كتب جهاد الزين في النهار اللبنانية:
أيام رئاسة السيد محمد خاتمي لإيران روى لي أحد مساعديه البارزين تعليقاً ساخراً متداوَلاً في الأوساط السياسية في طهران يقول أن الإيرانيين طَردوا من السلطة عام 1979 العائلة الشاهنشاهية الوحيدة من أصل فارسي. التعليق هو أكثر بكثير من مجرّد “نكتة”. إنه يعبّر عن حقيقة مثيرة في التاريخ الإيراني بل عن تهكّم التاريخ الإيراني على نفسه…
فعلاً ومنذ الفتح الإسلامي وبصورة خاصة منذ “القرون الوسطى” الميلادية حكمت إيرانَ سلالاتٌ غير فارسية. فبعد الحكم السلجوقي والمغولي لمعظم العالم المسلم بما فيه الهضبة الإيرانية تولّى الصفويّون، وهم أتراك، حُكمَ إيران منذ القرن السادس عشر الميلادي وتلاهم القاجاريون الأتراك من أواخر القرن الثامن عشر إلى عام 1925 عندما استولى رضا بهلوي الضابط الفارسي في الجيش الإيراني على السلطة وأعلن نفسه امبراطورا ليخلفه لاحقا ابنه محمد رضا بهلوي الذي ستطيح به الثورة الإسلامية عام 1979.
إذن فعلا أطاح الإيرانيّون بالسلالة الفارسية الوحيدة التي حكمت بلاد فارس خلال قرون، منها أربعة بشكل متواصل بعد تشييع الصفويّين لإيران على المذهب الإثني عشري كانت السلالتان الحاكمتان خلالها سلالتين تركيتين.
جاءت الثورة بزعيمها الإمام الخميني الفارسي (هذا إذا وضعنا جانبا رمزية كونه يرتدي العمامة السوداء أي أنه من أصل هاشمي عربي). حَكَم الخميني إيران عبر النظام الجديد الذي أسّسه عشرسنوات وبضعة أشهر. اختير بعده السيد علي خامنئي التركي القومية ورئيس الجمهورية مرشدا جديدا للثورة والدولة. منذ سنوات طويلة لا جدال أن خامنئي هو الرجل الأقوى في إيران بل الحاكم القوي الذي يبدأ وينتهي عنده حسمُ التوازنات والسياسات العليا للجمهورية الإسلامية.
مضت عليه في أعلى الحكم الآن اربعة وعشرون عاما وبضعة أشهر أي ضعف ونصف ضعف ما حكمه الإمام الخميني المؤسس. وهكذا يكون التاريخ الإيراني الغني والمعقد قد عاد مع “ملك إيران” الحاكم منذ العام 1989 إلى مفارقته التقليدية في القرون السابقة: الحاكم المهاب على بلاد الفرس هو غيرفارسي، بل “كالعادة” تركي!
مجلة “فورين أفيرز” في عددها الأخير (أيلول، تشرين أول) وضعت صورة المرشد علي خامنئي على غلافها مع سؤال : “من هو خامنئي؟” أجاب عليه الكاتب ببحثٍ جادٍ في تاريخه الشخصي تظهره الرجل الذي كان على اتصال بكل مكوّنات النخبة الإيرانية وتنوّعاتها قبل الثورة وبموقفه أو مواقفه الحذرة من “الديموقراطية الليبرالية” وباعتقاده العميق بتراجع الغرب. ولكن الكاتب (أكبر غانجي) يسجّل ما يعتبره تطورا في خطاب خامنئي حيال الولايات المتحدة الأميركية من “آخر متوحش مطلق” إلى فَهْمٍ له أكثر تعددية وتنوعا.
“تراجع الغرب” يمكن أن يكون أيضا مبرّرا أيديولوجيا، لدى حاكمٍ أو نظامٍ داهية، لعقد أكبر أنواع التسويات مع “الغرب” مثلما كانت نظرية “الامبريالية المأزومة” الماركسية مبرّرا داخليا لماوتسي تونغ ليس فقط لفتح علاقة مختلفة مع “زعيمة الامبريالية” الولايات المتحدة الأميركية في أوائل السبعينات من القرن المنصرم. بل أيضا- حسب كتاب هنري كيسنجر المهم جدا “عن الصين”- مبرّرا لتحالف صيني أميركي ضد الاتحاد السوفياتي. فكيسنجر الحاضر إلى جانب الرئيس ريتشارد نيكسون في المباحثات مع الزعيم الصيني يقول أن كلام ماوتسي تونغ المباشر للرئيس الأميركي ووزير خارجيته لا يترك مجالاً للشك في أن هذه العلاقة من وجهة نظر ماوتسي تونغ كانت مشروع تحالف صريح ضد الاتحاد السوفياتي.
مسار الأحداث عاد وقوّى منطق الذين دعموا الاتفاق الأميركي الصيني في بكين وواشنطن لأن الصين تطورت بعد ذلك-وبعد ماو- في اتجاه تقدّم صناعي وتكنولوجي لا زال يثير إعجاب العالم فيما ساهم الاتفاق في إضعاف خصم أميركا الأساسي الاتحاد السوفياتي ولاحقا سقوطه.
لسنا في مجال المشابهة بين تلك اللحظة التاريخية الصينية الأميركية واللحظة الأميركية الإيرانية الحالية لأسباب عديدة على رأسها أن الصين ذات حجم أضخم وأقوى مختلف وإيران ذات موقع جيواستراتيجي عناصر ضعفه وقوته معقّدة. إذن المقارنة أفضل من المشابهة. لكن على مستوى الثقافة السياسيّة كلتاهما كان لديها شعور بالتجربة التاريخية المهينة- نعم المهينة- مع الغرب، الصين في القرن التاسع عشر وقسم من أوائل العشرين وإيران في مطلع العشرين حتى تجربة مصدّق في منتصف القرن.
من المبكر معرفة إذا كان “ملك إيران” الحالي علي خامنئي وفريقه يعتبران أنهما في لحظة إنضاج تسوية تاريخية مع واشنطن. فمن الصعب – حتى في طهران – الجزم بذلك بسبب صعوبة الأوضاع في الشرق الأوسط. لكن أحد معالم مسار “التفاوض” الإيراني- الأميركي هو أنه يتقدّم قي ظلِّ تبلور تحالف حقيقي روسي – إيراني يقاتل الآن في سوريا ويبدو- كما كتبنا سابقا- تحالفا روسيا مع “الإسلام الشيعي” (غير الموجود تقريبا داخل الديموغرافيا الروسية) ضد “إسلام سني” لدى الولايات المتحدة ومن ورائها بريطانيا خبرةٌ طويلة في التحالف معه قبل وخلال ظهور “القاعدة” كقوة معادية للغرب؟
بين الملامح الأكثر جدّية على خطورة واستراتيجية المفاوضات الإيرانية الأميركية- حتى وهي لا تزال في مرحلة الاستكشاف- ملمحُ الغضب السعودي غير المألوف وغير المسبوق حيال الإدارة الأميركية الحالية.
صدّق. ولماذا لا تُصدّق؟ ألم يكن الأميركيون هم الذين قادوا ثم نفّذوا سياسة عراقية أفضت إلى إتاحة المجال للدينامية الحزبية- الأكثروية الشيعيّة أن تُمسك السلطة في العراق العربي بقيادة حلفاء موثوقين من إيران بما يحوّل بغداد إلى “درة التاج الإيراني” المعاصرة وعبر ذلك يبدأ تهديدٌ لا سابق له للمملكة العربية السعودية من وجهة النظر السعودية غيّر سياساتها جذريا بعد عام 2003؟
لكن الإنصاف يتطلّب القول أن “الغرب” ذو ثقافة ديموقراطية أيضاً حتى وهو في ذروة خبثه في العالم الثالث. فما فعلته أميركا في العراق حاولت أن تفعله في سوريا وهو خلق فرصة لكي تتولّى قوى من الأكثرية الديموغرافية السنّية السلطة في دمشق لكنها فشلت حتى الآن؟ ولو أنها نجحت في وضع المحور الإيراني في وضعية دفاعية… تأتي به حاليا مع العقوبات الاقتصادية إلى طاولة مفاوضات بدأنا نشم رائحة أنها غاية في الأهمية والخطورة؟
فماذا سيفعل “ملك إيران” الذي تكرّس في عهده النفوذ الإيراني في المنطقة محوِّلاً الزخم الأيديولوجي الذي قاده الخميني المؤسّس إلى زخم أمني جيوسياسي؟ لا بل كان الضعف الأيديولوجي لاحقا هو ثمن تصاعد القوة الأمنية السياسية. فالمعنى الإسلامي الهائل الذي بدأته الثورة الإيرانية ووضع حتى “الإخوان المسلمين” تحت رايته هو الآن شبه منتهٍ ما عدا في مستواه الأمني السياسي كما العلاقة العائدة مع “حماس”، والجانب المذهبي الشيعي أصبح في الدفاع أمام النجاح السعودي في تحريك الحساسية السنيّة.
هذه بعض علامات القوة والضعف وفي هذه اللحظة بدأت أميركا الحوار.
* * *
من الروايات الساخرة التي شاعت في طهران عندما أصبح الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيسا نافذا للبرلمان الإيراني أن والدة الشيخ هاشمي سُئلت مرة في رفسنجان قبل الثورة أين هو هاشمي؟ فأجابت: ذهب يصبح ملكاً في طهران.
الذي فعلها هو علي خامنئي.
fiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiii