كتب رضوان السيد في الشرق الأوسط:
كنت في مقالتي بجريدة «الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي قد تحدثت عن عذابات المسلمين في لبنان انطلاقا من أقاصي شرق البقاع في بلدة عرسال التي لا تزال شوكة في عين النظام السوري وعين حزب الله، لأنهم يتهمون سكان البلدة بالوقوف إلى جانب الثورة السورية.
أما حديث هذا الأسبوع عن تلك العذابات، فيتناول أحداث ضاحية عبرا بمدينة صيدا، والمعارك التي دارت بالحي من حول مسجد بلال بن رباح الذي كان يتمترس فيه الشيخ أحمد الأسير مع أنصاره. وقد قيل إن الاشتباك بدأ بهجوم لجماعة الأسير على حاجز للجيش قريب من المسجد قتل فيه عشرة عسكريين. وبعدها دارت اشتباكات عنيفة في الحي كله بين الجيش رسميا وجماعة الأسير، وفعليا مع مسلحي حزب الله وحركة أمل، والذين ما اكتفوا بإطلاق النار على الحي من حارة صيدا المجاورة لعبرا، بل ومن مجدليون، وهي ضاحية مرتفعة يقع فيها منزل النائبة بهية الحريري. وقد استمر القصف لأكثر من أربع وعشرين ساعة، مع نشر الحواجز المسلحة في سائر أنحاء صيدا، وما جلا المسلحون القادمون من حول بيت آل الحريري والطرق المؤدية إليه إلا مغرب يوم الثلاثاء في 24 / 6 بعد أن أعلن الجيش عن استيلائه على «المربع الأمني» للأسير، وقد وجد فيه كميات هائلة من السلاح «والمسلحين الغرباء من التنظيمات المتطرفة»! أما المقتولون من الجيش وجماعة الأسير فيناهزون الثمانين، فضلا عن أكثر من مائة جريح من الطرفين!
لقد كانت التفصيلات ضرورية، ليس بسبب عدد القتلى الكبير فقط، وليس لأن دارة آل الحريري حوصرت، كما ليس لأن وزير الخارجية السوري أعلن أثناء الاشتباكات عن ضرورة الانتصار في عبرا مثل الانتصار في القصير؛ بل لأن «العذابات» التي أتحدث عنها صارت تتخذ نمطا ما عادت العين تخطئه منذ عام 2008. فالمسلمون في لبنان وبعض المسيحيين والشيعة من خصوم سطوة حزب الله على اقتناع قوي بأن الحزب والنظام السوري، وقد استوليا على الوزارات والمؤسسات والمقدرات، صاروا منذ «نجاح» احتلال بيروت عام 2008، يستخدمون القوى العسكرية الرسمية لتغطية غزواتهم، ومحاولاتهم لكسر الاعتراض السني والوطني الباقي والمتنامي على استيلائهم على الدولة والمجتمع، وأخيرا على تدخل الحزب في سوريا. وقد قال قائد الجيش عام 2008، وهو رئيس الجمهورية الحالي إن الجيش لم يتدخل لمنع الحزب من احتلال بيروت خشية انقسامه! أما عملية صيدا؛ فإن الجيش – بحسب قائده الحالي – إنما خاضها للحفاظ على هيبته بعد أن تعرض لاعتداء غادر. وبين الخشية على وحدة الجيش، والخشية على هيبته، وقع الاعتراض السني والوطني على حزب الله في تأزم ينتهي دائما بالقتل وإن تنوعت الأسباب.
بدأ الشيخ الأسير، إمام مسجد بلال بن رباح بمنطقة عبرا بصيدا، حركته الاحتجاجية على حزب الله بخطابات شعواء في المسجد، ثم بسد الطرقات بالمدينة. وأصر نائبا المدينة بهية الحريري وفؤاد السنيورة قبل عامين على أن هذه الطريقة في الاعتراض تسيء إلى أهل المدينة في عيشهم وتنقلاتهم، وترفع منسوب التوتر الطائفي والمذهبي. وأجابهما الأسير ساخرا من طريقتهما وسعد الحريري في الاعتراض، والنتائج الهزيلة والهزائم التي أدت إليها. وبعد أن تنقل مع أنصاره بين صيدا وبيروت وطرابلس والبقاع، وحصل على شعبية كبيرة لدى عوام الناس المنزعجين من استيلاء الحزب على شوارعهم ومؤسساتهم بما في ذلك رئاسة الحكومة، تقدم درجة نحو الصدام عندما تعرض بالنزع لشعارات دينية رفعها الحزب في إحدى المناسبات الشعائرية. وأجاب الحزب على التحدي بقتل اثنين من مرافقي الأسير في حملة النزع من دون أن يتعرض أحد من القتلة للمساءلة. وما تراجع الأسير ولا خاف، بل بدأ بجمع السلاح والمسلحين، بحجة أن حزب الله يملك تنظيما مسلحا بالمدينة هو «سرايا المقاومة»، كما يملك شققا في بنايات فيها هي مراكز أمنية مسلحة. وعندما تدخل الحزب في الحرب السورية، ازداد هياج الشيخ الأسير، مثلما ازداد هياج المعترضين المسلحين في طرابلس، ودعوا جميعا للتطوع والقتال إلى جانب الثورة السورية. وقد ظهر الأسير في إحدى المرات أثناء حرب القصير في صورة بالبلدة أو على مقربة منها. وبعد سقوط القصير أصر الأسير على إزالة مركز أو مراكز حزب الله بالمدينة. وقد حدثت وساطات بعد أن كاد الاشتباك يحدث في الأسبوع الماضي، بحيث وعد الأسير بخروج الحزب من الشقق. لكن الاشتباك حصل قبل موعد الإزالة بيوم واحد، وقام به الجيش بمساعدة الحزب ومشاركته، والدافع المباشر: اعتداء أنصار الأسير على حاجز للجيش، كما سبق القول. لكن نيران الحزب وحركة أمل الكثيفة وعلى مدى ساعات متطاولة، تشعر بأن الأمر دبر بليل، وينبغي التحقيق بالفعل في حقيقة التعرض لحاجز الجيش.
لقد تكررت هذه الظاهرة، وتنقلت، بين طرابلس، وعكار، وعرسال، والبقاع الأوسط، ومجدل عنجر، والمصنع على طريق الشام: ينطلق الغضب السني من الحزب في صورة اعتصامات وسد طرق، وظهور مسلحين. وتظهر وتتفاقم حملات إعلامية على التطرف السني، وعلى «القاعدة» في أوساط السنة، وأخيرا على التكفيريين بحسب تعبير حسن نصر الله، ويتدخل الجيش لفتح الطريق، أو لملاحقة هذا «المتطرف» أو ذاك، ويسقط القتلى والجرحى، ويقاد العشرات للتحقيق، وينصرف سياسيونا وفي طليعتهم سياسيو «تيار المستقبل» لإظهار ولائهم للجيش وفكرة الدولة، وينعون شهداء الجيش، أما الضحايا الآخرون فلا ناعي لهم. هكذا حدث في مقتل الشيخين بعكار، وفي قتل العشرين فتى الذين أرادوا الذهاب لمساعدة الثورة في سوريا، وفي غارة الجيش على عرسال وقتل رجل في ساحة البلدة أثناء صلاة الجمعة، والأسبوع الماضي في بلدة مجدل عنجر، وأول من أمس في مذبحة صيدا. وهذا كله فضلا عن سقوط أكثر من مائتي قتيل في اشتباكات طرابلس/ بعل محسن بحضور الجيش، ومن دون أن يسأل أحد عن قاتل أو قتيل!
قبل يومين، اتصل بي ضابط كبير سابق، مهتم بالشؤون الاستراتيجية، للسؤال عن مراجع لبعض المسائل التاريخية الخاصة بالمزارات الشيعية لآل البيت، وللأولياء عند الشيعة والسنة. ولأن أحداث صيدا الهائلة كانت دائرة، فقد سألني عن رأيي، فذكرت له رؤيتي للنمط السائد منذ عام 2008: إما أن تصفوهم أو نفعل نحن، وينتهي الأمر دائما بالتصفية المنسقة. وقد اعترض الرجل بدءا على وصف الأمر بأنه نمط سائد، ويجري دائما الإعداد له بنفس الطريقة، لكنه كان قد سمع مثلي تصريح وزير الخارجية السوري عن ضرورة الحسم في صيدا مثل القصير، فتوقف عن الحديث عن «ظواهر» التطرف والفوضى عند السنة، وقال: إن الجيش يتدخل عادة لسببين؛ الأول منع تكون مربعات أمنية وبؤر أمنية جديدة، والثاني: الحيلولة دون الاحتكاك المسلح بين الشبان السنة والمسلحين الشيعة، خشية اندلاع حرب أهلية حقيقية بين الطرفين في سائر المناطق. وتابع: ستسألني عن مربعات الحزب الأمنية، واستخدامه للطرق الرسمية في إرسال آلاف المسلحين إلى سورية لمساعدة الأسد، ونشره «لسرايا المقاومة» في كل القرى والبلدات السنية ومنها بيروت، وأنا أقول لك: ما باليد حيلة، فالعين بصيرة واليد قصيرة!
العقل يقول إن طرائق هذا الاعتراض غير مجدية، وهي مضرة بالسنة أكثر من إضرارها بالحزب وميليشياته. لكن الغضب لا حدود له، والاستنزاف الدموي والسياسي والاجتماعي لا حدود له. ولا مخرج إلا بسقوط هذا النظام القرمطي في سوريا ولبنان.