انتهي العرس الديمقراطي في نسخته السودانية، وكعادة كل الأعراس الديمقراطية في هذه البقعة الرديئة من الكون كان مجرد استربتيز سياسي رخيص من الواضح جدًا أن الغرض الوحيد منه هو إضفاء لون من ألوان شرعية الصناديق علي مجرد استفتاء تشتعل ملامحه كفضيحة تدق أجراسها في كل ألاروقة السياسية علي سطح الكوكب، هذا هو النصف الفارغ من الكوب يا سادة، أما النصف الممتلئ فهو أننا كعرب قد ظفرنا بعُرفٍ أصبح الآن دارجًا، وهو تمديد أعراسنا الديمقراطية يومًا إضافيًا أخذ السودانيون فيه “غسطًا” من الراحة بين “ليلة الحنة” و “ليلة الدخلة”!
كيف يفكر هؤلاء؟ هل يظنون حقَّاً أن الممسكين بخيوط الكوكب الذين تقام أعراسنا الديمقراطية لإرضائهم هم فقط، ولتبديد انزعاجاتهم الكاذبة هم فقط، لا لإرضاء القطيع وتبديد مخاوفه الحقيقية، يحتاجون إلي الاسترخاء فوق معجزة ليكتشفوا ما يدور وراء كواليس السياسة في أي مكان علي سطحه؟
هؤلاء يعرفوننا حتي جذور أعصابنا وحتي تلك الأفكار السوداء التي تلتحق بكوابيسنا، يعرفوننا أكثر مما نعرف أنفسنا، لذلك، ما قد ينطلي علي قطعان العبيد التي صنعتها الأنظمة علي عيونها وعلي عيون جلاديها لا يمكن أن يمرَّ علي أذهان أولئك المنهكين بالحرية دون أن ينبه نظرية أو يرتطم بعوائق النقد والتحليل، ولنفترض جدلاً أن أذهانهم قد تمتص المكيدة لجودة تنسيقها وهذا مستحيل، فلا أقل من أن يتسائلوا:
– في بلد تزداد جراحه عمقًا كل صباح، ويقف علي مشارف الركود وعلي حواف الإشتعال من كل جانب، أي انتخابات تلك التي يكون الفائز فيها معروفًا قبل إجرائها، والأغرب أن الفائز، قولاً واحدًا، هو هو السبب المفصليُّ في أمراض هذا البلد؟
“عمر البشير” طبعًا هو العريس المنتظر، وعما ساعات سوف يفض بكارة السودان مرة أخري، لذلك، فالإنتخابات السودانية أشبه بعملية ترقيع أخري لتزييف عذرية دولة بلغت من النحافة علي كل الأصعدة حدًا لا تستحقه، ولسوف تظل السودان في عصمة “البشير” عقيمًا!
و “البشير” يذكرني دائمًا، أو لأكون أكثر دقة، تذكرني به دائمًا طرفةٌ بطلها الطبيب الشاعر “إبراهيم ناجي”، ربما، لأنني، لم أعرف وعاءًا يحمل اسم “بشير” أشهر منه، تمامًا، كما تذكرني دائمًا بالعظيم الراحل “نيلسون مانديلا” علي الرغم من ضمور العلاقة بينهما لوحة “أم ويسلر”، لسبب لا أعرف من أين يهب..
كان لدي الشاعر الطبيب “إبراهيم ناجي” ممرض، أو “تومرجي” أغلب الظن أنه من بلاد النوبة اسمه “بشير”، وكان من بين المترددات علي عيادته شابة حسناء اعتادت أن تأتي العيادة برفقة جارية لها سوداء، حدث أن أفرط “بشير” ذات يوم في الترحيب بها بالقدر الذي ألهم “ناجي” أن يترك لنا من بين إرثه الشعري طرفةٌ موزونة، لقد عارض بيت “المنخل اليشكري” الأشهر من “المنخل” نفسه:
وأحبُّها وتحبُّني / ويحبُّ ناقتها بعيري
فقال “ناجي”:
بالأمس.. طوَّف بالعيادةِ شادنٌ حلو العبير
وأحبُّها وتحبُّني/ ويحبُّ عبدتها (بشيري)
كان إصرار “إبراهيم ناجي” علي الإخلاص لإبداع الهزل من حين لآخر كهذه الطرفة وغيرها هو مصدر نقمة “طه حسين” عليه، ولقد بلغ به الغيظ منه ذات يوم مرتفعًا لم يخجل معه أن يجرده تمامًا من شاعريته ومن معرفته بالطب حتي عندما وصفه قائلاً:
– “إبراهيم ناجي” شاعرٌ بين الأطباء وطبيبٌ بين الشعراء!
لكن.. كيف نصدق هذا الكلام ونصدق في الوقت نفسه أن المعنيَّ به هو القائل:
وَمِنَ ٱلشَّوْقِ رَسُولٌ بَيْنَنَا/ وَنَدِيمٌ قَدَّمَ ٱلْكَاسَ لَنَا
هَل رَأَى ٱلْحُبُّ سُكَارَى مِثْلَنَا/ كَمْ بَنَيْنَا مِنْ خَيَالٍ حَوْلَنَا
ومَشَيْنَا فِي طَرِيقٍ مُقْمِرٍ/ تَثِبُ ٱلْفَرْحَةُ فِيهِ قَبْلَنَا
وضَحِكْنَا ضِحْكَ طِفْلَيْنِ مَعًا/ وَعَدَوْنَا فَسَبَقْنَا ظِلَّنَا..
وبعيدًا عن المزاح وأشياء “إبراهيم ناجي” وضيق صدر الأديب العظيم “طه حسين” بالمازحين..
لا شك وأيم الله في أن السودانيين يستحقون أفضل ألف مرة من “عمر البشير” ليدير شئونهم، وليس لدي شك في أن معظمهم يفطن تمامًا إلي هذه البديهية، تمامًا، كما ليس لدي شك في أن غليانًا مريبًا يتحرك في أعماقهم قد يحطم القدر عما شهور من كل جانب!
ليسوا الكسالي والكسالي غيرهم، فلا هم يأخذون عند الاستيقاظ من النوم كما يشاع “غسطًا من الراحة”، ولا هم عندما يكون أحدهم راقدًا علي ظهره ويشعر بالرغبة في البصق يمنعه الكسل من الاعتدال ليبصق، لذلك، هو يبصق إلي أعلي ثم بعد أن يستريح يزيل بصاقه من فوق ثوبه..
ولا هم المعنيون بتلك النكتة التي انتشرت عندما كان منحني الثورات العربية في ذروة النقطة:
زعموا أن “البشير” خاطب الشعب السوداني قائلا:
– يا جماعة، لو ما دايرني ودايرين تطلعوا مظاهرات كلموني..
فأجابه الشعب السوداني:
– آآآآي، لا لا خليك يا ريس نحن ذاتنا ما فينا حيل للمظاهرات!
ولا هم أيضًا ينظِّرون لتبجيل الكسل وإغراء الآخرين به كباحثهم هذا الذي قال:
– لو كان المشي مفيدًا للصحة لكان ساعي البريد أحسن الناس صحة بالعالم!
– لو كانت السباحة وأكل السمك مفيدًا للصحة فلماذا الحوت يسبح طوال اليوم، وأكله كله سمك، ومع هذا يشتكي من السمنة وزيادة الوزن؟
– والأرنب يقفز ويجري ومع هذا لا يعيش أكثر من 15 سنة!
– أما السلحفاة فهي تنام كثيرًا، ولا تجري نهائيًا، ولا تأكل سمك، ولا تقوم بأي عمل شاق، ومع هذا تعيش 450 سنة!
كلام مقنع والله ويحترم المنطق ويحرض فعلاً علي الكسل، أنا أيضًا، لماذا أكتب؟ ولمن؟ ولماذا؟
كثرٌ من كتبوا قبلي وغادر الضوء أسمائهم بعد ساعات من رحيلهم، بينما من لا يعرف الكتابة أو القراءة متي قتل أو خان صار زعيمًا ملهمًا، وإن كان صنمًا صناعياً من غبار أو أقل شأنًا!
كذلك، كان الخائن “أمين عثمان” يسافر للاسترخاء في “سويسرا” مرتين في العام عندما كان العظيم شاعر البؤس “عبد الحميد الديب” ينزف بيته الشهير:
كأنِّي حائطٌ كتبوا عليه/ هنا يا أيها المزنوق طرطرْ!
المجد للكسالي..
محمد رفعت الدومي