كم كانت آمال التونسيين كبيرة في الإصلاح والبناء، وكم تأثروا بإجراء انتخابات 2011 فهبّوا من مراقدهم من المدن والقرى، شيبا وشبابا، رجالا ونساء… الكلّ متحمّس للمشاركة في هذا النشاط السياسي الذي يعدّ آلية من آليات تكريس الديمقراطية. ولكن شتّان بين الأجواء الاحتفالية لسنة 2011 والمناخ النفسي الذي يحيط بالعملية الانتخابية لسنة 2014.
اليوم تتعدّد المخاوف وتسيطر على الفاعلين السياسيين. فالكلّ يريد أن يكون في الصدارة وأن تكون له السلطة ولأنّ الخوف يستبد بهم فإنّ أخطاءهم السياسية تتضاعف وأداءهم يهزل. وبما أنّ تصورات أغلب السياسيين لكيفية تسيير البلاد محدودة ومفتقرة إلى الجدّة والطرافة والابتكار فإنّهم يتكئون على الرصيد المشترك والمتداول بين الجميع. يحفظون عن ظهر قلب عبارات من قبيل ‘منوال التنمية، العجز التجاري، الخلل الاقتصادي، العدالة الاجتماعية، الأمن الغذائي، الأمن القومي… وهي عبارات مجّها التونسيون من فرط الاستماع إليها. هذا بالإضافة إلى هيمنة حضور الخصم السياسي في الخطاب. فالنهضة تشير إلى حزب النداء وتسخر من ادعائه الانتماء إلى الحداثة، وتتهمه بأنّه يستغل حالة الخوف ليبرز في صورة المنقذ، وحزب النداء لا ينفكّ عن ذكر النهضة مذكّرا بـ “المصائب” التي جرّتها على البلاد والعباد كالإرهاب، وتدني المقدرة الشرائية، والاستحواذ على مواقع صنع القرار، وتمكين أنصارها من امتيازات متعددة حتى وإن اقتضى الأمر مخالفة القانون… وبقية الأحزاب تتذمّر من تغوّل الحزبين وتعبّر عن خوفها من عودة الاستبداد واستحالة تحقّق التعددية السياسية الفعلية في ظلّ تجاهل حزب النداء وحزب النهضة لبقية الأحزاب الناشئة.
***
ولئن وفّرت وسائل الإعلام فرصة للمترشحين للتعبير عن الخطوط الكبرى لبرامجهم فإنّ هذا التدخّل السريع تحوّل إلى مادة للسخرية تتداول على صفحات الفيسبوك فهذا برنامجه نشر الإسلام وتوطيد العلاقة بين الأديان، وذاك نسي اسم الحزب الذي ينتمي إليه، وتلك ارتبكت أمام الكاميرا فما بلغّت وما أفصحت، والأمثلة متعددة.
ولا يقتصر الأمر عند هذا الارتباك وعدم الاستعداد الجادّ للظهور في وسائل الإعلام إذ عبرت مختلف مكونات المجتمع المدني عن مخاوفها من انتشار المال السياسي وعجز هيئة الانتخابات عن السيطرة على المشهد. فالأحزاب التي تمتلك المال تحاول شراء ذمم الناخبين بتوزيع المال أو الخرفان أو المَحافظ أو تجهيزات منزلية أو إصلاحات بالبيوت… مستغلة عوز الناس لصالحها، وقلة خبرة الأعضاء والمراقبين بمسالك وفرتها منظومة الفساد.
وبالرغم من وعي أغلب التونسيين بأن السياسيين “بلا أخلاق” فإنهم ما انفكوا عن حضور بعض الاجتماعات للفرجة وجمع النوادر ونقل أغرب الوعود التي يستمر بعض السياسيين في التصريح بتحقيقها بل إنّ منهم طائفة باتت تقايض منح الصوت مقابل الشغل.
الكلّ يعلن انتماءه لتونس فحزب النهضة اتخذ شعارا له “محبة تونس مش كلام” والهتافات في الاجتماعات “حبّ الوطن من الإيمان”… ولكن سلوك القوم يفضح ويعري العملية الانتخابية التي شابتها الكثير من النواقص بل بات التشكيك في نزاهتها على كل لسان.
***
ولأنه’ كما تكونون يولى عليكم’ فإنّ التحدّي الأكبر الذي يواجه تونس اليوم هو كيف نضمن نسبة مشاركة مقبولة؟ إنّ عزوف الشباب متوقع منذ حاد المسار الانتقالي عن طريقه وارتأى القادة السياسيون تهميش هؤلاء. كما أنّ مقاطعة أغلب السلفية للانتخابات منتظرة ما دام الدستور ‘علماني’ وهم يطالبون بدولة الإسلام التي تطبق شرع الله يضاف إلى هذه الجماعات فئة المكدودين الذين لا هم لهم سوى سد الرمق واليوم تزداد تصريحات عدد من المواطنين بأنّهم لن يشاركوا في مسرحية مقرفة.
فكيف يمكن الردّ على هؤلاء: حجج المواطنة، والديمقراطية التشاركية، والسلطة للشعب، وأنجزنا ثورة لنغيّر مصيرنا، … ما عادت تقنع من آمن بأنّ التغيير يجب أن يكون الآن وليس غدا، وأنّ الأوضاع ينبغي أن تكون بالضرورة مخالفة لما كان عليه الأمر بالأمس… الكلّ يحسب الربح قبل الخسارة، يفكر في نفسه قبل الآخرين… وعندما تفكّك الوحدة الوطنية وتطغى الفردانية يعسر على المجتمع المدني أن يقاوم وأن يؤكد أننا نعيش ‘عرسا انتخابيا تتكرس فيه قيم الديمقراطية” هيهات هيهات.