تبدو كلمة “شركات الصرافة” نوعاً من الرفاهية عندما تأتي في سياق جملة تتحدث عن سوريا، ولكن التفكير للحظات يوضح المسألة برمتها. فضيق الحالة الاقتصادية الشديد للسوريين، والغلاء الخيالي الذي سيطر على السوق، وارتفاع سعر الدولار غير المسبوق جعل معظم السوريين يعتمدون في حياتهم على قريب أو ابن أو أخ يعمل خارج سوريا، ليصبح موضوع تصريف العملة الأجنبية والدولار تحديداً حاجة شهرية لا غنى عنها لمتابعة الحياة.
ويعود احتكار وتشبيح النظام للواجهة في كل ما يصنف بأنه حاجة للسوريين. فقد استخدمت شركات الصرافة شبيحة من نوع آخر للتعامل مع المواطنين، لتنتقل الإهانات إلى كل مواطن يضطر أن يصرف “دولاراً” واحداً، وكأن الإهانات واجب قومي على كل من يعمل مع النظام حتى لو كان موظفاً، أو كأن الوظائف اقتصرت على أولئك.
منع تصريف أكثر من 500 دولار
أصدر البنك المركزي قراراً بمنع تصريف أكثر من 500 دولار لأي مواطن، ولمرة واحدة في الشهر بالسعر الذي يحدده البنك. ومن المعروف أن اللجوء للسوق السوداء في سوريا مخاطرة ومجازفة كبيرة لن تحمد عقباها، فإن تم القبض على الشخص وهو يقوم بتصريف عملة أجنبية في السوق السوداء، سيمر بالتأكيد على جميع فروع الأمن، ما يعني اضطرار الناس للقبول بقوانين البنك المركزي واللجوء لتلك الشركات المرخصة.
وعلى الرغم من وصول شكاوى كثيرة إلى “المركزي” عن طريقة تعامل موظفي شركات الصرافة مع الناس، فإن أحداً لم يتخذ أي إجراء أو يفتح تحقيقا. فحياة السوريين تحولت إلى سلسلة من الانتظار في طوابير طويلة، وها هي طوابير تصريف الدولار تنضم للخبز والغاز والبنزين.
إذلال الناس
ويبدو أن تلك الشركات لا تكتفي بالأرباح التي تحققها، لتنتقل إلى مهمة جديدة تتمثل بإذلال زبائنها. فبحسب “ع.م” في مكتب إحدى تلك الشركات الواقعة في ساحة المحافظة في قلب دمشق، وبسبب الازدحام الشديد والطابور الطويل قام أحد رجال الأمن بضرب المنتظرين بالحزام الخاص به.
وفي شركة أخرى في المنطقة ذاتها “حيث تتركز أكثر من شركة لأهمية المنطقة الحيوية” وصلت سيارة من الأمن الجنائي قبل يومين واعتقلت عددا من المنتظرين أمام شركة الصرافة، واستخدم رجالها العصا الكهربائية في محاولة لإقناع الناس أن الأبواب أغلقت ولا تبديل للعملة اليوم.
من جهته، يروي “م.هـ” ما حدث خلال وقوفه أمام شركة “أ” للصرافة قبل 4 أيام، قائلاً: “تفنن موظفو الشركة والعساكر الواقفين في إذلال الناس والدوس على كرامتهم، إذ إن الشركة قالت للناس المتجمهرين أمام أبوابها إنه سيتم تسجيل الأسماء عند الساعة 3 عصراً، وسيتم استلام المال في اليوم الثاني عند العاشرة صباحاً، لكن في اليوم الثاني لم يحصل أي منهم على شيء مقابل ما يحمله من الدولارات، ليخرج موظف ويخبرهم بأن الشركة أغلقت وعليهم العودة في اليوم التالي، ما جعل الناس يصرخون فاقدين أعصابهم. وفي لحظة هجم عدد من الجنود عليهم، وضربوهم بأعقاب البنادق، ليغطي الدم وجوه عدد من الأشخاص. ووقعت أكثر من امرأة على الأرض، ليفرغ أولئك العساكر كل غضبهم على شاب عشريني صرخ بوجههم، فأسقطوه أرضاً موسعينه ضرباً”.
استعانة بالشبيحة
أما لماذا تستعين تلك الشركات برجال الأمن والشبيحة، فذلك يعود حسب الأستاذ “ي.ب” إلى أنها ملزمة بمبلغ معين يومياً، ولا يمكنها تجاوزه بناء على تعليمات البنك المركزي، وعلى اعتبار أن كل شركة لها زبائن أو أقرباء لأصحابها، وهؤلاء يجب أن يحصلوا على ما يريدون بأسرع وقت. ما يؤدي لتأجيل عدد كبير من الناس إلى اليوم التالي، ويؤجج موجة الاحتجاج من قبل الطوابير المنتظرة لأيام أمام أبواب الشركة، وهذا يؤدي بدوره لتدخل الشبيحة والأمن لتفريق الناس، مع المبالغة بالإهانات على أمل أن يصابوا باليأس ويعودوا إلى بيوتهم بعد انتظار يوم طويل بسهولة بلا أي نقاش.
حواجز تتكاثر
تتوسع احتمالات الموت قهراً في العاصمة السورية، وتبدو دمشق معزولة عن كل ما يمت للحياة بصلة.
حواجز الشبيحة التي أصبحت تتكاثر في دمشق وريفها، باتت مهماتها تتزايد مع الأيام. فبعد مهمة تفتيش حتى سيارات الموتى وتوابيتهم، بدأت تأخذ على عاتقها مهمة الجباية و”تشليح” علني للمواطنين.
كما قامت بتهديد المواطنين وإعلامهم بوجوب حملهم لفواتير الكهرباء والمياه، وبدأت العملية في ريف دمشق لتمتد الشهر الماضي إلى دمشق، ويعود ذلك الإجراء إلى توقف السوريين عن دفع الفواتير لضيق الحالة الاقتصادية الشديد، عدا عن انقطاع شبه كامل لتلك الخدمات.
ويبدو أن النظام السوري قرر أن يدفع رواتب الشبيحة من جيوب المواطنين أنفسهم، فخصص أكثر الشبيحة عنفاً لوضعهم على تلك الحواجز، علهم يتفننون بإهانة الناس، طالبين منهم حمل فواتير عن الأشهر الماضية كلها، ولا فرق في ذلك ما بين نازح من محافظة أخرى هرباً من القصف وما بين آخر ينتمي لدمشق.
ويروي “أحمد” ما حصل أمامه على حاجز في شارع بغداد في قلب دمشق: حين “حاولت امرأة خمسينية أن تقنع حاملي السلاح أنها ستدفع جميع الفواتير، ولكنهم رفضوا تصديقها موجهين لها الشتائم والسباب.
وطلبوا منها أن تتصل بزوجها لتخبره أنهم سيحتجزونها إلى أن يأتي إليهم بالفواتير المتوجبة عليهم، وعزوا ذلك إلى أنهم قاموا بالتنبيه مراراً وتكراراً لضرورة حمل الفواتير، وأنها يجب أن تشكرهم لأنهم أبقوها على قيد الحياة هي وعائلتها”.
المواطن الصالح والقنابل الموقوتة
صفة “المواطن الصالح” في دمشق باتت مقتصرة على المواطن الذي يدفع فاتورة منزل يسكنه، وفي كثير من الحالات يكون هذا المنزل لغير ساكنه، لأن منزله تهدم جراء قصف النظام له، وربما يكون أولاده ماتوا في القصف، ولكنه وفي سبيل أن لا يقتل ويهان على حاجز ملزم بدفع فواتير حياته المهدمة، وإلا فالقتل مصير كل من لا ينفذ الأوامر ويدفع فاتورة الكهرباء المقطوعة، والهاتف الذي لم يعد لاستعماله فائدة والمياه التي يشربها للبقاء على قيد الحياة.
قتل العديد من السوريين أمام حواجز بلدهم، وإن كان النظام السوري يحاول أن يرسم خارطة لسوريا، متعمداً ارتكاب الجرائم أمام أنظار وعيون الآخرين، ومع تحول الوطن إلى مقبرة جماعية، ومع إدراك سكان العاصمة أن القصف الذي دمّر حمص والزبداني وقدسيا سيدمر مدينتهم، وما الهدوء الذي تدعيه وسائل الإعلام التابعة للنظام إلا أكذوبة، تصبح الحواجز التي تنتهك كرامة ذلك الوطن أقرب للقنابل الموقوتة التي ستنفجر بيد صاحبها.