(CNN) — تبدو قضية الفارق بين الأموال النقدية والعملات المعدنية من القضايا التي تناولها الاقتصاد الإسلامي بالكثير من التحليل، فعليها تتوقف الأحكام المتعلقة بالزكاة، والأهم بالربا، وما يرتبط بذلك من تعاملات مالية ومصرفية.
ومن الفروق التي يمكن ملاحظتها بين العملات الورقية وبين الذهب والفضة أن المعادن الثمينة تضمن قيمتها في حد ذاتهما، في حين أن العملة الورقية نقد يكتسب قوته من قوة الدولة، كما أن الربا لا يجري بين عملتين مختلفتين، فيجوز بيع ريال سعودي بريال قطري مع دفع الفارق.
كما يبرز الاختلاف بين النظامين في حاجة النقود الورقية إلى التقويم، بخلاف المعادن النفسية، إلى جانب أن النقود الورقية تنتج عنها مشكلة التضخم، وهي الظاهرة التي تسبب ضغوطات اقتصادية عديدة.
ويقول علي القره داغي، أحد أبرز المتخصصين في الاقتصاد الإسلامي، إن بعض الفقهاء كانوا يرون عدم وجوب الزكاة في الأوراق المالية لأنها ليست مثل النقود الذهبية والفضية، في حين يقول يوسف القرضاوي إنه يصعب إيجاد آراء حول القضية لدى علماء السلف لأنهم “لم يعرفوا النقود الورقية.”
ويضيف القرضاوي: “كل ما هنالك أن كثيرًا من علماء العصر يحاولون أن يجعلوا فتواهم تخريجًا على أقوال السابقين، فمنهم من نظر إلى هذه النقود نظرة فيها كثير من الحرفية والظاهرية، فلم ير هذه نقودًا، لأن النقود الشرعية إنما هي الذهب والفضة، وإذن لا زكاة فيها.. وبعكس هذا الاتجاه، ذهب علماء معاصرون كثيرون إلى وجوب الزكاة فيها، منهم: العلامة أحمد الساعاتي صاحب ترتيب مسند أحمد وشرحه، وكذلك أفتى بمثله بعض علماء الهند مثلا الشيخ فتح محمد اللكنوي.”
ويلفت القره داغي إلى أن الخلاف “لفظي وليس خلافا معنويا، ولا خلافا قائما على الحجة والبرهان، وإنما هو خلاف عصر وأوان” ويشرح وجهة نظره بالقول: “الأوائل بنوا أقوالهم في عدم وجوب الزكاة فيها على أساس أنها كانت سندات لديون، والاخرون نظروا إليها باعتبارها أصبحت أثمانًا بالعرف، وكلا الرأيين صحيح.”
ويضيف: “وكذلك في مسألة الربا، حيث لا ينبغي تكييف مسألة النقود الورقية الآن على أنها ما دامت لا تتحقق فيها علة الربا عند بعض العلماء، فيجوز فيها الربا.. ولا سيما أنها لم تكن النقد السائد، بل كانت المساعدة، أما لو شاهدوا غلبتها وأصبحت العملة الوحيدة، فلا أعتقد أن أحدًا منهم يقول بهذا القول.”
ويقول الباحث اليمني فهد عبد الله في بحث مقدم إلى جامعة الإيمان تحت عنوان “أحكام العملة الورقية” إن العملة قديما هي الدينار الذهب والدرهم الفضة وبهاتين العملتين كان يتعامل المسلمون بيعا وشراء، ولم تظهر العملة الورقية كبديل للدينار والدرهم إلا متأخرا حيث ترجع بداية جعلها نقودا إلزامية إلى سنة 1914
ولفت عبدالله إلى أنه من البديهي ألا يتحدث فقهاء الإسلام عن العملة الورقية، وإن تكلموا عن عملة أخرى وهي المسماة بـ”الفلوس” وهي عملة نحاسية تستمد قوتها من اعتراف السلطان لها وإعطائها قيمة معينة. مضيفا أن العلماء اختلفوا في “تكييف العملة الورقية” وكان لهم مواقف مختلفة في مالية هذه العملة وهي اعتبارها سندات ديون. أو عرض من عروض التجارة. أو ملحقة بالفلوس. ليست بمال أصلا. أو أنها متفرعة من الذهب والفضة أو أنها هي نقد مستقل قائم بذاته، ولكن الذي قرره مجمع الفقه التابع للمؤتمر الإسلامي أنها “اعتبارية فيها صفة الثمينة كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامه.”
وعن مشكلة تفاوت قيمة العملة الورقية مع الزمن يقول: “تعتبر هذه المشكلة من المشاكل الكبيرة التي يعاني منها العصر، وتظهر في مسألة القرض فقد يقرض أحدهم الآخر مبلغا من المال ثم إذا استوفاه وجده أقل قيمة من نقوده الأولى، والسؤال هنا هل تقضى الديون بمثل عددها، فمن استدان ألفا، فليس عليه إلا الألف، أم تعتبر القيمة؟”
ولفت الباحث إلى انقسام الفقهاء حول ذلك على ثلاثة أقوال: فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى قضاء الدين بالمثل لا القيمة، ولا عبرة للغلاء والرخص، وذهب أبو يوسف وهو المفتى به عند الحنفية أن المدين ملزم بوفاء قيمة النقد عند غلائه أو رخصه، وذهب بعض المالكية إلى أن التغير إن كان فاحشا بحيث كان انخفاض القوة الشرائية للنقد كبيرا فالواجب على المدين قيمة النقد يوم ثبوته في الذمة وإلا فالواجب المثل.
واعتبر عبدالله أن بعض المعاصرين ذهب إلى رجيح القولين الأخيرين، ولكن القول الظاهر هو مذهب الجمهور لأن دونه محاذير، منها دخوله في الربا فمن اقترض ألفا ثم رد ألفين فلا شك أنه ربا، كما أن فيه جهالة من ناحية أن المقرض إذ لا يعلم كم سيستلم “ويزداد الأمر سوءا على المقترض إذ لا يدرون كم سيسلم.”
وقد تناولت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بفتوى حملت توقيع مفتي المملكة الراحل، عبدالعزيز بن باز، وعبد الله بن قعود وعبد الله بن غديان، ناقشت خلالها قضية الفائدة الربوية من منطلق “الحفاظ على أموال المسلمين من التناقص الذي يصيبها نتيجة التضخم في قيمتها” وفق سؤال وردها.
وأجابت اللجنة في فتواها بالتأكيد على أن زيادة أحد العوضين عن الآخر “من ربا الفضل إذا اتحد جنس المال الربوي” وأضافت: “لم يضطرنا الله تعالى في تنمية الأموال وحفظها من النقصان إلى إيداعها في البنوك مثلاً بفائدة ربوية، ولم يضيق علينا في طرق الكسب الحلال، حتى نلجأ إلى التعامل الربوي، بل شرع لنا الاستثمار عن طريق التجارة والزراعة والصناعة، وغيرها من وجوه الإنتاج والاستثمار؛ لتنمية الأموال.”
وتابعت اللجنة بالقول: “على ذلك يجب قضاء القروض بمثلها من جنسها، وهو مقتضى العدل، فإن ارتفاع القيمة المذكورة وهبوطها من الأمور التي يعود نفعها وضررها على الطرفين، وتقلب الأسعار ارتفاعًا وانخفاضًا قد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يغير من أجله القاعدة الشرعية التي رسمها للمسلمين؛ ليسيروا على ضوئها في التعامل. وللمقترض أن يرد قيمة القرض وقت القضاء إذا رضي صاحب الحق بذلك.”