الخيانة كاسمها، خيانة، خُلُقٌ بشريٌّ لعب دورًا جذريًَّا في هندسة ملامح العالم كما الآن نعرفه، فإن مما هو في حكم البديهيات أن التاريخ لا يستطيع أن يسرد فصول قصة الإنسانية دون الرجوع إلي الخيانات والسم والدسائس كمراجع هامة للتغيير، وحصرية أحيانًا، فصول التاريخ العربي علي وجه الخصوص!
مما هو في حكم البديهيات أيضًا أن هناك أوقاتًا لها علي الدوام طبيعتها الخاصة ينشط فيها الخونة أو يتظاهرون بالنشاط هي عادة تلك الأوقات التي تسبق الأزمات المفصلية في حياة المجتمعات أو تلحق بها، تمامًا كما تنشط الشائعات، وقصة مصر عامرة بمثل هذه الأوقات وبالخونة الذين التقطتهم ذاكرة التاريخ بوضوح والذين كان لديهم أثر علي الأحداث الكبيرة وابتلعتهم مع ذلك ظلال النسيان!
انقلاب “أحمد عرابي” كان رحمًا صالحًا لولادة حزمةٍ لا يستهان بها من الخونة، وحتي الآن لا تزال لهجة العوام في مصر تقبض علي مفردة: “ولس” و “موالس” وهي مفردة تسللت إلي الألسنة في هذه الفترة تحديدًا فقط لأن “ولسلي” كان قائد الإنجليز الذي بفضل الخونة انتصر، أو هكذا كانوا يعتقدون!
ترددت أسماء بعض أولئك الخونة بوضوح في سجلات الجيش البريطاني لتلك الفترة، مثل، “مسعود الطحاوي” في الصالحية، و “محمد البقلي” في وادي الطميلات، ليس هذا كل شئ، إنما، ورد في مذكرات لورد نورثبروك “توماس جورج بارينج” أن خيانة “مسعود الطحاوي” الموكل بمهمة الاستطلاع والرصد من قبل “عرابي” كانت السبب الجذريَّ لانكسار الجيش المصري المزري في معركة “التل الكبير” في دقائق معدودات، وهذا، تمامًا، ما أكده المستشرق الإنجليزي “ولفريد بلنت” في كتابه “التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر”!
لكن، يبقي “خنفس”، أو “علي بك يوسف”، قائد مقدمة الجيش، أميرالاي الثالث “بيارة”، هو صاحب النصيب الأعمق أثرًا بين خونة ذلك الفاصل المؤلم من قصة مصر!
كان “عرابي” قد طلب من “خنفس” أن يضعه دائمًا في قلب الأحداث وأن يوافيه بالأخبار عن تحركات الإنجليز يومًا بيوم، لكن، حدث تعقيبًا علي خيانته، وخيانة خائن آخر هو “عبد الرحمن حسن” قائد السواري، أن استطاع الجيش البريطاني أن يتقدم في الظلام خمسة عشر كيلومترًا دون أن يشعر به أحد، ليس هذا فقط، بل، خوفًا من أن يضل الإنجليز الطريق كان “خنفس” يضئ لهم المصابيح لترشدهم، الطريف، أن “خنفس” أرسل إلي “عرابي” عشية المعركة برسالة مقتضبة:
– كله تمام!
وعلي أصداء تلك الرسالة المضللة أنفق “عرابي” وجنوده الليلة في حلقات الذكر وترديد اسم “اللطيف” حتي اقتحم الإنجليز صباحهم وهم في ملابسهم الداخلية، وكانت الهزيمة الساحقة!
ولا أعتقد أن من بين سجلات ذلك الزمان استطاع أن يعكس المشهد كاملاً كمذكرات “أحمد شفيق باشا”، وها هو يلوح لنا من هناك بأحد أسباب الهزيمة حين يقول:
(ومن المضحكات المبكيات، أن صديقي المرحوم البمباشي “حسن رضوان”، قومندان الطوبجية في استحكامات التل الكبير، أخبرني بأنه في مساء 12 سبتمبر دخل عليه في الطابية أحد أرباب الطرق الصوفية وبيده ثلاثة أعلام، وتقدم إلى أحد المدافع فرفع عليه أحدها وقال:
– هذا مدفع السيد البدوي!
ثم انتقل إلى مدفع آخر فوضع عليه علماً ثانياً وقال:
– إنه لسيدي إبراهيم الدسوقي!
ثم إلى مدفع ثالث وقال:
- إنه سيدي عبد العال!
وقال صديقي معقباً:
– ولكن لم يمر على ذلك بضع ساعات حتى صارت الأعلام والمدافع المصرية في حيازة الجنرال “جارنيت ولسلي”!)
يبدو واضحًا أن “عرابي” لم يكن يتحرك علي ضوء أية أفكار سابقة له عن الحرب وأدواتها، من الواضح أيضًا أنه لم يكن يدرك أبعاد شخصيته هو جيدًا فتصدي لمعركة لا يدرك أبعادها أصلاً، لذلك، كان من الطبيعي جدًا أن يلتقط “شفيق باشا” للمؤجلين صورة مخطوطة لقائد مهزوم في بداية المعركة، وهي نهايتها أيضًا، يقول:
- استيقظ “عرابي” على قصف المدافع، فخرج من خيمته مستطلعًا، ولما شهد الهزيمة التي حلت بجيشه، حاول أن يستوقف الفارين وهم بالملابس الداخلية، ولكن الذعر كان قد دب في قلوبهم، فعندئذٍ، أخذ خادمه “محمد إبراهيم” يرجوه أن يفر وينجو بروحه، فامتثل عرابي للنصيحة!
وعلي أبواب القاهرة سلم “عرابي” سيفه إلى “ولسلي” ببساطة دفعت الكثيرين إلي التشكك في وطنيته، أيًا كان الأمر، كان قد أضاع مصر وانتهي الأمر!
وفي مصر الجديدة، المحتلة، حصل “خنفس” علي الباشوية وعلي ألفي جنيهًا ذهبيًّا مكافأةً له علي خيانته، وهو، فيما بدا أنه استقل المكافأة كتب إلي الإنجليز يتظلم لأنه لم يحصل علي عشرة آلاف مثل “محمد سلطان باشا” رئيس مجلس الأعيان!
ما أشبه الليلة بالبارحة!
فلا شك في أن سيولة المشهد المصري وتلك الفجوات التي أحدثتها في ذلك الزمان حماقة “عرابي” الكبري في شخصية مصر شديدة الشبه بشخصية مصر السائلة الآن، وجدًا، خيانات ودسائس وأكاذيب من اليمين ومن اليسار ومن الجانب الآخر، ونسأل وجه القادم السلامة، مع ذلك، كان هناك عصر من الخونة أشد بالحاضر شبهًا، وبكثير، إنه عصر استيلاء العثمانيين علي مصر، لا تلمسوا شيئاً!
كان ثلاثة هم أشهر خونة ذلك الزمان:
– “جان بردى الغزالي”، أمير مملوكي خان “طومان باي”، ولعب دورًا عظيم الأثر في استيلاء العثمانيين علي مصر، تعليقاً علي خيانته كافأه السلطان “سليم الأول” بأن عينه نائبًا علي الشام، غير أنه تمرد بعد مدة وجيزة من توليه ودفعه طمعه إلى الاستقلال بها، وأحبط العثمانيون تحركاته وقطعوا رأسه في النهاية!
– “خاير بك”، وهو أيضًا أمير مملوكي خان السلطان “الغوري” عندما كانت المعركة مع العثمانيين في ذروة النقطة، وكانت خيانته أحد الأسباب المفصلية في هزيمة الجيش المصري، لذلك، لقب في كل سجلات تلك الفترة بـ “خاين بك”، وكلون من ألوان الإشادة بخيانته ولاه العثمانيون مصر، ولقد ظل مخلصاً في خيانته فلم يفكر أبداً في التمرد، بل، عرفنا أنه ذبح مصريَّاً كان قد تجاسر وردد شائعة حول نيته في الاستقلال بمصر!
وهذه حادثة من حوادث شهر ذي القعدة سنة 926 هـ، سجلها “ابنُ إياس الحنفي” تفضح بعضًا مما تدحرج إليه حال المصريين في عصره، يقول:
( وفيه أشيع أن صبياناً صغارًا قعدوا يلعبون في بعض الحارات، فعمل واحد منهم ملك الأمراء وآخر والي القاهرة، ونادرًا أن أحداً لا يخرج من بعد العشاء، فقام أحد الصغار وخطف عمامة آخر، يعبث عليه، فقبضوا عليه وأحضروه بين يدي الذي جعلوه ملك الأمراء، فرسم للذي أقاموه والياً بأن يقبض عليه ويخوزقه، فدقوا له عصا في الأرض، وأقعدوه عليه غصبًا، ومنهم من قال: إن الصبي مات من وقته! ومنهم من قال: إنه لم يمت! فلما جرى ذلك تهاربت الصغار إلى حال سبيلهم، وقد هان القتل في هذه الأيام حتى عند الصغار )!
ما أشبه الليلة بالبارحة!
ثالث الخونة المشهورين في ذلك العصر، هو:
– شيخ العرب “حسن بن مرعي”، وهو الذي خان السلطان “طومان باي” وسلمه للعثمانيين فشنقوه بعد أن اختبأ عنده وأخذ عليه المواثيق بألا يخونه، الغريب، أن شيخ العرب “بن مرعي” قطع المماليك الجراكسة رأسه أيضًا وشربوا من دمه انتقامًا لما فعله بـ “طومان باي”، والأغرب، أن هذا حدث في عهد “خاين بك” ولم ينكر عليهم صنيعهم بشبهه البشري وشريكه في العاهة نفسها!
ولكل عصر خاص خونته الخاصون، أشبه بآخر النبضات الهاربة من الجثث الطازجة، ذهب قبلهم خونة كثر وذهبوا، وسوف يأتي غيرهم ويذهبون إلي المكان الذي تلتقي به اللعنات الأربع، وتبقي الخيانة كاسمها، خيانة، ويبقي أحط أنواع الخونة هو الذي يخون مظلومًا يتزاحم العالم علي خيانته، وهذا، تمامًا، هو ما يحدث الآن من خائن فاشل أجدني مستريحًا لأن أسميه “خنفس عصملِّي”، لا لشئ سوي أن هذا الفاصل الجديد من الخيانة يحدث علي أرض الدولة العثمانية، أو، “تركيا” بلهجة هذا الزمان، هذا هو السئ في الأمر برمته، لكن الأسوأ، أن هذا الخائن يرتدي مسوح الثوار!
كلمة السر في هذا الفاصل من الخيانة العارية هو “الوليد بن طلال” المعروف بعدائه الشديد للثورات العربية، وهو عداء مبرر علي كل حال، فهو دفاعٌ عن النفس لا أكثر، وللنظام المصري نبضٌ أكيد بطبيعة الحال!
وبأموال “الوليد بن طلال” أصبح لـ “خنفس” نافذة فضائية تدس السم في العسل تطرق صباحات المصريين كإحدي نوافذ الدفاع عن الشرعية، صراخ وعويل وبكاء علي أطلال “د.مرسي” ودموع كأنها تهطل من عيون حقيقية!
لهجة حادة وكلمات مفعمة بروح الثورة كشعر المناسبات لا تترك أثرًا علي المدي البعيد، لكن، بين طيات الكلام كلامٌ لا يقال ورسائل جانبية موجهة ومحرضة علي اليأس وتبجيل الماضي هي الرسالة التي من أجلها ولدت القناة!
سوف ندرك كل هذا ببساطة الماء إذا استفسرنا الماضي القريب عن بعض الإعلاميين في القناة، سوف نضحك كثيرًا، علي سبيل المثال، عندما نعلم أن أحد مقدمي البرامج الثورية بالقناة كان أكثر أعماله استحقاقاً لفخره أنه ذات يوم احتضن لا أدري بالضبط “شارون” أم “نتنياهو” عندما كان مراسلاً للتليفزيون المصري في فلسطين، ومتي؟، عقب فراغه من مجزرة ضد الفلسطينيين، كانت فضيحة أثارت في ذلك الوقت الكثير من الغبار!
لا أنفي أبدًا حقيقة أن أقليةً من فريق القناة مخلصون للثورة فعلاً، بل أؤكدها..
كما لا أشك في خيبة مساعي “خنفس عُصملِّي” في نهاية المطاف ودورانه في الفشل، لكن المشكلة بالأساس ذهنية، فإن الخائف علي الدوام سريع الألفة وشديد التعلق بكل من يهدئ قلب مخاوفه، وهذا مكمن الخطر، وإنني، لا أشك للحظة واحدة أن أنصار الإخوان الذين يعيشون في مصر مروا بيوم كيوم “رابعة” يوم أعلنت الجزيرة مباشر مصر إيقاف بثها، ذلك أنهم تعلقوا بالوجوه التي كانت عندما كانت مصر كلها تغني “تسلم الأيادي” وكانوا هم أهدافاً مشروعة للنبذ والسخرية، يؤكد لهم أصحابها أن القادم أجمل لا محالة، وأن الغيوم سوف تنقشع!
احذروا من “خنفس” أو.. وجهوا، أنتم، من خلاله رسائل جانبية مضللة!