فى أواخر أكتوبر من العام قبل الماضى، وفى أنبوب صرف خرسانى مهمل كان العقيد الليبى “معمر القذافى” يختبئ فى ملاذه الأخير فى الدنيا قبل أن يفارقها، وبغض النظر عن المفارقة بين الرواية الرسمية لحلف الناتو، التى ترجح أن إحدى غارات الحلف كان السبب فى أسر العقيد وإصابته، أو رواية أخرى تقول إن الثوار هم من عثروا عليه وقتلوه، فإن القذافى قد رحل عن ليبيا وعن أفريقيا وعن الدنيا، وبقيت ليبيا تواجه تحديات صعبة وكبيرة رغم مرور عامين على بداية الثورة الليبية التى كللت فى النهاية بالتخلص من طاغيتها ، وحتى أفريقيا تواجه تحديات أصعب وأكبر مع ازدياد مناطق التوتر فيها ، لكن كل شىء سيكون على ما يرام طالما بدون طغاة من نوعية القذافى!
صحيح.. أنه لا شماتة فى الموت، لكن حتى وبمجرد أن انتشر خبر مقتل العقيد القذافى وقتها .. فإذا بالنكات والسخرية عن القذافى تعود إلى صفحات ومجموعات الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعى بسرعة البرق، منها ذاك التصريح المصطنع على لسان القذافى الذى يقول فيه: “خبر مقتلى صحيح، لكنى أؤكد لكم أنى بخير وبصحة جيدة”، لكن إذا كانت تلك المقولة الساخرة مصطنعة فقد كانت مقولات القذافى الحقيقية لا تقل سخرية عنها، هذا بخلاف ملابسه وهيئته العامة، التى تجلب السخرية حتى دون أن ينطق بأى كلمة أو يصوب تصريحاً طائشاً يصيب به العلاقات بين ليبيا وأى دولة أخرى بالموت أو على الأقل التوتر، هو قائد ثورة.. أرادها أن تستمر 42 عامًا، وإذا كانت ثورته فى بدايتها قامت للتخلص من الملكية وإرساء نظام جمهورى ديمقراطى حقيقى فى ظل نهضة عربية قديمة كانت أشبه بثورات الربيع العربى الحالى، لكن حتى بعد أن حققت الثورة هدفها، أراد القذافى لها أن تبقى مستمرة ويظل هو قائدها، ولا نعرف على أى شىء كان “يثور” خلال كل تلك العقود الماضية، خصوصًا أن الأحوال لم تتغير للأحسن، ولم تنهض ليبيا النفطية لتصل إلى المستوى الذى هى عليه دول الخليج مثلا، فبقيت “الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى” بلا حراك إلى الأمام، لم يكن الاسم الذى أعطاه العقيد لجماهيريته سوى مجموعة من الكلمات تشبه إلى حد ما ألقابه الكثيرة والمتعددة، فبخلاف كونه “قائد الثورة”، فهو “ملك ملوك أفريقيا”، “عميد الحكام العرب”، “إمام المسلمين”، “الفاتح العظيم”، “المفكر الأممى”، “صاحب النظرية الثالثة”، “صاحب الكتاب الأخضر”، ” قائد الطوارق”، “رئيس تجمع دول الساحل والصحراء”، وألقاب أخرى كثيرة قد يصعب الإلمام بها كلها.
لم تكن ليبيا تعرف الديمقراطية فى عهده، رغم الادعاء الرسمى السائد بأن الحكم بيد الجماهير، لأن ببساطة لم تكن الجماهير تجد من يعبر عنها بالأساس، فوسائل الإعلام الرسمية لا تتحدث إلا عن القائد، واللافتات فى الشوارع تعج بكلمات القائد المقتبسة من خطاباته، الصحف لا ترصد سوى تحركات القائد، ومقالات الرأى لا تحلل سوى سياسات القائد، لا يمثل ليبيا فى الخارج سوى القائد، ولا بطل فى ليبيا سوى القائد.. هكذا كانت ليبيا طيلة 42 عاما، كل شىء هو من ابتكار وإبداع القائد.. البطل.. الأب معمر!، وكأن الجماهير قد عقمت فلم تنجب أى ليبى يمكنه أن يصنع شيئا أو يقدم جديداً، ربما لأن القائد وأبناءه لم يتركوا شيئا إلا وفعلوه!
ليبيا ألان وبالرغم من مرور عامين على ثورتها فإنها مازالت تتحسس معالم بداية طريق الديمقراطية وتنتهج سبيلا جديدا يأمل الجميع أن ينتهى بليبيا قوية وقادرة على تعويض عقود القذافى، التى أضاعها من عمر الدولة الليبية، ولعل الغد يحمل الخير للبيبين وللعرب جميعا.