يتحقق الآن أبشع ما جال في خاطر البعض منا في أعقاب حصول شعوبنا على استقلالها، خفنا من احتمال أن يفشل مشروع الاستقلال الوطني، فنعود نحن إلى أيام الاستعمار. لم يفشل بعد “تماما”، ولم تخرج مظاهرات مليونية أو مائوية تطالب بعودته. من ناحية أخرى لم يعلن بعد وفاة النظام الدولي الذي حل محل النظام الاستعماري. هذا النمط من القواعد والعلاقات الذي قاد البشرية على امتداد مائة وسبعين عاما. لم تعم الفوضى بعد أغلب أرجاء الكوكب ولكنها سائدة ومهيمنة في أجزاء كبيرة منه. لم يصل بعد عدد الفقراء في عالم اليوم إلى حده الأقصى المتوقع، ولكنه يقترب منه بسرعة مخيفة. تفاقمت ظاهرة هجرات القوارب، التي بدأت مع نهاية الحرب الفيتنامية، تفاقمت وتطورت. تفاقمت منذ أن صارت تهدد شواطئ أوروبا الجنوبية بجحافل غزو منظم. وتطورت إلى حد صارت أغلبية المهاجرين من أطفال يعسكرون على امتداد الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
هذه الظواهر، وغيرها كثير، لم تتجاوز بعد الذي يبرر هذه الدعوة المحمومة في بعض الكتابات الغربية لاستعادة الاستعمار. يعتقد منظرو هذه الدعوة أن الاستعمار هو “النظام الدولي” الوحيد القادر على إبطاء معدلات تدهور أحوال العالم الثالث، ووقف الحروب الأهلية أو تحريمها كما فعل في إفريقيا في القرن التاسع عشر. هو أيضا النظام الأقدر على إنقاذ الأغنياء من زحف الفقراء، وفرض “الأمن والسلام” في المواقع الاستراتيجية في العالم، مثل الممرات البحرية والبرية، ومصادر الطاقة والمواد الخام، ومعامل تفريخ العنف والإرهاب.
أجد لهؤلاء المحللين المتحمسين لاستعادة الاستعمار بعض العذر. أهمية الطرح الذي يقدمونه يكمن في أنهم في حقيقة الأمر يحذرون وينبهون إلى حقيقة واقعة، وهي أن مسالك عديدة انسدت في وجه جهود تحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط تحديدا وأفريقيا ووسط آسيا عموما، وانسدت في وجه جهود رفع الضنك الشديد عن الفقراء وتضييق الفجوة التي تفصل بين الأغنياء والفقراء، وبخاصة بعد أن صارت الفجوة المتفاقمة جزءا أصيلا من “عقيدة” الحالة الدولية القائمة، وصار لها منظّرون يبررون وجودها ويشجعون على تفاقمها ويضغطون ضد مقاومتها.
ماذا يمكن أن يقال؟ بحسن النية أو بغيره، عن الشرق الأوسط الراهن سوى أنه صار أشبه ما يكون بأحوال أفريقيا قبل وصول المستعمر الأبيض. قبائل تتصارع حتى الموت، بشر يباعون ويُشترَوْن ونساء تنتهك أعراضهن وأجيال متعاقبة من أطفال بلا أهل ولا مأوى. شعوب تموت من الجوع والمرض وتخضع في حياتها لهيمنة كهنوت من السحرة والمشعوذين، لا حكومة أو جهة مركزية تفرض الطاعة بدون قمع أو تعذيب أو استهانة بقيمة الإنسان، ولا قانون يحكم ويحتكم إليه الناس، لا أمل في مستقبل.
قد لا يكون هذا الحال حال الشرق الأوسط بكامله، ولكنه بالتأكيد حال بقعة واسعة من الإقليم تزداد اتساعا منذ أن تقرر احتلال أفغانستان وبعدها العراق، ومنذ أن انفرط عقد النظام الإقليمي العربي دون أن يجتمع أعضاؤه على بديل شرق أوسطي أوسع أو بدائل “إقليمية” متعددة، أو حتى على بديل انفراط على أساس كيانات قطرية مستقلة.
وفي قلب الشرق الأوسط، وهي بالفعل في قلبه، تدهورت قضية فلسطين بمعنى التوسع في تهويدها أرضا، وفي تهويد توجهات بعض قيادات النخب السياسية الحاكمة في الوطن العربي. اختارت إسرائيل التعامل مع حكومات المنطقة العربية والإسلامية بمنطق التقاليد الاستعمارية، معتمدة على دعم كافة الدول الغربية. ولا شك أن التجربة اثبتت نجاحها بدليلين، استقرار الأمن حيث طبقت، وانفجار المقاومة والعنف حيث لم تطبق، كما في غزة.
لذلك لم تكن مفاجأة أن أسمع معلقا أجنبيا يعلق على الدعوة التي تبناها رئيس السلطة الفلسطينية، بمباركة قانونية من الدكتور نبيل العربي، الأمين العام لجامعة الدول العربية، ومباركة سياسية من مجلس الجامعة أعلى مؤسسات القرار في النظام العربي، بوضع فلسطين تحت الوصاية الدولية. كان أهم ما جاء في تعليقه اعتبار أنها الدليل المؤكد على أن المسؤولين العرب قد توصلوا إلى قناعة قوية لا يعلنونها صراحة ولكن يضمنونها قراراتهم وسياساتهم الخارجية. وهي أن أساليب الاستعمار القديم ربما كانت الأنجع، أو الوحيدة، للمحافظة على ما تبقى من أرض، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار والأمن والتعليم والصحة، ووضع خريطة سياسية جديدة للمنطقة تصلح لقرن قادم أو قرنين، وفي مقابل هذا تتعهد القوى الحاكمة بتأجيل مطالب الكرامة والحرية والاستقلال الوطني.
سمعنا النغمة ذاتها تتردد في واشنطن وعواصم أمريكا الوسطى، وسط الضجة السياسية والإعلامية التي أثارتها قضية نزوح أطفال أمريكا الوسطى إلى الولايات المتحدة. سمعنا خوان هرنانديز وأوتو بيريز مولينا وشافيز سيرين، رؤساء جمهوريات هندوراس وجواتيمالا والسلفادور، يطلبون من القادة الأمريكيين تحويل المبالغ التي تنفق على حراسة الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، (عشرون مليار دولار)، إلى حكوماتهم للإنفاق منها منفردة أو بإشراف أمريكي على مشروعات التنمية. قال الرؤساء إن الهجرة تتزايد لأن الفقر يتفاقم، ولأن أمريكا بحربها الطويلة ضد مهربي المخدرات خربت اقتصاد دول أمريكا الوسطى بعد أن خربت اقتصاد كولومبيا والمكسيك. تحادث الرؤساء الثلاثة مع الرئيس أوباما وأعضاء الكونغرس. حاولوا اقناع الأمريكيين بأن الحل موجود وسهل. الحل الذي يقترحونه هو فتح الحدود الجنوبية في وجه المهاجرين وليس إغلاقها. وقد وجد الرؤساء آذانا صاغية من بعض أعضاء الكونغرس قال أحد هم مبدياً تعاطفه مع المهاجرين: “كلنا أمريكا”. نادى آخرون بضرورة استقبال الأطفال المهاجرين ومنحهم حق اللجوء.
من ناحية أخرى، اشتد ساعد الرافضين للهجرة، ومنهم حاكم ولاية تكساس الذي حشد قوات الحرس الوطني لمنع المهاجرين غير الشرعيين من دخول البلاد. جاءت المفاجأة الكبرى من الرئيس أوباما الذي ظهر في اجتماعه برؤساء أمريكا الوسطى مكتئبا، وبخاصة حين أعلن استعداد واشنطن منح حق اللجوء إلى الراغبين في الهجرة من أمريكا الوسطى بشرط عدم تغيير محال إقامتهم، ليتمتعوا بمزايا المواطن الأمريكي وحماية الولايات المتحدة وهم في بلادهم، أو على الأقل لحين مغادرتهم البلاد. أعلن كذلك عن خطة لمواجهة الأزمة تستند إلى فكرتين، إحداهما شن حملات إعلامية لتوعية أهالي أمريكا الوسطى بعدم الهجرة، والثانية فكرة حشد قوات عسكرية أمريكية ومن دول أمريكا الوسطى مهمتها مطاردة العصابات التي تتولى تشجيع الأطفال على الهجرة إلى الولايات المتحدة.
لم تحصل قرارات الرئيس أوباما على رضاء الكثيرين، سواء في الكونغرس الأمريكي أو في دول أمريكا الوسطى، أو على مستوى رؤساء دول أمريكا الجنوبية بشكل عام، بل راح معلقون أمريكيون يسخرون منها باعتبار أنها لم تكن على مستوى الأزمة الحادة التي تواجهها العلاقات بين الأمريكتين. راحوا أيضا يسخرون من فكرة عودة الولايات المتحدة إلى تبني سياسات استعمارية، حتى أن أحدهم اقترح على الحكومة الأمريكية ترشيح اسماء معينة من كبار نساء ورجال الكونجرس لتولي مناصب “نائب الملك”، أي ممثل الامبراطورية الأمريكية، وأسماء أخرى مناصب وزارة في حكومات المستعمرات التي ستشكلها واشنطن لإدارة شؤون أمريكا الوسطى وغيرها.
الأمر ليس كله هزلا، وليس كله أسود قاتما، وهو في كل الأحوال جد خطير ولابد من تداركه قبل فوات الأوان. أقول، عن منطقتنا على الأقل، إن الأمر جد خطير. ولدي من الأسباب ما يبرر هذا الرأي، أعرضها باختصار:
أولا: تزداد أحوال الفقراء والفقر عموما سوءاً عاما بعد عام، ولا يقتصر على دولة دون أخرى، فهي متفاقمة في العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا ومصر وفلسطين. لن يفيد طويلا مد أمد المساعدات النقدية وعقد عدد لا نهائي من مؤتمرات المانحين وإقامة مشروعات استثمارية هدفها الربح العاجل ولا تراعي ظروف الفقر الضاغط والاستقطابات السياسية وفساد مختلف المؤسسات.
ثانيا: يزداد اقتناعي بأن النظام الدولي الذي قام في أعقاب الحرب العالمية الثانية دخل بعمق في مرحلة الفشل. أعرف زملاء وأصدقاء يفضلون الرأي القائل إن النظام الدولي، منتهي الصلاحية وانتفي الغرض من وجوده. تزداد المشكلة تعقيدا عندما نكتشف أن لا بديل لهذا النظام تبلور فعلا أو مازال في مرحلة التكوين. نعرف أن في مثل هذه الأوقات الحرجة التي تشهد تحولات في النظام الدولي، تشتد الاضطرابات وتعم الفوضى الإقليمية والدولية وتفشل دول وتنهار أو تضعف مؤسسات وتغيب أعراف دولية. وفي كل الأحوال اعتقد شخصيا أن الاستعمار كنظام دولي يصلح في الظروف الراهنة بديلا للنظام الدولي القائم.
ثالثا: الكثير مما يقال في أزمة النظام الدولي في مرحلة التحول الحالية يمكن أن يقال عن أزمة النظام الإقليمي العربي، وهي الأزمة التي تستحق أن يتفرغ لها على الفور المتخصصون في العلاقات الدولية والعربية وفي التنظيم الدولي. أقول لهؤلاء وللمسؤولين المهتمين بالعمل العربي المشترك، أو على الأقل بمن تبقى منهم ولم يبلغ به اليأس ما بلغ بآخرين، أقول لكل هؤلاء إن الأزمة حقيقية وخطيرة ليس فقط لأنها تعكس حال تفكك إقليمي وانفراط مؤسسي وتنظيمي، ولكن ايضا لأنها تعزز رأي بعض علماء السياسة بأن مشروع الدولة القطرية، وبالتالي مشروع الاستقلال الوطني من أساسه، قد تجاوز هو الآخر مدة صلاحيته. الدولة القطرية قررت، وإن بتردد ملحوظ، أن تنفرط شيعا وقبائل وأعراقا، قررت أن تعود إلى حالتها الطبيعية قبل أن يتعهدها برعايته وهيمنته الاستعمار الغربي. يبدو أيضا أن بعض النخب السياسية بدأت تبحث عن أشكال عصرية مبتكرة لنظام استعماري يساعدها في إدارة شؤون بلادها، أو يديرها بنفسه.
رابعا: أذكر أننا دعمنا في وقت من الأوقات جهود دول رائدة في العالم الثالث لإقامة نظام اقتصادي وسياسي جديد يصحح مسيرة النظام الدولي أو ترميم ما تصدع في هياكله. قامت وسقطت تجربة عدم الانحياز، ونهضت وفشلت تجارب التكتلات الأفريقية الآسيوية، والآن تحاول مجموعة دول البريكس الخمس إقامة نظام دولي فرعي ينبه ويصحح ويضع شرخا أو أكثر في نظام الهيمنة، ولكن الصعوبات التي تقابل جهود البريكس هائلة والنجاح يبدو بعيدا جدا.
لا يهم الآن الرأي في حجم الجد والهزل في مضمون وهدف الدعوة لعودة الاستعمار، في شكل أو آخر، لإدارة شؤون دول العالم الثالث. الأمر الواضح تماما هو أن الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط لم تعد تتحمل سلوكيات الفوضى والاسترخاء المستشرية في أداء صناع السياسة العرب. الأمر جد خطير.