كتب خطار أبو دياب في “العرب”:

يطرح ابن خلدون عنصر الشعب كأحد العناصر الهامة للدولة، وهو لا يكتفي بذلك بل يؤكد أولوية هذا العنصر على السلطة بشكل خاص عندما يقول: “إن الملك والسلطان من الأمور الإضافية، فالسلطان من له رعية..” (من كتاب المقدمة).

بيد أن الأكاديمي الفرنسي ايف لاكوست يعتقد أن ابن خلدون يقصد القبيلة القائدة عند ذكره للشعب والسكان مستندا إلى نظريته في العصبية كأساس للحكم. وفي هذا الجدل غير المباشر حول الشعب والرعية والعصبة الموالية تبرز ثغرات تكوين الدولة العربية المعاصرة ومساعي الحكام في تشكيل تركيبات سكانية تسمح ببسط نفوذهم. وإذا كان هذا الأمر لا يقتصر على سوريا وجوارها، فإن تطورات النزاع فيها منذ أكثر من ثلاث سنوات تبين بجلاء خطورة ما يحدث من فرز سكاني وتطهير يستهدف فئات بعينها في مسعى لتغيير وجه البلد وربطه بمشروع امبراطوري إيراني متغلغل من العراق إلى لبنان، دون أن يزعج ذلك القوتين غير العربيتين أي إسرائيل وتركيا.

عبر التاريخ لم تكن الحدود الجغرافية لبلاد الشام مستقرة، وهي تختلف جوهريا عما هي عليه التقسيمات السياسية والإدارية الراهنة والتي هي وليدة اتفاق سايكس- بيكو ووعد بلفور. هكذا منذ نكبة فلسطين إلى حروب لبنان (1975-1990) والحروب حول العراق وعليه (1982-2014)، حفلت هذه المنطقة من العالم بالعديد من الانقلابات والتغييرات وأبرزها النزوح الفلسطيني ومشاكل الأقليات القومية والدينية من لبنان إلى العراق، لكن ما حصل في سوريا منذ 2011 ينذر بمخاطر كبيرة نتيجة حجم التغيير في التركيبة السكانية وآثاره المحتملة على وحدة الأراضي السورية وتوزع السكان فيها، بالإضافة إلى امتدادات هذا الوضع إلى دول تركيبتها الديمغرافية هشة في الأساس مثل الأردن أو لبنان، أو العراق الذي لم تحسم فيه المسألة الكردية بعد.

يشكل المسلمون الغالبية العظمى من سكان سوريا الذين يقاربون 23 مليون نسمة، وتقدّر إحصائيات موثوقة أن نسبة أهل السنة تبلغ أكثر من 74 بالمئة من إجمالي السكان (إلى جانب العرب السنة هناك المكوّنات غير العربية وأبرزها الأكراد ثم التركمان والشركس والشيشان والبشناق (البوسنيون) والأرناؤوط (الألبان). تعيش في سوريا أقليات إسلامية أكبرها العلويّون (11 بالمئة) والموحِّدون الدروز(3 بالمئة) والشيعة الجعفريون (1 بالمئة) والإسماعيليون (0.5 بالمئة). وهناك بالطبع أقلية مسيحية متنوعة منتشرة على امتداد الأرض السورية.

وحاليا تشير الأرقام التقديرية للتهجير واللجوء داخل البلاد (من منطقة إلى أخرى)إلى نحو ستة ملايين نسمة، أما الأرقام التقديرية للنزوح واللجوء خارج البلاد فتقدر بنحو ثلاثة ملايين نسمة. وبالنسبة إلى المدن الأكثر تضررا فهي حمص وحلب والقصير ودرعا ودير الزور وضواحي دمشق، أما المناطق الريفية الأكثر تضررا فهي ريف حمص وريف إدلب وريف حماه وريف درعا. وتدل هذه البانوراما المختصرة على استهداف طال الأكثرية السكانية من العرب السنة ومراكزها العمرانية الكبرى، وكأن المقصود بعد بغداد وبيروت والقدس استكمال تهميش هذه المدن التاريخية وتغيير وجهها الأساسي. وبما أن الغالبية الساحقة من المهجّرين والنازحين تنتمي إلى الطائفة السنية، يطمح دعاة تحالف الأقليات إلى تركيب قاعدة أكثرية بديلة للحكم.

الأمثلة الساطعة منذ السبعينات تبين لنا تعمد تدل عليه خطط التمركز حول دمشق وحمص على سبيل المثال. ومن الأمثلة الحديثة المرسوم التشريعي رقم 66 بتاريخ 19 سبتمبر 2012 القاضي بإحداث منطقتين تنظيميتين في نطاق محافظة “دمشق” ضمن المصور العام لمدينة دمشق، ومن الواضح أن خطط الهدم تطال الأحياء الثائرة في جنوب دمشق وصولا إلى حرستا. وهناك ما تعرضت له تسعة أحياء في حمص ومخيم النازحين في درعا وريف مدينة السلمية.

إن التدمير المنهجي، الذي قام به النظام وتخطى في بعض الأمكنة الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، لا ينم فقط عن أطماع عقارية مستقبلية أو عن انتقام من حاضنات الحراك الثوري، لكنه يؤكد على التغيير الديمغرافي لإعادة تركيب البلاد إداريا واقتصاديا وسياسيا. إن عملية التفريغ الديمغرافي الممنهجة تهدف إلى فرض أمر واقع على الأرض في سوريا الحيوية أو المفيدة للنظام عبر السيطرة على ريف دمشق والعاصمة والقلمون مرورا بحمص للوصول إلى الساحل السوري.

والحيز الجغرافي المذكور يحافظ على مركز القرار في دمشق، وعلى خطوط التماس مع إسرائيل كما يشكل امتدادا طبيعيا لمنطقة البقاع اللبناني، حيث معقل حزب الله وقواته المسلحة. وهكذا تبرز مصلحة إسرائيل في استمرار السيطرة على الجولان وعلى الجار المنهك ذي النظام الأقل سوءا حسب التعريفات، كما يخدم هذا الواقع الجديد مصلحة إيران ومشروعها الإمبراطوري عبر المحور الممتد من طهران إلى بغداد ودمشق وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط كما كشف منذ أيام دون لبس مستشار خامنئي الجنرال يحيى رحيم صفوي. ويخدم هذا التبديل الديمغرافي والجيوسياسي مصالح روسيا للحفاظ على قاعدة طرطوس ومراكزها على الساحل السوري.

وأتت معركة كسب الأخيرة وكأنها تسهم في تركيز خط فصل بين العلويين في سوريا ونظرائهم في تركيا، مما يعطي أيضا منفذا بحريا صغيرا لأية تركيبة إدارية جديدة في حلب أو جوارها. ومن يلقي نظرة على إحكام الكرد السيطرة على مناطق تواجدهم وما يجري من حروب النفط حول دير الزور، أو معارك جوار خط التماس مع الجولان ومسعى إقامة جدار طيب، وهو ما يُذكّر بما جرى في جنوب لبنان، يستنتج بسرعة أن الانقلاب الديمغرافي والاهتراء السياسي والتشتت سيطيل عمر المأساة السورية وسبل حلها وتركيب البلاد على أساس الفدرالية أو الكانتونات أو الوصول إلى التقسيم بحد ذاته. وبما أن التوصل إلى ترتيب داخلي وإقليمي ودولي يحل مكان اتفاقية سايكس بيكو ليس في متناول اليد على المدى المنظور، يبدو أن الكيان السوري كما كيانات بلدان الدول المجاورة سيكون قيد الدرس أو الانتظار. والمريع أيضا الإصرار على إجراء انتخابات رئاسية في ظل غياب التغطية البشرية في حدها المقبول، والاستهتار بحق المغتربين والنازحين بما يذكر بالتغريبة الفلسطينية وتتماتها.

أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫5 تعليقات

  1. نحن في زمن لم يعد فيه مكان لسياسة تغير الخريطة الديموغرافية انما الهدف هو التغير السايكولوجي والثقافي للسكان
    فالحديث لا يدور على مضارب بني عبس التي كل الذين فيها لا يزيدون عن بضع مئات من الناس أو آلاف ان كثروا انما عن منطقة كاملة سيصل عدد سكانها هذ السنة ربما الى نصف مليار إنسان عربي هذا غير 180 مليون تركي وايراني ومليار مسلم آخر يعيشون مابين باكستان وإندونيسيا وصولا الى سواحل وداخل أمريكا عبورا لأوروبا بأكملها !
    المطلوب هو تحويلهم لامساخ وتغير عقليتهم ثقافتهم لا محل سكناهم
    لن تتشبع السنة في هذه الحروب الطاءفية والسلطوية التي تديرها أيادي خفية ولن تتوهب الشيعة
    نعم يقتل تسعة من كل عشرة يحملون السلاح وعددهم لن يزيد عن مليون مقاتل في أحسن الحالات في سوريا اليوم ويقتل واحد من تسعة ممن لا ناقة له أو جمل في هذه الحرب أي 2 مليون مدني على مدى العشرين سنة القادمة فهي ستطول كحرب لبنان ومصيبة العراق التي امتدت من 1980 وحتى اليوم والغرض ليس التغير السكاني انما العقلي والنفسي وإعداد لمرحلة وعصور مختلفة !!! تزهق الناس فيها من الدين والأعراف والقيم وتغرس فيها عقدة الحقارة والانهزامية والدونية …… فقد صدق من سماها حرب كونية وان كان كذوب فالمطلوب تغير في العقول والسلوك ولزوم الخنوع وليس الجغرافية فما كان شارون نفسه يمانع بوجود عرب قريبين منه ليعملوا في مزرعته الخاصة إذا كانت عقولهم مبرمجة لتطوى تحت جزمته متى شاء
    على كل يمكرون ويمكر الله ولا قنوط من رحمته ربما فعلهم ينقلب عكسيا فبدل مسخ عقول العرب يعود العرب لعقولهم
    أي يتشيع الجميع وينصلح المتشيع كما فعلها كل العرب من قبل عندما رفعوا شعار الرضا من ال البيت !
    فأقاموا دولة عباسية حكمت العالم اجمع لثمان قرون بشعار لم يطبق ولم يخلص له
    هيا إذن لنتشيع يا عرب بإخلاص بطريقة غير مسبوقة تنقذنا كعرق بشري وتنقينا كأصحاب دين ومذهب .. على فكرة لا استثني الشيعة من دعوتي لإعادة التشيع النقي الأصيل .

  2. اذ هذا الافتراض ياوهب يخلص البشرية
    من القتل والتنكيل والطائفية ويزرع بدلها المحبة والتاخي وحب الغير
    فاهلا بة ——— هيا للتشيع
    على فكرة ذكرتني بالاخ العزيز ساهر الليل الله يذكرة بالخير
    عندما قلت انت في تعليق سابق — هيا بنا
    وهو قال وين ان شاء الله هيا بنا ههههههههههههههه ساهر تعال هيا بنا

  3. مقال مهم ..
    والهدف الايراني في المتداد إلى البحر المتوسط كما أعلن نائب خامنئي منذ فترة ليس جديداً .. بل هو قبل الاحداث في سوريا .. ولكنه كان يتم بطرق أخرى .. ففي لبنان مثلا كان عن طريق وجود حزب الله كقوة .. وعن طريق اللعب على القضية الفلسطينية .. وفي سوريا كان ذلك يتم بحملات التشييع المنظمة التي كانت تجري .. عن طريق إغداق الأموال بشكل كبير وتشييع العديد من القرى عن هذا الطريق وهذا أمر معلوم لكل السوريين .. والعراق هو الآخر تحت سيطرة ايران وهي الآمرة الناهية فيه ..
    والأحداث في سوريا وضعت هذا المخطط في خطر .. لأن خروج سوريا من يد ايران يعني تهاوي كل مشاريعها في الدول المجاورة .. لذلك نر هذا الدعم اللامحدود للنظام من قبل ايران ..ولذلك يقول المسؤولون الايرانيون أن النظام السوري هو الخط الدفاع الاول عن الثورة الايرانية ..
    لذلك فإن هذا المخطط بات الآن ينفذ بشكل أسرع وأكثر عنفاً ..ولذلك أيضا نقول أن النظام السوري لا يملك من أمره شيئاً .. وما هو إلا اداة بيد ايران يحقق لها مصالحها مقابل وجوده على رأس السلطة ..
    وأنا أستغرب من بعض الاخوة من أهل السنة كيف تغيب عنهم مثل هذه الأمور الواضحة ولا يزالون يتحدثون عن المؤامرة وعن المقاومة والممانعه ..!!!

  4. إن التدمير المنهجي، الذي قام به النظام وتخطى في بعض الأمكنة الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، لا ينم فقط عن أطماع عقارية مستقبلية أو عن انتقام من حاضنات الحراك الثوري، لكنه يؤكد على التغيير الديمغرافي لإعادة تركيب البلاد إداريا واقتصاديا وسياسيا.
    =======================================
    مكروا ومكر الله والله خير الماكرين !!!!!!!

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *