط كفر ونفاق. وفي الفسطاط الثاني تقيم كلّ «أمم الكفر، وملله. تقودهم أميركا وروسيا، ويحركهم اليهود».
التأسيس للحظة مجابهة هذا الخطاب، وتأويل النصوص الدينية وَفقاً لطبيعة «الفسطاط» الجديد يتطلب شجاعة كبرى من لدن الفقهاء وعلماء الدين والأكاديميين المنشغلين في الفضاء العام من أجل إرساء قواعد جديدة للتعامل الديني تراعي مقاصدية الشريعة، وتعمل على تبيئتها في التربة الجديدة.
ويمكن، من دون إمعان في الحيثيات، إطلاق الظنّ بأنّ المسلمين في بلاد الغرب بغالبيتهم يعيشون إسلامهم كما تراءى لهم في النصوص والشروحات الأولى التي اعتنقوها قبل هجرتهم إلى «بلاد الكفر» التي وفّرت لهم حاضنة ليمارسوا شعائرهم الدينية بحرية، لظنّ الغرب «الكافر» أنّ الدين، أيّ دين، هدفه إسعاد البشر، ونشر الخير والمحبة، وتوطيد السلام، وتوقير الحياة! وما علمت تلك المجتمعات الغربية أنّ الدين الذي بين ظهرانيها يعطي أفراده والمنتسبين إليه رخصة لقتل الأطفال والمتنزهين والمستمتعين بالسهر والجمال، سواء بحزام ناسف أو سيارة مفخخة أو بشاحنة تدهس بلا هوادة كل من تواجهه وتهرسه، بلا رحمة، تحت عجلاتها.
فمن أين جاء كل هذا العنف، ومن أين تنبع كل هذه القسوة، ومن أية بئر يملأ هؤلاء المهووسون بالقتل دلاءَ ذرائعهم. ثمة شيء محيّر أمام أفهام الغربيين: أي دين هذا؟ إنه بحق ليس ديناً، وإنما أيديولوجيا دينية ميليشياوية مدمّرة تكره الحياة وتستأنس بمشهد القتل مثل سفّاح مريض يتلذذ بدم ضحاياه!
على المسلمين في الغرب، إن أرادوا النجاة أن يذهبوا بعيداً في إنقاذ الفهم الديني للنص من تأويلاته التي اقترحها فقهاء الظلام. وإن لم يفعلوا ذلك، فليس من المستبعد أن يكونوا هم في المستقبل من ينهرسون تحت عجلات الشاحنات، ولن يعدم حينها من يتلذّذ بالمشهد. ففي عالم مجنون كالذي نعيشه صار الخيال الفانتازي هو الممكن الوحيد !.