هذا المقال بقلم ألون بن مئير:
لم تلحق أي حكومة إسرائيليّة ضررا ً بصورة إسرائيل الدوليّة أكثر من حكومة نتنياهو خلال الأعوام الستّة الماضية. ولم يكن نتنياهو وزمرته منشغلين فقط وبشكل ٍ منهجي برواياتهم المتّسمة بالحقد على الفلسطينيين، بل اتخذوا أيضا ً تدابير تبرهن فقط على التزام نتنياهو الثابت بتوسيع المستوطنات والحيلولة دون إقامة دولة فلسطينيّة. وبالرّغم من أنّ الفلسطينيين قد ساهموا أيضا ً في العداء وانعدام الثقة بين الجانبين، غير أن سلوك نتنياهو وزمرته قد تركت إسرائيل معزولة ً ومزدرة ً في حين حوّلت الرأي العام العالمي وبشكل ٍ جذري لصالح الفلسطينيين.
ولتعزيز خطته السياسيّة، فقد ربط نتنياهو وبدهاء كل قضيّة موضوع خلاف مع الفلسطينيين بأمن إسرائيل القومي. لقد سخّر وبشكل ٍ بارع الرأي العام عبر سنوات حكمه لتبرير حظوظه السيئة واستمرار احتلاله باسم الأمن القومي، هذا في الوقت الذي أوصل فيه العمليّة السلميّة لتوقف تامّ وعسير.
لقد أشغل نتنياهو نفسه في الكلام الخادع، فقد وافق من ناحية علنا ً على حلّ الدولتين، ولكنه من الناحية الأخرى لم يفوّت فرصة ً في الإعلان عن حقّ إسرائيل المتأصّل على كلّ “أرض إسرائيل التوراتيّة” الذي يجعل من إقامة دولة فلسطينيّة مهزلة ً.
استمرّ نتنياهو كالعديد من أسلافه في توسيع المستوطنات، غير أنّه يفعل ذلك بحماس ٍ منقطع النظير مقلّصا ً بذلك أمل إقامة دولة فلسطينيّة ويتحدّى في نفس الوقت نداء المجتمع الدّولي بوقف هذا المشروع غير الشرعي.
وفي حين يتّهم نتنياهو وشركاؤه علنا ً وبشكل ٍ روتيني الفلسطينيين بكراهيتهم واستيائهم تجاه إسرائيل، فإنه يتناسى بأن الفلسطينيين هم تحت الاحتلال وإسرائيل تمارس ضدّهم في أغلب الأوقات إجراءات مفرطة للسيطرة عليهم. هو ينسى أيضا ً بأن كلّ فلسطيني ما دون سن الـ (48) عاما ً قد وُلد تحت الاحتلال، وبأن سلوكهم والطريقة التي يشعرون بها تجاه إسرائيل ردّ فعل طبيعي لشعورهم باليأس وبأنهم ضحيّة.
نتنياهو يستغلّ بحذاقة روايات حماس اللاذعة وعنفها ضد إسرائيل “لطلاء” كلّ الفلسطينيين بنفس اللون. فبدلا ً من مدح السلطة الفلسطينيّة لنبذها العنف ولتعاونها الأمني الملتزم تماما ً مع إسرائيل، استغلّ الانشقاق ما بين حماس والسلطة الفلسطينيّة لجعل عمليّة السّلام أسيرة ً لنزوات حماس.
لقد تلاعب نتنياهو بدهاء بمفاوضات السّلام لخلق مآزق. اتهم الفلسطينيين مرارا ً وتكرارا ً بكونهم غير جديرين بالثقة ولكنه أصرّ بعد ذلك على استمرار توسيع المستوطنات خلال فترة المفاوضات ممّا يجعل التفاوض مع الفلسطينيين “بحسن نيّة” أمرا ً في منتهى الصعوبة في وقت ٍ يشاهدون فيه أراضيهم تُستقطع شبرا ً شبرا ً.
أنا لا أدّعي هنا بأنه كان للفلسطينيين أحسن النوايا للتعايش مع إسرائيل بسلام. ولا شكّ أنهم كانوا عبر سنين طويلة يسعون وراء تقويض إسرائيل، إن لم يكن القضاء عليها. ولا أنكر بأنه ما زال هناك بعض البقايا من هذه النزعة بين الفلسطينيين. وبالرّغم من ذلك، يجب على الإسرائيليين أن يدركوا بأن الأوقات قد تغيّرت. على إسرائيل التمييز ما بين حماس والمجموعات الجهاديّة الأخرى التي تمثّل فقط أقليّة ضئيلة من الفلسطينيين. الأغلبيّة المطلقة اليوم من الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة يريدون العيش بسلام ٍ مع إسرائيل دون أن يقعوا بالضرورة بالحبّ معها. لقد ضاقوا ذرعا ً من معاناتهم وإذلالهم الذين لا ينتهيان.
إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينيّة أمر جيّد بالتأكيد للفلسطينيين، ولكنه يخدم أيضا ً احتياجات إسرائيل وازدهارها مستقبلا ً أكثر بكثير من الفلسطينيين. وكلّ إسرائيلي يدلي بحجّة أنّ الفلسطينيين أعداء، يجب عليه الآن إعادة النّظر في زيف هذا الاعتقاد.
والروايات المليلة والبالية التي ينشرها نتنياهو ومبعوثوه باستمرار عن مدى عدم الوثوق بالفلسطينيين – عن نواياهم السيئة، عن خبرة غزّة، عن كراهيّة الفلسطينيين المستديمة واستراتيجيتهم طويلة الأمد لتدمير إسرائيل وعن مخاوف إسرائيل الأمنيّة المستمرّة والخطرة – لم تعد تجد صدى ً.
حان الوقت للإسرائيليين لكي يسألوا أنفسهم هذه الأسئلة البسيطة: ما هو الأفضل حقيقة ً بالنسبة لنا؟ أين سيقودنا استمرار الاحتلال؟ ماذا سيحدث لهويّة إسرائيل وطابعها القومي؟ هل بإمكاننا الحفاظ على ديمقراطيتنا وحريتنا؟ هل باستطاعتنا أن نعيش بسلام ٍ في الوقت الذي نحتفظ فيه بأكثر من خمسة ملايين فلسطيني كرهائن؟ هل باستطاعتنا أن نعيش بضمائر مرتاحة؟ وأخيرا ً، هل بإمكاننا أن نتخلّى عن قيمنا الأخلاقيّة الأساسيّة ونعيش بالرّغم من ذلك مع أنفسنا؟
لم يأت ِ انهيار حكومة نتنياهو يوما ً واحدا ً قبل أوانه، فقد حان الوقت للإسرائيليين لكي يقيّموا الضرر الذي أحدثه لصورة البلد، لمكانتها الأخلاقية – المعنويّة، لمركزها بين الأمم، لمستقبلها كدولة يهوديّة، لأصدقائها ولعلاقاتها مع دول ٍ أخرى وبالأخصّ لعلاقاتها مع الولايات المتحدة ولإمكانية العيش بسلام ٍ وأمن ٍ حقيقيين.
تمنح الانتخابات الإسرائيليّة جميع الإسرائيليين فرصة ً زخمة لتغيير المسار وتخليص أنفسهم من المهرّجين البهلوانيين الذين يسيّرون البلد بآراء ٍ متباعدة عن بعضها البعض. ينبغي لهؤلاء أن يبدأوا بتحرير أنفسهم من عقيدة أنّ إسرائيل محاصرة وتحت وطأة تهديد ٍ فلسطينيّ مستمرّ.
لن يكون الفلسطينيّون أبدا ً في وضع ٍ يسمح لهم بتهديد وجود إسرائيل، فإسرائيل في الواقع مهدّدة من الداخل. إنّها مهدّدة بتشرذمها السياسي وبنظامها السياسي المختلّ. إنّها مهدّدة بسياسيين أنانيين، مهووسين يفوق تعطشهم للسلطة المصالح الوطنيّة. إسرائيل مهدّدة بنفاق وتعصّب قادتها السياسيين الفاسدين الذين لا شفاء لهم، وهي مهدّدة بقادة مضلّلين ليس لديهم أية فكرة عمّا يخبّئه المستقبل.
هل ستنظر الأحزاب الإسرائيليّة من الوسط واليسار ولو مرّة واحدة إلى نفسها في المرآة وتتساءل: ما هي مسؤوليتنا الحقيقيّة تجاه الأمة، تجاه بقائها، تجاه وجودها؟ ألم يحن الوقت بعد مرور حوالي سبعين عاما ً لمواجهة ما لا بدّ منه والسّعي وراء سلام ٍ بكرامة؟
أجل، تمنح الانتخابات القادمة جميع هذه الأحزاب المبعثرة والمنقسمة على نفسها فرصة ً للانضمام حول زعيم ٍ واحد (بدون سخافة تناوب رئاسة الوزراء ما بين ليفني وهرتسوغ) والقيام بهزيمة هؤلاء الإيديولوجيين الشوفنيين العميان الذين يقودون البلاد نحو الهاوية شرّ هزيمة.
وهؤلاء الإسرائيليّون الذين يدّعون بأنّه – نظرا ً للثورات والاضطرابات المتأججة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وتهديد إيران النووي وحالة المستقبل المجهول – على إسرائيل أن تركّز على أمنها بدلا ً من الدخول في مخاطرة مع الفلسطينيين هم في الواقع مخطئون تماما ً، فلا شيء آخر سيوفّر لإسرائيل أمنا ً أكبر من السّلام، وليس هناك أبدا ً، حاضرا ً ومستقبلا، وقتا ً سيّئا ً لصنع السّلام.