في مقال تحت عنوان “من يجرؤ على معاقبة قتلة الحريري؟” كتبت جريدة “القدس العربي”:
بدأت أمس المحكمة الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري بعد 9 سنوات من ذلك الحدث الكبير الذي أدى لارتدادات زلزالية في لبنان والمنطقة بحيث صار فعلاً مؤسساً في التاريخ السياسي المعاصر للمشرق العربي وخلق استقطاباً سياسياً لبنانياً وإقليمياً ودولياً، ما زال، رغم اختلاف تفاصيله، موجوداً ومؤثراً حتى الآن.
أول مفاعيل الاغتيال كان خلق الظروف الملائمة لتطبيق القرار الدولي 1559 الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي عام 2004 ونص على انسحاب القوات السورية من لبنان، ثم آل إلى مسار معقّد متعرّج تعدّدت وجوهه وتفاصيله لكنّ أساساته بقيت موجودة في أسئلة مؤلمة تسير في الوقت عينه على خطين متناقضين: السياسة (وهي متحوّلة ومتبدّلة بتبدّل العوامل والمصالح والمواقع) والعدالة (وهي أمر يفترض أن يكون ثابتاً ويرتبط بالقوانين العالمية التي تطورت وتحضّرت منذ أيام ‘العين بالعين والسنّ بالسنّ’ لشرعة حمورابي حتى وصولها إلى شرائع القانون الدولي المتفق عليها).
على خطّ السياسة يمكننا أن نفهم مثلاً المواقف المتبدّلة لحزب الله اللبناني ومنها موافقته على تمويل المحكمة الدولية عندما كان شريكاً في حكومة نجيب الميقاتي وكان الاتهام حينها موجّهاً ضد النظام السوري، وهو أمر اختلف جذرياً بعد إعلان اتهام أربعة من عناصره حيث صرّح الحزب وقتها على لسان رئيسه حسن نصر الله انه لن يسلّم عناصره ‘المفترى عليهم’ وأن قرار الاتهام ‘تآمري وتحريضي’.
تناقضات حزب الله لم تنته عند هذا التبدّل من القبول الضمني بالتمويل الى المواجهة الجذرية، فاتهاماته للمحكمة بالتسييس كانت مسيّسة على طول الخطّ، ونسبته الاغتيال الى اسرائيل يتناقض بشكل مضحك مع اتهامه للحريري نفسه ومناصريه في 14 آذار بالعمالة لاسرائيل.
كما يمكننا أن نفهم موقف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي أيّد المحكمة عام 2008 ثم صرّح بعد ذلك أنه كان من الأفضل لو أنها لم تتشكل، ثم أعلن عام 2013 بأن المحكمة صارت ‘أمراً واقعاً’.
وحتى أولياء القتيل، والذين يمثّلهم سعد الحريري، قائد تيّار ‘المستقبل’، فقد تأثّروا هم أيضاً بانحناءات خطّ السياسة المتعرّج، والذي توّج بزيارة الأخير الى سوريا عام 2010 ولقائه بشار الأسد وبتصريحاته اللاحقة بأن اتهام النظام السوري بالاغتيال كان ‘سياسياً’.
بين هذين الخطين تحاول المحكمة الدولية نصب خطّ مستحيل يحاول الفصل بين السياسة والعدالة في لبنان، فاغتيال رفيق الحريري لم يكن لأسباب جنائية، ومرتكبو الجريمة لم يكونوا مجرمين عاديين بل منفّذين لأجندة سياسية كبرى تتقاطع مع خطّ زلازل الصراع اللبنانية والإقليمية.
قبل محكمة الحريري كان العالم يقدم محاكم ‘سهلة’ يحاكم فيها المنتصرون او الحكام خصومهم السياسيين، ونتذكر هنا محاكمات ستالين الفظيعة لعشرات الآلاف من المتهمين اعتباطاً بالتعامل مع الامبريالية والعداء للاشتراكية، ومحاكمات نورمبرغ التي أقامها الحلفاء الأمريكيون والأوروبيون لمجرمي الحرب الألمان بعد الحرب العالمية الثانية، وفي البلدان العربية نتذكر محاكمات الأنظمة الإنقلابية لخصومها، ومنها محكمة المهداوي العراقية الشهيرة (التي يقال ان قاضيها كان يسأل المتهمين: ‘أنت خائن أم جاسوس؟’)، ومحاكم الإخوان الشهيرة في مصر في الستينات (وحدثها البارز: إعدام سيد قطب) كما يتذكر السوريون محاكمة كوهين السريعة وإعدامه للتمويه على علاقاته مع كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين والمحاكمات المتعسفة لخصوم حزب البعث في الستينات.
فرادة محكمة الحريري أن أولياء القتيل ما زالوا مطاردين وعرضة للاغتيال هم أيضا، وأن خطّ السياسة المتعرّج أدخلها في مضيق صعب (إن لم يكن مستحيلاً) لتحقيق العدالة، فلا تيّار الحريري، ولا القضاء اللبناني، ولا حتى القضاء الدولي المكلّف بالمحكمة، ولا ‘المجتمع الدولي’ (أيّا كان معنى هذا) نفسه قادر على تنفيذ العدالة الحقيقية والتي لا يمكن أن يتحمّل مسؤوليتها أربعة أشخاص قاموا بتنفيذ أوامر صدرت من ‘جهات عليا’ او من ما بعد بعد ‘الجهات العليا’.
الجريمة كانت شطب بلد ومنع السياسة بالقوّة والعنف الأقصيين ولا توجد عدالة كافية في العالم لمعاقبة هذه الجريمة.
قلنا منذ زمن : أنّها مَصَارِيفْ عَلَىَ الْفََاضِي