(CNN) — طرح المحللون الاقتصاديون المعاصرون عبر السنوات نظريات عديدة لشرح الظواهر الاقتصادية المتعلقة بالنقود والسلع وأسس التبادل، وقد كان للحضارة العربية والإسلامية إسهامات كثيرة في إطار النظرية الاقتصادية القائمة على أسس الشريعة اتضح لاحقا أنها كانت فيها سابقة للنظريات المعاصرة، وبينها ما يعرف بـ”قانون غريشام.”
وملخص النظرية أنه عند تعدد أنواع النقود أو العملات في المجتمع فإن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول، لأن الناس يفضلون بذل الرديئة ثمنا لما يشترون، ويحفظون الجيدة لأنفسهم، فتختفي من السوق.
وينسب الاقتصاد المعاصر الفضل في وضع أسس هذه النظرية إلى الاقتصادي الإنجليزي، طوماس غريشام، الذي عاش بين عامي 1519 و1579، وتقوم نظريته على أنه بحال وجود نوعين من النقود بالسوق، نوع جيد تعرض لتخفيض قيمته وآخر رديء رفع المشرع من قيمته بشكل يفوق الواقع فإن النقد الرديء يطرد الجيد من السوق.
ومن بين الأمثلة المعاصرة لهذه الظاهرة قيام كندا وأمريكا بين عامي 1964 و1968 بطرح نقود معدنية من فئة ربع ونصف دولار بديلة للنقود التي كانت قبل ذلك مصنوعة من الفضة، ولكن المفاجأة كانت اختفاء النقود الفضية التي اكتنزها الناس للاستفادة من طبيعة معدنها النفيس الذي صار أعلى من قيمتها كعملة، وتكررت الظاهرة أيضا بدول أخرى حول العالم.
وكون النقود باتت سلعة في الاقتصاد الرأسمالي، فإن نظرية “قانون غريشام” تنطبق على جميع السلع التي تشهد ظروفا مماثلة توجد فيها سلع تفوق قيمتها الحقيقية القيمة التي يُطلب فيها من الناس دفعها بموجب القانون، ففي سوق السيارات تقوم السيارات المستعملة بشكل محدود أو المعاد تجديدها بالسيطرة على السوق وطرد السيارات الجديدة التي يتراجع الإقبال عليها وذلك لأن التجار سيؤكدون بأن سياراتهم المستعملة بشكل محدود أو المعاد تجديدها مساوية من حيث الجودة لتلك الجديدة ما سيدفع الزبائن إلى الإقبال عليها لتوفير المال نظرا لعدم وجود ما يميزها عن الجديدة.
ويتجاوز تأثير هذه النظرية المجال المالي، بل إن سبيرو أغنيو، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، استخدم ذلك القانون للإشارة إلى طبيعة السوق الإعلامية الأمريكية، قائلا إن الأخبار السيئة فيها تطرد الأخبار الجيدة، كما أن عالم الاجتماع البريطاني، غريغوري باتيسون، اعتبر أن للقانون تطبيقات اجتماعية، إذ دائما ما تنتشر الأفكار المبسطة والسطحية بين الناس على حساب النظريات المعقدة.
أسس النظرية لدى المقريزي وابن تيمية
يشير العديد من الخبراء إلى أن الواضع الحقيقي لأسس النظرية التي باتت تعرف بـ”قانون غريشام” هو العلامة المؤرخ أحمد بن علي المقريزي من مواليد عام 1364 ميلادية، وتوفي عام 1441، وقد ولد في مدينة بعلبك التي تقع اليوم في لبنان وعاش حياته في القاهرة بمصر، مؤلفا العديد من الكتب المعروفة في مختلف المواضيع، لعل من أبرزها كتاب “شذور العقود في ذكر النقود” الضي خصصه لبحث المشاكل الاقتصادية بذلك الوقت.
ومن بين الملاحظات التي لفت إليها المقريزي دراسته للعلاقة بين الأسعار ومستويات السيولة في السوق، كما توصل إلى وضع أسس لقانون اقتصادي يشير إلى أن “النقود الرديئة” أي المصنوعة من المعادن الزهيدة التكلفة، مثل النحاس والحديد، تطرد النقود المسكوكة من المعادن النفيسة، مثل الذهب والفضة.
ويعيد المقريزي السبب إلى أن طرح النقود المعدنية يرفع من الأسعار الفعلية للذهب والفضة بما يفوق أسعار الصرف المحددة، ما يدفع الناس إلى تخزينهما والاكتفاء بالتبادل التجاري بالمعادن الرخيصة
وفي الإطار عينه، يمكن لنا أن نجد تعليقات تصب في نفس السياق من تقي الدين ابن تيمية، الذي توفي قبل نصف قرن من مولد المقريزي إذ يقول في فتاويه معلقا حول دور السلطان في صيانة النقود، إن على السلطان الحفاظ على قيمة النقود وإلا غلت الأسعار وانتشر الفقر.
وينقل الإمام البهوتي عن ابن تيمية قوله “ينبغي أن يضرب الإمام للرعايا فلوسا تكون بقدر العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم ، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس، بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها، بل يضرب النحاس بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها ظلم عظيم، وأكل لأموال الناس بالباطل.”
ويحذر ابن تيمية من أن السلطان إذا قام بسك “فلوس” وهو تعبير يعني بالضرورة عملات غير ذهبية ولا فضية: “أفسد ما كان عندهم من الأموال بنقص أسعارها” مضيفا أن النبي “نهى عن كسر سكة (عملة) المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأ
ينوه ابن تيمية أيضا في فتاويه إلى خروج الأموال من السوق بظل وجود نقود جيدة ورديئة إذ يقول: “فإذا اختلفت مقادير الفلوس صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس.”