هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد:
أكتب عما جرى في اسكتلندا منذ أسبوع، ليس شغفا بكل ما يفعله الخواجات، انعكاسا لعقدة الإعجاب بكل ما هو غربي، ولكن لأن فيما حدث في اسكتلندا دروس مهمة لنا، ولواقعنا الراهن، إذا كنا نريد حقا أن نتعلم من الآخرين، طالما أننا لا نعرف بكل تأكيد كيف ندير أحوالنا.
جرى في اسكتلندا استفتاء يوم الخميس الثامن عشر من سبتمبر هذا العام حول ما إذا كان الإسكتلنديون يريدون البقاء في المملكة المتحدة مع انجلترا وويلز وإيرلندا الشمالية، وانتهى الإستفتاء الذى شهد مشاركة عالية وصلت إلى 85% ممن لهم حق التصويت، والذي أصبح متاحا لكل من تجاوز ست عشرة سنة، بأن رفض 55% من المصوتين الإستقلال عن المملكة المتحدة، في مواجهة 45% ممن كانوا يفضلون الإستقلال. وقد سبق الإستفتاء حملات انتخابية حامية رغم سلميتها من جانب أنصار الإستقلال وخصومه شارك فيها إلى جانب الأحزاب الإسكتلندية قادة الأحزاب البريطانية وخصوصا حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال المعارض. ومما ضاعف من سخونة المعركة الإنتخابية أن استطلاعات الرأي حتى قبيل يوم الإستفتاء كانت تشير إلى انقسام الرأي العام بالتساوي تقريبا بين الفريقين.
***
وحتى تقدر السياق الذي جرى فيه هذا الإستفتاء، فلابد من العودة إلى الوراء بضع قرون لمعرفة كيف أصبحت اسكتلندا جزءا من المملكة المتحدة. العجيب أنه قبل اتحاد كل من اسكتلندا وانجلترا في أوائل القرن الثامن عشر عرف البلدان تاريخا من الصراع المسلح تقلبت حظوظ كل منهما فيه، ووصل الأمر أنه في أحيان كثيرة كانت الأرستقراطية الحاكمة في اسكتلندا تتحالف مع فرنسا ضد انجلترا، وعندما حاول هؤلاء طلب الإتحاد مع إنجلترا هربا من صراعاتهم فيما بينهم، رفض التاج الإنجليزي هذا الإتحاد بسبب عدم استقرار الأحوال في اسكتلندا، ولكن انتهى الأمر بأن أصبحت اسكتلندا إقليما في المملكة المتحدة بموجب قانون الإتحاد في سنة 1707.
ولاشك أن الإسكتلنديين استفادوا من هذا الإتحاد مع المملكة التي أصبحت منذ القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين أكبر إمبراطورية استعمارية في العالم امتد سلطانها من أمريكا الشمالية (كندا بعد استقلال الولايات المتحدة) إلى هونج كونج في أقصى الشرق مرورا بالشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والهند وسيلان وغيرها، وعرفت اسكتلندا الإنطلاق إلى الثورة الصناعية، واستفادت من خدمات دولة الرفاهة مما انعكس على ارتفاع مستوى المعيشة فيها، كما حصلت أيضا على قدر من الإستقلال الذاتي تدريجيا منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. فلماذا يتنكر الإسكتلنديون لهذا التاريخ ولهذه المكاسب التي استفادوا منها بسبب وجودهم ضمن المملكة المتحدة.؟
هناك أولا، هذه الروح القومية التي جعلت الإسكتلنديين يشعرون بإختلافهم مع الإنجليز تحديدا، فلهم لغتهم، ولهم تاريخهم الخاص، ولهم جامعاتهم العريقة، وهناك ثانيا، تفضيلاتهم السياسية التي تختلف عن توجهات لندن. هناك حزب جمهوري اسكتلندي له أنصار كثيرون. ولا يكاد يوجد مناصرون لحزب المحافظين بينهم، فنوابهم في مجلس العموم متحالفون دائما مع حزب العمال، وهم يرفضون السياسات الإقتصادية لحزب المحافظين التي تقلل من دور الدولة في تقديم الخدمات الإجتماعية، وفي الحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل على غزة كان تعاطفهم واضحا مع الفلسطينيين على عكس ديفيد كاميرون رئيس الوزراء المحافظ الذي كان مؤيدا لإسرائيل على طول الخط. ثم هناك ثالثا الشعور بأنهم سيكونون أحسن حالا لو استقلوا عن لندن. فلديهم نفط بحر الشمال الذى سيستأثرون بدخله ولديهم صادراتهم من الأسماك والمشروبات الكحولية وإيراداتهم من السياحة، سيتوزع هذا الدخل على خمسة ملايين من السكان بدلا من مشاركة أكثر من ثمانية وخمسين مليون آخرين فيه.
ولكن إذا كانت هناك هذه المكاسب فلماذا صوتت أغلبية الإسكتلنديين ضد الإستقلال؟ هناك طبعا الرغبة في البقاء في ظل دولة كبيرة مازالت من بين القوى الكبرى في العالم، وهناك تاريخ القرون الثلاث الماضية الذى أنتج روابط إجتماعية وثقافية حميمة بين الإسكتلنديين وسكان الأقاليم الثلاث الأخرى في المملكة المتحدة وخصوصا الإنجليز، ولكن هناك أيضا مخاطر الإستقلال التى استغلها ببراعة انصار البقاء ضمن المملكة المتحدة، مثل الإضطرار للبحث عن عملة مستقلة بعد الخروج من سلطة بنك انجلترا والجنيه الإسترليني. وهناك إعلان بعض البنوك والشركات الكبرى أنها ستغلق فروعها في اسكتلندا، وهناك المخاوف من صعوبة الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي، وقد أعلنت الحكومة الإسبانية التي تخشي استقلال إقليم كاتالونيا الثري أنها ستعترض على انضمام اسكتلندا للإتحاد الأوروبي، وحتي بالنسبة لصادرات اسكتلندا من الأسماك والويسكي، فبقية المملكة المتحدة هي سوقها الأساسي. وهكذا تنفس أنصار البقاء في المملكة المتحدة الصعداء عندما أعلنت نتيجة الإستفتاء الذي جاء بحسب ما تمنوه.
***
ولكن لماذا أحكي لكم هذه القصة التى تتعلق ببلاد بعيدة عنا جغرافيا وثقافيا وتاريخيا حتى ولو كنا مستعمرة بريطانية لمدة أربعة وسبعين عاما؟. هناك دروس هامة نتلقاها من هذه التجربة.
أولها هو الإستعداد لتسوية منازعات خطيرة ومصيرية سلميا وبالإحتكام للرأي العام في انتخابات نزيهة وحرة وشفافة . لقد كان الإستفتاء على مصير اسكتلندا موضع اتفاق منذ عامين بين ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني وأليكس سالموند الوزير الأول في اسكتلندا وزعيم الحزب الوطني الإسكتلندي. احترم رئيس الوزراء البريطاني هذا الإتفاق. طبعا حاول إقناع الإسكتلنديين برفض الإستقلال، ولكنه لم يبذل أي مجهود ولا فكر حتى في تعويقه أو تأجيله. التزم الإثنان بقبول الإحتكام للرأي العام في اسكتلندا.
ثانيا، تقبل نتيجة الإنتخابات الديمقراطية أيا كانت والعمل بموجبها. طبعا كانت نتيجة الإستفتاء مخيبة لآمال أنصار الإستقلال وصدمة قاسية لهم. ولكنهم تقبلوها في هدوء. لم يشككوا فيها، ولم يطالبوا بإعادتها. ولم تخرج الجماهير في اسكتلندا منددة بالتزوير في النتائج. طبعا فرح أنصار البقاء في المملكة المتحدة، ولكن عاد الجميع إلى أعمالهم، البعض حزين والآخر مبتهج، ولكن دون أن يتشفي المنتصرون في المنهزمين، ودون أن تتأثر علاقات الأخوة في المواطنة بينهم.
ثالثا، تقبل المسئولية عن الهزيمة وتحمل عواقبها. كان مصير كل من رئيس الوزراء البريطاني والوزير الأول في اسكتلندا معلقا على نتيجة هذه الإنتخابات. كان ديفيد كاميرون مستعدا للإستقالة لو كان أنصار الإستقلال هم الذين كسبوا فهو سيكون مسئولا عن انفراط عقد المملكة المتحدة. ولما جاءت نتيجة الإستفتاء على عكس ما كان يتمنى أليكس سالموند فقد تقبلها وأعلن أنه سيستقيل من منصبه اعترافا بأن الهزيمة تعود إليه، وعليه دفع الثمن.
رابعا، التعلم من النجاح ومن الفشل والسعي لرأب الصدع. لقد أدرك الساسة البريطانيون عمق الرغبة في الإستقلال في اسكتلندا بل وتطلع الرأي العام في انجلترا ذاتها إلى قدر أكبر من الإستقلال في مواجهة لندن ولذلك كان وعد ديفيد كاميرون بأن الحكومة البريطانية تستعد لإدخال إصلاحات دستورية توفر ليس فقط لإسكتلندا بل ولكل من إنجلترا وويلز قدرا أكبر من الإستقلال في إدارة شئونها. مثلما تتمتع به إيرلندا الشمالية. وهكذا لم يدر ساسة لندن ظهورهم للتطلعات الإسكتلندية لمزيد من الإستقلال لأن المطالبين بالإستقلال هزموا في الإستفتاء ، ولكنهم أدركوا أنه ما لم يأخذوا هذه التطلعات بعين الإعتبار ويسعون للتقابل معها، لتكررت في المستقبل الدعوة للإستفتاء، ولن يكون من السهل هزيمة هذه المطالب عبر صناديق الإقتراع.
هذه دروس ما جرى في اسكتلندا منذ عشرة أيام. فهل فيها ما نتعلمه نحن في وطننا العربي في مواجهة صراعاتنا السياسية؟ أترك الحكم لكم أعزائي القراء.