كتب راجح الخوري في الشرق الأوسط:

جاء أحمد داود أوغلو إلى السلطة أكاديميا من الكواليس الجامعية ومع نظريته «صفر مشاكل مع الجيران» حسب البعض أنه سوسلوف حزب «التنمية والعدالة»، الذي يمتطيه رجب طيب إردوغان ويندفع على طريق فيه الكثير من الألغام والأوهام، فقبل مائة عام سقطت السلطنة وانهار الباب العالي ولم يعد الزمن يتسع لاستنساخ سطوة عثمانية معاصرة.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي فقدت تركيا موقعها الاستراتيجي كعضو في الأطلسي، ومع إقفال أبواب الشراكة الأوروبية في وجهها رأى إردوغان وأوغلو أن الاندفاع جنوبا يمكن أن يعطي تركيا دورا إقليميا وازنا، وعلى الطريقة الإيرانية عبر إردوغان إلى العرب من البوابة الفلسطينية، من دافوس بعد اشتباكه مع حليفه شيمعون بيريس، وعندما صفق له العالم العربي حسب أنه سرعان ما يتوّج سلطان الإقليم.

هذه المقدمة للتوضيح أن إردوغان ومنظّره أوغلو الذي انتقل من الخارجية إلى رئاسة مجلس الوزراء ليسا أمام صفر مشاكل مع الجيران بل أمام مائة في المائة مشاكل معهم، لكن لم يكن أحد ليتصور أنه يمكن ضبط إردوغان في كهوف أبو بكر البغدادي وأن «داعش» الذي عبر من البوابات التركية إلى سوريا والعراق سيكون على تنسيق وتفاهم مع أنقرة، إلى أن جاءت قصة الإفراج عن الرهائن الأتراك لدى «داعش» لتكشف عمق التفاهم بين الطرفين!

عندما أعلن جون كيري يوم الأربعاء الماضي أن تركيا ستنضم إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب بدا واهما، وخصوصا عندما قال: إن تركيا يمكن أن تقدم مساعدات لوجستية، فقد كان من المعروف بعد اجتماع جدة الذي وضع أسس التفاهم على شكل التحالف الدولي والأدوار فيه، أن تركيا التي كانت معبرا لأكثر من 13 ألف إرهابي أجنبي إلى سوريا (هذا الرقم أكده بان كي مون في جلسة مجلس الأمن لمحاربة الإرهاب)، لن تقدم إلى التحالف سوى تسهيل انتقال السلاح والعتاد لقوات المعارضة التي تقاتل «داعش» والنظام عبر خطيّن؛ خط بطمان – أربيل وخط نصيبين – القامشلي.

تصريحات أوغلو صدمت الأميركيين، تركيا تتخذ قراراتها باستقلالية وفي الوقت المناسب وحسب ما تمليه عليها مصالحها القومية، وأنها لن تشارك في أي تحالفات عسكرية أمنية، قبل أن ترى نهاية الطريق سواء في العراق لجهة مساراته السياسية بعد إبعاد المالكي ودحر «داعش»، وسواء في سوريا لجهة مصير بشار الأسد، وسواء بالنسبة إلى الأكراد وخصوصا بعد الدور المتقدم لقوات البيشمركة وتدفق السلاح عليها.

انتهى اجتماع جدة ورفضت تركيا أن توقع على البيان الختامي، ولم يجد جون كيري سوى القول: «نحن ننتظر بفارغ الصبر مشاركتهم ومساهمتهم في تحالف المجتمع الدولي ضد تهديد داعش»، لكن سرعان ما أصيب الجميع بالذهول والصدمة على خلفية الالتباس الذي أحاط بعملية إطلاق «داعش» رهائن القنصلية التركية في أربيل، ثم ما تكشّف من وجود تعاون وتنسيق بين أنقرة و«داعش» وهو ما دفع أحد الظرفاء إلى القول كيف يمكن قيام تفاهم بين من أعلن نفسه خليفة ومن يسعى إلى إعادة الخلافة؟
عندما أطلق «داعش» الرهائن الأتراك الـ49 تحدث إردوغان عن «عملية إنقاذ نفذتها القوات الخاصة» لكن أوغلو الذي قال: إنه لم تدفع أي فدية رفض الكشف عن تفاصيل العملية وأشار إلى أن الاستخبارات حاولت 6 مرات تحريرهم لكنها فشلت، وقد منع الرهائن من الإدلاء بأي تصريح، وبدا واضحا أنه لم تحصل أي عملية عسكرية لتحريرهم وإلا كنا شاهدنا عمليات قطع للرؤوس، ثم إنهم نقلوا في حافلات من الموصل إلى تركيا أي مسافة 500 كيلومتر وربما بمواكبة «داعشية»!

تعليقات الصحف التركية كشفت الغطاء عن تعاون تركي عميق مع «داعش»، فقد كشفت صحيفة «جمهورييت» أن القنصل التركي في الموصل كتب إلى وزارة الخارجية قبل 4 أيام منبها من أن الأوضاع في المدينة تتجه إلى الأسوأ، في ظل الحديث عن تقدّم حثيث لتنظيم «داعش» بات يثير القلق، ولكن جواب الخارجية شكّل مفاجأة بقوله «إن داعش ليس خصما لنا» وقد أكّد بولند ارينج هذه الرواية موضحا أن المخابرات التركية كانت على علم بما يحضّر للموصل، وأنه سبق لـ«داعش» أن حصل على 5 ملايين دولار في مقابل الإفراج عن 31 من سائقي الشاحنات التركية كان قد احتجزهم في نينوى!

الرواية التي أجمعت عليها التصريحات أن إردوغان وافق على عملية مقايضة معيبة عندما قدّم 49 دبابة وكميات كبيرة من الذخائر في مقابل الإفراج عن 49 رهينة تركية كانوا محتجزين منذ 10 يونيو (حزيران) الماضي، وتبيّن أيضا أن المفاوضات التركية مع «داعش» أدت إلى إفراج أنقرة عن القيادي البارز في هذا التنظيم وهو الشيشاني المدعو شندريم رمضاني الذي يحمل جواز سفر سويسريا، وكان قد اعتقل في أضنة بعد دخوله من سوريا واشتباكه مع القوات التركية حيث قتل 3 منهم!

أمام طوفان الاتهامات التي ساقتها الصحف التركية والعالمية لإردوغان، وبعد بث شريط مصوّر يظهر فيه قطار تركي يحمل دبابات وذخائر قيل إنها أرسلت إلى «داعش»، لم يتردد إردوغان في القول: «وحتى وإن حصلت مقايضة المهم بالنسبة لنا هو إطلاق سراح الرهائن»!
شكلا كانت تركيا قد أدرجت «داعش» و«النصرة» على لائحة الإرهاب إلا أن الصحف التركية علقت على الأمر بكثير من السخرية، عندما قالت: إن الحكومة التركية تنخرط في تمويل «داعش» وإن عشرات الشاحنات التي تحمل النفط السوري تدخل إلى تركيا ويشتريها تجار أتراك، ولعل هذا ما دفع صحيفة «واشنطن بوست» إلى نشر تحقيق في 14 أغسطس (آب) الماضي خلص إلى القول: إن الحكومة التركية بسطت السجاد الأحمر أمام تنظيم «داعش» وإن الريحانية تحولت إلى مركز تجاري لعناصره!

صحيفة «وورلد تريبيون» ذهبت أبعد من هذا عندما أجرت تحقيقا يثبت أن تركيا ضالعة في تسليح المتطرفين منذ انفجار حركتهم في الأنبار حيث قمعتهم «الصحوات» التي شكّلت من رجال العشائر، وأن «داعش» بدأ منذ مطلع عام 2013 يحصل على أسلحة ومعدات عسكرية عبر البوابة التركية ومن خلال تجار أتراك وأن كميات كبيرة وصلت إليه من رومانيا وبلغاريا وكرواتيا.
من «صفر مشاكل مع الجيران إلى مائة في المائة مشاكل معهم»… لكن قرع طبول القضية الفلسطينية لم يعد يعمي الأبصار عن حقيقة ما دار ويدور في حسابات تركيا الداعشية.

شارك الخبر:

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *