كتب أحمد بعلبكي في النهار اللبنانية:
إستند الفقه الشيعي على الإعلان الجلي للنبي محمد (صلعم) في تخصيص على بن أبي طالب بالإمامة مذكراً بصفات مشخصة له عن الخلفاء والصحابة. وهذا ما برّر حصر الإمامة بالتعيين لأبنائه الأكثر قدرة على القضاء بأحكام الله من أبناء فاطمة من بعده.
تواصل تعيين الأحفاد من الذين قُيِّض لهم من العلم والعدالة ما مكنهم من استبعاد أخوان لهم أحياناً كانوا أقل حظاً وحظوة. وانتهى توالي الإمامة بينهم على امتداد ما يقرب من قرنين ونصف مضت بين إستشهاد الحسين وتولية الإمام محمد بن الحسن الذي اختفى في غيبة كبرى في مطلع القرن العاشر الميلادي وعُرف مذاك بالإمام المهدي المنتظر أو المُخلِّص.
ويجدر التذكير بأن الإختلافات في تعيين الإمامة تواصلت بعد الحسين بن علي (680 ميلادية) وانتهت بظهور الإمام المنتظر الثاني عشر (عام 910 ميلادية) وأدت إلى ظهور شيع كثيرة منها من غالى في موالاة الأئمة وقال بألوهيتهم، ومنها من قال بحلول الألوهية فيهم تأثراً بقول النصارى في المسيح. ومنهم من توقف عند إمام تولوه ولم يتجاوزوه فسُموا بالواقفية. وكان التأثر بالنصرانية بالغاً في اعتماد مسألة صعود المسيح إلى السماء وتطبيقها باعتماد مفهوم الغيبة على اختفاء الإمام المنتظر، فقيل إنه تغيّب حين اعتُقل وذهب موالوه في إيمانهم بقدسيته إلى الإيمان بأنه سيخرج آخر الزمان ليملاً الأرض عدلاً وهو المخلِّص. وقد اشتُهر عن الإمام على بن أبي طالب أنه حرق بالنار من ذهب في المغالاة بموالاته إلى حد التأليه كما واشتهر لاحقاً عن الإمام جعفر الصادق تصديه للمغالاة في موالاته. وهكذا تواصلت الإختلافات في تعيين الأئمة على امتداد حوالي قرنين ونصف.
وارتبطت غيبة الإمام الثاني عشر لدى الشيعة بمعصوميته التي دفعت عوام مواليه إلى المغالاة بتقديسه كما هو دأب العوام المتدينة وقد ذهبت في اعتصامها بانتظاره إلى حد القول بأن غيبته تعد بظهوره آخر الزمان وهو باعتقادها صاحبه ليخلصها من ظلامة إضطرارها لقبول تقديم خلافة أبي بكر المفضول على خلافة علي الأفضل.
إن تاريخ العصبيات المتحصن بشرائعها الدينية التي لا تقبل فيها طعناً ولا تأويلاً والمزاكاة بدماء أئمتها المعصومين، هو تاريخ يحرص فيه قادتها على الإبتعاد عن إرهاف الحد والنقد في معتقداتها ولا يتوقف فيه حكامها عن التقرب إلى تزمتها فيشهرون مآسيها ليحولوا وعيها عن ظلامات عيشها في دنياها إلى الإعتصام بالتزهد والإيمان بما تبقى لها من وعد بظهور المخلِّص المنتظر ليملاً الأرض عدلاً مما حرمت منه. ويشتد التعصب في عصبيتها خاصة في ظروف تأزم مواقع قادتها في السلطة فتُستثار أحاسيسها بفعل النيل من أرصدتها الثقافية الدينية والرمزية.
لقد شكل إخفاء الإمام الصدر في ظروف هيجان العصبيات وتضعضع الولاءات الإقليمية للقيادات السياسية اللبنانية الشيعية، صدمة لا سابقة لها لعوام واسعة في قواعد الطائفة. صدمة تمثلت في فقدان قيادة طرحت قضية حرمانهم وتهديد منهم في الجنوب. وحرصت على إبعادهم عن صفوف الأحزاب اليسارية وعن المنظمات الفلسطينية وان ظلت لا تستبعد تبادل الدعم مـــــــــــــــــــع قياداتها أحـــــــيانـــــــاً. وأسست بفضل هذا الدعم لمقاومة شيعية تخرج عن إرادة القيادات الفلسطينية وعلاقاتها العربية. فكان طرحاً متصالحاً مع الدولة ومع قيادات الطوائف اللبنانية التي غالباً ما اتهمها اليسار القومي والشيوعي بالمسؤولية عن هذا الحرمان.
أجل لقد فقدت عوام واسعة من الشيعة قيادة تتمتع بالشروط الأربعة للأمانة التي أشار إليها الرسول (صلعم) وهي: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس.
وبمثل هذه القدرات والعلاقات والمسافات السياسية أصبح الإمام الصدر قائداً للعوام الواسعة مـن الشيعة وركناً أساسياً في التركيبة الطائفية اللبنانية قادراً على التصدي لأي تطلع عربي أو فلسطيني للتحكم بالساحة الجنوبية واللبنانية والشيعية خصوصاً. ولهذا أصبح عقدة الحل والربط ولهذا دُعي إلى ليبيا جماهيرية الإستبداد القومي التي فرضت على أحزاب الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية أن تبعث بمقاتليها لتقاتل عنها على حدود تشاد ضد النظام الذي خرج على طاعتها.
ولهذا شكلت عفوية قبول الدعوة إلى تلك الجماهيرية خطيئة سياسية كبرى وخسارة لا تُعوض. كما وشكلت كميناً لإخفاء الإمام. كمين كان يمكن توقعه من قبل مخابرات حلفائه الســــــــــــــــوريين والفــــــــــلسطينيين وخبراتهم في التعامل مع أجهزة الرئيس الليبي أو مع الأجهزة العربية المتحالفة معه وهي أجهزة مقيمة في رعايته تعرف كيف يستفيد من ترهل البداوة في مؤسساته الإستخبارية والسياسية والأمنية المتحركة في فنادقه ومطاراته.
وإذا كان من الممكن تفسير إغفال هذه الهواجس والمخاطر المحيطة بتلبية “ملك ملوك” إفريقيا وبزيارة دولة كليبيا في حينه بأنه إغفال قد يعود إلى عفوية الإمام في تجاوز الشكوك سعياً للحصول على أشكال من الدعم الذي تقتضيه جبهات السياسه والمقاومة التي كان يقودها في حينه. إلاّ أن الفهم الأكثر صعوبة هو تقبل تحالفات نظام حافظ الأسد ومخابراته ومنظمة التحرير الفلسطينية ومخابرات فصائلها، وعلى مدى عشرين سنة على الأقل، وليس لتعسف القذافي في إختفاء الإمام المدعو لاستضافته وحسب بل لتملص هذه التحالفات العربية “الممانعة” من إحراج صلف العقيد في نكرانه لمسؤولية أجهزته عن مصير الإمام.
ولكن ما يستعصي فهمه وسيظل كامناً في صدور قيادات حركة أمل وحزب الله هو تفسير عجزها، على مدار أكثر من ربع قرن، عن الربط بين ما تسميه تحالفاً مقدساً مع النظامين الإيراني والسوري وبين جدية ضغوطهما للإفراج عن شخص الإمام ورفيقيه أو عن رفاتهم على الأقل وهذا هو المرجح. ولكن يبدو أن لهذا التحالف أثمانه التي تقبلتها القيادات الطائفية للشيعة وتعوضت عن تبعيتها السياسية لهذين النظامين وعدم إحراجهما بما يتعلق بقضية الإمام الصدر بالحصول على إمدادات سياسية ومالية مفتوحة ضمنت تحصين إحتكارها لقرار الطائفة وتمثيلها في مؤسسات الدولة وإمدادات عسكرية لمقاومة إسرائيل ومكنتها من بطولات غير مسبوقة ولكنها ظلت عاجزة عن معرفة مدفن رفات سيد المقاومة.
لكل هذه الإحراجات المستعصية كان يجب إفهام العامة الشيعية على مدار أكثر من ربع قرن أن إمامها ورفيقيه قد غُيِّبوا ولا يجوز الحاح المؤمنين في تطلب عودة الغائب الذي لن يعود إلاّ في آخر الزمان وتكبر غيبته على قدر قدسيته وما على المؤمنين إلاّ أن يذكرّوا بحضوره البهي في الصور المشتركة المعلقة مع أولياء تراثه في الحملات الإنتخابية وفي الذكرى السنوية المحددة لزعاماتهم والمذكرة بوفاء الشيعة لإمامهم المغيَّب.
نعم إنها مقتضيات الربط بين الدين والسلطة وهي مقتضيات لا يدركها إلاّ الراسخون في المؤسسات الشيعية في كل منهما.