كتبت سوسن الأبطح في الشرق الأوسط:
معارك طرابلس هذه المرة مختلفة ومقلقة. تشعر وأنت تتحدث مع المعنيين بأن الأمر لم يعد كسابقاته، فالخوف من التطورات السورية الدموية، وانعكاساتها على لبنان، والشمال بشكل خاص، يتعاظم.
صحيح أن العاصمة الثانية تعيش حروبا صغيرة ومتقطعة، تسمم حياة سكانها وتستنزفهم منذ عام 2008، باعتبارها الخاصرة الرخوة للكيان اللبناني، لكن المقاتلين الأشاوس الذين تناموا وتم تسمينهم، بفضل الثورة السورية، وكانوا لأشهر خلت يقتحمون شوارع المدينة بأسلحتهم وعتادهم ويطلقون النار في الشوارع لمجرد إرعاب الناس، يبدون اليوم أكثر حيطة وحذرا، سواء في تحركاتهم أو في إعلان نواياهم.
ولهذا تشتعل طرابلس ليلا. فالظلام يستر الوجوه والهويات، وتستريح نهارا، حتى إن عدد المسلحين في التبانة يصبح معدودا ومحدودا. الجيش لم ينتظر أن يتعب المحاربون، كما كان يفعل في معارك منصرمة، كي يدخل ويفصل بين المتحاربين ويتمركز. الأوامر أعطيت له من اللحظة الأولى ليستخدم مضاداته ورشاشاته، في سابقة هي الأولى من نوعها، مما حدا بالسكان للتساؤل عن أصوات الأسلحة الغريبة التي يسمعونها. السلطة السياسية على أعلى المستويات، بدءا من رئيس الجمهورية، تظهر حزما، لوضع حد، ولو مؤقت، للتقاتل، بالسرعة الممكنة.
القلق الرسمي السياسي والعسكري يشرحه المقاتلون، والمطلعون على التحركات في باب التبانة، بصراحة أكبر ولغة أبسط. لا يخفي أحد المقاتلين أن اندلاع معركة القلمون في مناطق محاذية للحدود اللبنانية لن تكون انعكاساته بالقليلة. ويقول هذا المقاتل «معركة القلمون في سوريا فتحت أو هي على وشك أن تبدأ، وستكون حاسمة بالنسبة لمستقبل سوريا ولبنان معا». وفي رأيه أنه «في حال انتصر النظام السوري في هذه المعركة المصيرية، فهذا معناه أننا جميعا هنا، كمقاتلين في باب التبانة، يجب أن نختفي». ولا يستبعد هذا المقاتل أن يكون تضخيم حجم مقاتلي باب التبانة إعلاميا هو لتحليل دمهم والقضاء عليهم في الوقت المناسب، ومعهم مقاتلو جبل محسن أيضا.
«أما إذا استطاعت المعارضة السورية أن تكسب فهذا يعتبر نصرا مبينا لنا، سيغير المشهد برمته، وسيفتح الحدود بين البلدين على غاربها لمقاتلينا ومسلحينا في البقاع وعكار»، يقول هذا المقاتل، ويمني النفس بأن سوريا ولبنان سيدخلان حينها عهدا جديدا مختلفا تماما.
لكن بينما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في سوريا، فإن الإسلاميين ومعهم مجموعات مسلحة أخرى في باب التبانة لا ينفكون يعلنون أنهم لا يشاركون في المعارك الدائرة في الضاحية الشمالية لطرابلس، مع جبل محسن الذي تقطنه غالبية علوية، تعلن تأييدها للنظام السوري. لكن الحقيقة أن بعضهم يشارك وينكر، ويؤيد ويخفي.
هذا التبرؤ المستجد يعكس أمرا من اثنين؛ إما تخوفا من تغير الموازين الإقليمية الذي قد يكونون كبش محرقته، أو أنهم ينتظرون اللحظة المناسبة لإعلان معركتهم الشاملة على جبل محسن. والأرجح أن الأمرين يسيران معا.
الطرفان المتقاتلان في طرابلس يتهم كل منهما أطرافا خارجية باستغلال طرابلس وأهلها من أجل تسجيل المزيد من المكاسب في سوريا، ولكل حججه ووجهة نظره، لكن الصحيح أيضا أن أبناء المدينة لا يرون في المعارك الدموية الدائرة غير عبث لا طائل تحته. وهو ما يستند إليه رئيس حكومة تصريف الأعمال في مواقفه وتهديداته بـ«معاقبة كل خارج عن القانون». ويؤيده مفتي طرابلس والشمال مالك الشعار.
فالطرابلسيون في عمومهم ينظرون إلى جبل محسن كمؤيد لنظام أساء معاملتهم وأذلهم، لكنهم في الوقت نفسه لا ينظرون بعين الرضا إلى الاعتداءات على الجيش اللبناني من قبل مقاتلي باب التبانة. ومع تدهور الوضع الاقتصادي وشلل المدينة والخشية مما يمكن أن تنتجه المعارك السورية، فإن الطرابلسيين باتوا يقبلون بحلول كانوا لا يستسيغونها سابقا، ومنها استدعاء الجيش لحسم المعركة على الأرض، بين الطرفين المتصارعين.
للمرة الأولى بتنا نسمع مشايخ يصفون مقاتلين في باب التبانة كمخبرين لأجهزة أمنية ومخربين، كما أن القيادي في تيار المستقبل مصطفى علوش لا يرى في بعض ممن يقاتلون في التبانة أكثر من «نفعيين» وربما «تجار»، قد يكونون متواطئين مع مقاتلين في جبل محسن، لتأجيج معارك مفتعلة. ولم يسبق أن سمعنا زعيم جبل محسن رفعت عيد، الذي طالما تغنى بأن كلمته مسموعة بين مقاتليه، يصرح بأن بعضهم خرجوا عن السيطرة.
من الصعب معرفة كل ما يجري في الكواليس، لكن المتغيرات الإقليمية يبدو أنها تؤثر سريعا، في الصميم، حتى على الأزقة اللبنانية، والأحياء الفقيرة المنسية.
طرابلس في دوامة «لعبة الأمم»، لا بل منطقتان صغيرتان منها، يخشى أن تدخلا لبنان في حرب أهلية. هذا ما يحذر منه العقلاء اليوم، وعلى أهل طرابلس أن يتعلموا من مهالك جيرانهم. فالعاقل من اتعظ بجنون غيره. وثمة معلومات تقول ان الجيش اللبناني أعطي الأوامر، خلافاً لكل المرات السابقة، بقضم المجموعات المسلحة، وعلى مهل. هذا قد يستغرق شهوراً طوالا، لكن الغطاء السياسي عن المخلين، بمختلف انتماءاتهم، رفع – تقول المصادر – وسرعة التنفيذ رهن بالتطورات الإقليمية المقبلة.