هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه:
خلال الشهر الماضي، حدثت تغيرات هامة فى الساحة الداخلية التركية، فرجب طيب أردوغان رئيس الوزراء القوى الذي حكم البلاد لما يقرب من ١٢ عاما تم انتخابه إلى مقعد الرئاسة ليكون الرئيس الثاني عشر فى تاريخ الجمهورية والأول الذى يتم انتخابه بالاقتراع الشعبي المباشر، بعد أن كان منصب الرئيس فى تركيا يتم اختياره بشكل غير مباشر من خلال البرلمان. أردوغان الذي مارس السياسة لمدة ٤٠ عاما وحقق شعبية كبيرة داخليا ودوليا قرر أن يترك مقعد رئاسة الوزراء بعد نجاحه مع حزبه “التنمية والعدالة” لثلاث دورات متتالية ليتحول إلى منصب الرئيس الأقل أهمية من الناحية الدستورية، فلماذا؟ وما هو مستقبل تركيا بعد هذا التغيير وخصوصا مع اختيار الحزب المتمتع بالأغلبية البرلمانية لوزير خارجيته داوود أوغلو ليكون رئيس الوزراء الجديد؟ وكيف ستسير العلاقة بين الأثنين؟
***
يعتقد كثيرون أن أردوغان الذي حقق طفرة رهيبة فى الاقتصاد التركي رافعا الناتج القومى الإجمالى من ٢٠٠ بليون دولار إلى ٨٠٠ بليون دولار سنويا والذى شهدت فى عهده الخدمات التعليمية والصحية والبنية التحتية نهضة كبرى، فضلا عن أسطورته الشعبية داخليا وخارجيا والتى بدأ فى تأسيسها منذ أن وصل إلى منصب عمدة اسطنبول فى ١٩٩٤ لا يمكنه أن يتخلى هكذا بسهولة عن مقاعد السلطة واتخاذ القرار، ويرى عدد من المحللين أن هذا التغيير هو مجرد خطوة تمهيدية لتغيير شكل النظام السياسي فى تركيا ليتحول من النظام البرلماني إلى الرئاسي بحيث يعضد فيه أردوغان مقعد السلطة ويستمد شرعيته المباشرة من الشعب مخففا من أحمال ضغط البرلمان ولعبة الأحزاب من على كاهله، ومحاولا استغلال شعبيته في الحصول على الدعم المباشر من الشعب.
هنا علينا اذا أن نناقش ثلاثة أسئلة محددة، الأول هل حقا يتمتع أردوغان بهذه الشعبية الجارفة؟ والثاني هل يعني هذا تغيير الدستور ومتى يتم ذلك؟ والثالث عن كيفية سير العلاقة بينه وبين وزير خارجيته السابق ورئيس الوزراء الحالي داوود أوغلو؟
فيما يتعلق بالسؤال الأول، فقضية شعبيته جدلية، فبكل تأكيد يتمتع أردوغان بشعبية ما لم يتمتع بها أي قائد سياسي فى تركيا منذ وفاة مؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك، لكن إلى أي مدى يمكن أن نعتبر هذه الشعبية طاغية وكافية له من أجل إحداث كل هذه التغييرات؟ فى مقابلاتي مع باحثين أتراك وجدت انقساما حول هذه النقطة، فهناك من بالغ فى الحديث عن شعبية الرجل الطاغية، وهناك من قلل من شعبيته استنادا إلى فترة حكمه الثالثة كرئيس للوزراء والتى شهدت أحداث جدلية وخاصة تلك المتعلقة بأسلوب مواجهته لمظاهرات ميدان تقسيم وقيامه بحجب خدمات بعض مواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن الأسلوب الحاد الذي بدا واضحا عليه فى خطبه خلال العام الأخير. ورغم أن هذا الجدل حو الشعبية بين الباحثين والأكاديميين يظهر استقطابا واضحا هنا في المجتمع التركي بين العلمانيين والإسلاميين، إلا أن تسطيح القضية وحصرها في أن الانقسام حول شعبية أردوغان هو مجرد انقسام أيدولوجي غير دقيق، وبشكل عام يمكن القول أن أردوغان قد حصل على ما يزيد قليلا عن نصف أصوات الناخبين الأخيرة فيما اقتسم منافسوه النصف الأخر، وهو ما يعني أن أردوغان بالفعل يتمتع بتأييد نصف الشعب، بينما ينقسم النصف الأخر حول تأييد البديل المناسب له، ومن ناحية أخرى فلا يمكن القول أن مؤيدي أردوغان هم فقط من الإسلاميين، ففي لقاءاتي هنا لاحظت أن بعض العلمانيين من الطبقات الوسطى التى شهدت طفرة اقتصادية فى أعوام حكمه تؤيده أو على الأقل لا تعارضه ورغم أن البعض منهم أبدى تخوفه على نمط حياته الشخصية المتغربة إلا أنهم جميعا أكدوا أن الرجل لم يمس نمط حياتهم ولا حرياتهم حتى الأن!
فاذا ما أخذنا في الاعتبار أن أردوغان أمامه عشر سنوات لينهي حياته السياسية كحد أقصى ( ٥ سنوات فى الرئاسة قابلة للمد مرة واحدة حال إعادة انتخابه)، فيمكن القول أن قدرة أردوغان في الحفاظ على هذه الشعبية تتوقف على حجم إنجازاته الاقتصادية والأمنية وقبل كل ذلك على قدرته على تمرير الدستور الجديد المزمع كتابته بعد انتخابات البرلمان القادمة فى ٢٠١٥، وفشله فى أي من هذه الملفات قد يحطم الشعبية الكبرى التي بناها وهو تحدى كبير له وللحزب.
أما عن الدستور، فقد أكد كل من قابلته هنا أن الحزب الحاكم قرر بالفعل تغيير الدستور وكتابة أخر جديد أو على أقل تقدير تعديله جذريا، فالدستور الذي تم اعتماده عقب انقلاب ١٩٨٠ لا يلبي طموحات الحزب وقياداته، وتؤكد Nagehan Alci وهى صحفية مرموقة ومقربة من الحزب أن تغيير الدستور هو الركيزة الثانية لشعار “تركيا الجديدة” الذى اعتمده أردوغان كمحور لسياساته خلال الفترة القادمة، وفيه يطمح الحزب في الحصول على أغلبية مريحة فى الانتخابات البرلمانية العام القادم لتعديل الدستور مباشرة أو للحصول على أغلبية بسيطة وعرض الدستور الجديد للاستفتاء الشعبي، ولا تشك ناجيهان أبدا في أن النظام الرئاسي يعد ركيزة هذا الدستور الجديد وأن الخوف فى عدم تأمين مقاعد كافية لتغيير الدستور في البرلمان القادم قد يتم التغلب عليه من خلال التحالف مع حزب الشعب الديموقراطي وقد أبدى الأخير إشارات إيجابية في هذا الشأن.
***
لكن يأتي السؤال الثالث حول طبيعة العلاقة بين أردوغان وأوغلو، فالأول زعيم شعبي سيقضي عاما على الأقل فى منصب أقل أهمية من المنصب الذي يحتله أوغلو الأن والذي اختاره الأول لحقيبة الخارجية في ٢٠٠٩، فكيف ستسقيم العلاقة على هذا النحو؟
يكاد يجمع كل الأكادميين والصحافيين الذين التقيتهم هنا في اسطنبول وأنقرة أن أردوغان لن يقبل بدور الرجل الثاني أو الرجل الهامشي أبدا وسيظل من وراء الستار هو قائد أوركسترا كلا من الحزب ورئاسة الوزراء ، لكن يأتي السؤال هل سيقبل داوود أوغلو ذلك؟ هنا حدث انقسام بين من التقيتهم، بينما ذهب البعض إلى التأكيد على أن أوغلو لن يكون أكثر من لقمة سائغة لأردوغان وخصوصا وهو المعروف بحرصه على رضى أردوغان منذ تولي حقيبة الخارجية فى ٢٠٠٩، لدرجة أن الصحفي Servat Yantam الذي أمضى السنوات الخمس الأخيرة يغطي ويتابع ملف الخارجية يذكر أنه فور تولي أوغلو حقيبة الخارجية فى ٢٠٠٩ فقد ذهب لإعطاء خطبة فى إحدى مدن الجنوب وبعد مرور وقت من الخطبة ولم يكن قد ذكر اسم أردوغان، فإن أحد مساعديه بعث إليه بقصاصة تذكره بالأمر، فما لبث أوغلو إلا وأن انبرى في مديح أردوغان وهى علامة على أن أوغلو سيقبل دور الرجل الثاني لصالح أردوغان رغم كونه رئيسا للوزراء!
ويدلل البعض على ذلك أيضا بأن أوغلو لم يستغرق سوى ٢٤ ساعة ليشكل الحكومة الجديدة وبها ثلاث تغييرات فقط وتعيين اثنين من أقرب الأشخاص لأردوغان في منصب نائب رئيس الوزراء هو دليل جديد على أن أردوغان هو صاحب التشكيل الحقيقي للحكومة وأن أوغلو قام فقط بإعطاء ختم الموافقة! بينما يرى البعض ومنهم نائب رئيس الحزب السابق محمد فرات أنه ورغم طاعة أوغلو لأردوغان إلا أنه يظل صاحب شخصية مميزة وعنيدة وأن النجاحات النسبية التي حققها في السياسة الخارجية قد تجعله يتمرد على أردوغان لدرجة قد تجعل الخلاف يدب بين الاثنين سريعا.
***
الأرجح حسب قراءتي ومتابعتي عن كثب أن أردوغان سيظل الرجل القوي حتى من وراء الستار وأن فرصة الخلاف بين الاثنين ستكون قليلة حتى موعد الانتخابات القادمة بعد ٩ أشهر من الأن ، وحينها ستحدد نجاحات أوغلو أو اخفاقاته في مكافحة البطالة وحل المعضلات الأمنية وتحسين السياسة الخارجية والحصول على أغلبية برلمانية تعزز تعديل الدستور أو تغيره كليا فرص الصراع أو التعاون بين كلا الرجلين، وربما تضع نهاية سريعة لأوغلو نفسه.