هذا المقال بقلم ريم عبدالحليم أستاذة الاقتصاد في جامعة القاهرة، وباحثة متخصصة في شئون الفقر:
أرقام البيان المالي للموازنة العامة للدولة للعام الحالي تتحدث عن إنفاق على الجانب الاجتماعي بنسبة تتعدى 54.6% من الإنفاق العام، وهي النسبة التي بلغت في عام 2012/ 2013 كذلك نحو 56%، أي أن أكثر من نصف الإنفاق العام «تصنفه» الدولة على أنه إنفاق على البعد الاجتماعي ولو تم خصم قيمة دعم المنتجات البترولية تبلغ النسبة للإنفاق العام فى آخر موازنة نحو 41%.
جدول جميل يوضع في صدارة البيان المالي للموازنة العامة للدولة كل عام، وتجمله بكلمات «الانفاق على البعد الاجتماعي من أولويات الموازنة لهذا العام».
جلست السيدة المسنة لتقوم بحرفة يدوية، من الصعب أن تتصور انحناءها لتلبية متطلباتها البدنية في هذه السن، وسألتني، «كده تمام؟» كان الأداء ضعيفا، ولكني ابتسمت «حلو.. تسلم إيدك»، ثم سألتها إن كانت منذ زمن تعمل بالحياكة فقالت لي، «اضطررت مؤخرا لمرض زوجي، فلا مورد رزق لنا ولا تأمين صحي، أنا رحت جمعيات ومفيش، معي كافة الأوراق، لو حد عاوز يساعد يتفضل، العلاج مكلف… وأنا تعبت».
أثارت هذه القصة تردد كلمات احتفظت بها فى ذاكرتي، من زيارات ميدانية متفرقة للبحث فى قضية الفقر. كلمات ترسم صورة لتركيبة معقدة من الظروف أنتجت النسبة الكبيرة من الفقراء، أو من يعيشون على حافة الفقر، تَحركهم لأعلى فى السلم الاجتماعي صعب، والتحرك لأسفل مستمر.
كلمات نسمعها يوميا، واعتدنا ترددها على آذاننا حتى لم تعد تعبر عن شيء، رغم قسوة الحياة التى تعبر عنها:
«إدو العيال كارنيهات تأمين فى المدارس بس بيصرفوا برشام واحد بس ومالوش لازمة، والمستشفى دوختنى والولد تعبان، هو فيها دكاترة؟!.. حوشت تمن الكشوفات وأخدته عيادة».
«خرجت من التعليم علشان أبويا تعب»، «علشان بأجيب فى اليوم جنيه وكان مصروفي عشرة صاغ، ربنا يسامح أبويا بقى»، «علشان بيتنا وقع»، «مفيش طريق للمدرسة»، «هو أصلا فيه مدرسين؟!»…
«أنا علشان شغال فى ورشة بـ700 جنيه فى الشهر يا ناس»؛ «الورشة ما بتجيبش أساسا، هو حد بيشترى منى، أدفع لعامل منين؟!»..
«بييجى ناس بتوع معونة ولا بتوع مصانع يقولونا روحوا معرض توظيف ومحدش يشغلنا، كله كدب»
«ما أنا كنت بأشتغل ومشونا وما إدوناش مكافأة»، «مفيش تأمينات، مشونا وخلاص»، «قفلتها مافيش شغل»..
«ما هى الناس بتنقل من الكفر على المركز من العيشة إللى لا مياه ولا كهرباء ولا علاج، بس الفقراء دلوقت مزنوقين فى الكفر لأن المركز مابقاش فيه شغل والـ100 متر فيه بالشىء الفلانى، نعمل إيه؟!»
«القضاء مش هيسمعنا وإحنا مش حمل تكاليفه»، «فيه فساد، بس لو اشتكيت يلبوسنى أنا تهمة»..
هناك ثلاث قنوات يجب أن تمر من خلالها أية معالجة جادة للفقر في الحالة المصرية، ولعل انسداد هذه القنوات بالأمر الواقع أو باختيار الدولة أو لصعوبة الانتقال لنموذج اقتصادي اجتماعي عادل أعاق كثيرا تحقق فعالية إدارة الإنفاق على البعد الاجتماعي ومعالجة قضية الفقر والعدالة بشكل عام. هذه القنوات هي:
• عدالة الأسواق: والتي هي محور عدالة التشارك في صناعة النمو. لم تتخذ الدولة أية خطوات جادة لعلاج التشوهات السوقية، بل تميل للطرح الجزئي الذي يبقى دائما على مساحة للتفاوض وصراع المصالح وخلق تكتلات جديدة أو الابقاء على القديمة، على سبيل المثال، استفادت شركات من نظام ظالم لدعم الطاقة للصناعات كثيفة الاستهلاك وراكمت أرباح طائلة، وعندما تم الحد من دعمها لم يتم اتخاذ خطوات مكملة لعلاج تشوهات الأسواق الاحتكارية ولم يتم كسر مسارات التأثير على صناعة القرار؛ بل ولم تتم مواجهة فساد قنوات التوزيع؛ وكأن القضية الوحيدة التي أحدثت خلل الأسواق هي قضية أسعار الطاقة.
مثال آخر يراود ذهني كثيرا، وهو الإصرار على تضييق طرح الحلول لمشكلات المشروعات الصغيرة فى إطار التمويل، بينما هي في الواقع مشكلات عميقة تجتاز التمويل لتمتد لقضايا التسويق وشكل الأسواق والمتحمكين فيها. فهل من الممكن أن يكون التمويل وحده ــ حتى وإن تحقق الحلم وتيسر نفاذ الأصغر إليه ــ مجديا فى ظل هيكل السوق الحالية؟! أشك.
• التعامل مع الجهاز البيروقراطى للدولة: يبقى الجهاز البيرقراطي للدولة المسئول الأوحد عن إدارة الانفاق العام الموجه للجانب الاجتماعي، فعلاقاته الرقابية معقدة وغامضة، تقوم على تغييب كامل لدور المواطن فى التخطيط والرقابة على جودة الخدمة؛ وحتى الآن لم يتم اتخاذ أية خطوات لدمج المواطن فى تقييم الخدمات العامة، بل يتم التعامل مع قضايا الإنفاق العام كأنها قضايا محاسبية وليست قضايا اجتماعية تنموية ترتبط بمستفيدين. وهي المشكلة التي لا ينتج عنها فقط جهاز بيروقراطي مشوه يمارس موظفيه سلطة مطلقة على المستفيدين منه؛ بل إن تغييب دور المواطن في تقييم الخدمات يعطي مساحة للحكومة لتقليص نصيب الخدمات العامة الموجهة للأفقر من الإنفاق العام، أو توجيه الانفاق لبنود لا تؤثر على فاعليته مثل بند الأجور الذى لا يعرف أحد توزيعه. ومع إعلان منشور إعداد الموازنة للعامة المالي القادم عن توجه جزئي لموازنة برامج أى أهداف وهو التوجه المحمود، يثار سؤالين مهمين: هل يتوقع تطبيق فعلي لموازنة برامج أي أهداف واضحة يوضع على أساسها الإنفاق دون أية وسيلة لقياس نجاح هذه الأهداف ومراقبة تنفيذها من خارج جهاز الدولة؟! أشك.
• تكامل قضايا العدالة الاجتماعية: فتميل الدولة باستمرار لتفتيت المستحقين وتحويلهم لمجموعات من المستهدفين كل وفق معايير مختلفة وغير واضحة، وكأن دور التحويلات النقدية مثلا هو ملء جيوب الفقراء بملاليم دون وجود برامج أو خدمات أو أعمال تخرجهم من دائرة الفقر، ودون توجه لمعايير خدمات عامة قائمة على الاستحقاق وليس الاستهداف. فصل آخر في منتهى الخطورة موجود دائما بين الديمقراطية والحريات والحق فى المساءلة والتقييم من ناحية وتوفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى، وفصل ثالث بين قضايا عدالة المشاركة في الإنتاج وعدالة توزيع الثمار؛ وكلها أمور متكاملة متشابكة لا يمكن الفصل بينها. فالفصل بينهما ينتج عنه تذويب وإخفاء لمفهوم الحق ومفهوم العدالة الاجتماعية.
الخلاصة، يبدو أن السياسة الاقتصادية للدولة تقوم بالأساس على الاحتفاظ بمساحة ضخمة محجوزة للمصالح والتسويات والغموض، تقوم هذه المساحة على نظام سوق غير عادل وجهاز دولة بيروقراطي غامض وتغييب لدور المواطن وعدم الاعتراف بحقوقه، وهنا يغيب معنى الأرقام والاحصاءات، وتبقى تعبيرات الفقراء، فلنعد قراءتها ونستشعر ما حدث ويحدث لهم، فحالهم هو نتاج سياسة عامة، ولقد عبروا عنها بالدقة الكافية.