هذا المقال بقلم آمال قرامي:
المتابع/ة للتصريحات الصحفية التي أدلى بها عدد من السياسيين التونسيين في وسائل الإعلام العالمية كالصين والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها ينتبه إلى سمة مشتركة بين قادة الأحزاب كالمرزوقي والغنوشي وابن جعفر… تتمثّل في الإشادة بالأنموذج التونسي، والتغنّي بمميّزات التجربة التونسية، ودعوة البلدان العربية، وخاصّة مصر إلى تعلّم الدروس والعبر. وفي غياب المدّاحين والمتزّلفين يجوز للأنا أن تنتج السرديات، وأن تتفنّن في نظم قصائد في غرض الفخر.. لم لا والتجربة التونسية أضحت حديث الجميع هذا الأسبوع.
فمن مميّزات التجربة التونسية بلوغ رقم المترشحين إلى منصب الرئاسة 70 مترشحا ومترشحة، وهو رقم يستحق أن يسجله غيناس. ويتّضح أنّ خبر تهافت الناس على تسجيل ترشحاتهم حتى آخر ساعة قد حجب الضوء عن المترشحين للانتخابات التشريعية، وجعل كلّ الأنظار تتجّه صوب الانتخابات الرئاسية. فماذا يساوي الترشّح لمنصب نائب في البرلمان أمام إغراء منصب رئيس/ة الدولة؟
***
لسباق الجري على تقديم الترشحات بعد كوميدي إذ ضحك التونسيون حتى بدت نواجذهم. فهذه أجبرتها روسيا والصين على تقديم ترشّحها، وهي مؤلفة كتاب منذ كانت يافعة، وذاك معطّل عن العمل يرى في الترشّح للرئاسة ما يضمن علاج قضايا الشباب العاطل عن العمل والمهمّش، وآخر يتسلل من النافذة لتقديم ملفّه بعد أن أغلقت الأبواب، وتلك فئة تعنتت ولم تعترف بشروط الترشّح فقدّمت ملفاتها رغم أنف الجميع متعلّلة بأنّ الشعب رشّحها….فضلا عن رجال الأعمال، و”أزلام النظام” السابق، والمنتمين إلى قطاع المحاماة، والتدريس، والقضاء، والمتقاعدين، وغيرهم ممّا يثبت أنّ معيار النخبة المنتمية إلى طبقة محدّدة قد تمّ تجاوزه مثلما تمّ تجاوز الجندر، والسنّ، والأيديولوجيا… باستثناء معيار الدين إذ لم يجرؤ مسيحي أو يهودي أو بهائي على تقديم ترشّحه.
أمّا أسباب هذا الجري الحثيث باتجاه قصر قرطاج فإنّها تعود إلى عدّة اعتبارات منها: سقوط الأسطرة عن القصر فلم يعد حكرا على كبار المسؤولين والسياسيين وغيرهم من علية القوم، وإنّما صار بعد الثورة قبلة أطياف من “العوام”: وفد عليه دعاة السلفية، وأصحاب السوابق الذين تمرّدوا على القانون، وتمتّعوا بالإفلات من العقاب وتحصّنوا بانتمائهم إلى ما يسمّى بروابط حماية الثورة: فُتحت أبواب القصر فزاره من هبّ ودبّ في تكريس فجّ للشعبويّة أطاح بهيبة الدولة.
***
ولئن عنّ لرئيس الدولة مخالفة المتعارف عليه من حيث الهيئة فأزال رابطة العنق والتحف بالبرنس، ولبس المظلة في محاولة للتقرّب من عامّة الشعب فإنّ أغلب التونسيين انتقدوا ملابسه وسلوكه لاسيما في المحافل العالمية، ورأوا أنّه عبث بأبهة المؤسسة الرئاسية. والمطلع على تعليقات الفايسبوكيين، وصور الكاريكاتور والفوتوشوب المتداولة لا يملك إلاّ أن يضحك مقرّا بقدرة هؤلاء على ابتكار الملحة وانتزاع الضحكة في زمن عزّ فيه الفرح. وليست السخرية إلاّ حجّة على مواقف الناس من الرئيس، ومما آلت إليه مؤسسة الرئاسة في عهد المرزوقي.
أمّا زائر القصر الرئاسي فإنّه سرعان ما ينتبه إلى التغييرات الطارئة عليه: فلا عناية بالحديقة ولا اهتمام بالبرتوكول مثلما جرت العادة من قبل، والتي جعلت مراسم الزيارة تخضع لطقوس كثيرة… كلّ هذه العوامل ساهمت في نزع الهالة عن منصب الرئيس الذي كان من المواقع التي لا يفكّر فيها التونسي في احتلالها فباتت من أكثر ما يستهويه. زد على ذلك أنّ وعي التونسي/ة بأنّه أضحى يتمتع بعدّة حريات وحقوق باسم المواطنة جعله يريد أن يبرز حقّه في الترشّح وخدمة البلاد لِم ولا وتجربة المجلس التأسيسي جعلت النواب والنائبات يغترفون من ميزانية الدولة أموالا ما كانوا يحلمون باكتسابها بالعملة المحلية والعملة الصعبة.
***
تُبيّن هذه التحوّلات على مستوى تمثّل منصب رئيس الدولة، وفهم ما تتطلبه إدارة الحكم من مواصفات، وتصوّر ركائز ما تقوم عليه العملية السياسية،… أنّنا إزاء تركيبة جديدة من التونسيين الذين لا يتوانون عن دخول معترك السياسية من باب التطفّل، والهواية، وخوض التجربة ، زادهم محبّة الناس الذين قدّموا لهم التزكية فضلا عن بروز طموحات ارتفع سقفها، وأطماع جديدة،… هي كوميديا سوداء تمتزج عناصرها بخصائص العمل الدرامي، بل هي مأساة واقع السياسية في تونس اليوم.
وحده حزب النهضة لجم أطماع أتباعه فجعلهم لا ينساقون وراء سباق الترشّح. وليس ذلك زهدا وتعفّفا بل من باب “التكتيك” السياسي حتى يثبت للآخرين أنّه متميّز يزّكي هذا الشيوعي وتلك المرأة المتبرجّة، وذاك التجمّعي، وذاك الملياردير…يقف وراء الجميع “يدفعهم” إلى الأمام والعبرة في النهاية : من سيضحك؟