أنا من بين المؤمنين بأثر الفراشة، أحداث تبدأ صغيرة جدًا وعادية جدًا ثم تسلك مسارات غير متوقعة تفضي إلي تغييرات جذرية، غير أنني لا أعرف حدثاً بدا في مظهره الخارجي تافهًا وصغيرًا ثم انتهي بأمر عظيم أكثر وضوحًا من رسالةٍ أرسلها الفيلسوف الألماني جوتفريد فيلهيلم ليبنتس إلي أحد أصدقائه، رساله كأي رسالة بين صديقين، مع ذلك، عند العثور عليها بين أوراق ليبنتس بعد وفاته تحولت إلي مذهب فلسفي عظيم، وعلي الرغم من عبقرية مذهب الذرات الروحية / المونادولوجيا، إلا أنه لا يمس حياة الناس كما فعلت رسالةٌ أخري أرادت الممثلة النمساوية الأصل هيدي لامار توجيهها إلي أدولف هتلر، صحيح أنه انتحر قبل أن يتسلمها، لكن، صحيح أيضًا أنها جعلت العالم مكاناً أفضل للعيش!
ولدت هيدي لامار عام 1914 في فيينا، وكانت الإبنة الوحيدة لأبوين يهوديين، كما أنها كانت واحدة من النجمات اللاتي حققن قسطاً لا بأس به من الشهرة قبل اقتحام هوليوود، لقد بدأت أسطورتها الفنية من خلال فيلم تم تصويره في تشيكوسلوفاكيا باسم “النشوة” Ecstasy /، عند طرحه في دور العرض أربك أفق التلقي تمامًا، لقد صنفه النقاد والمشاهدون معًا كأحد الأفلام الإباحية، هذا ما جعل زوجها الأول المليونير اليهودي فريتز ماندل حريصًا علي جمع نسخ الفيلم من كل مكان، لم تبق منه إلا نسخة وحيدة كان من الصعب أن يستردها، لقد كانت عند صديقه موسوليني!
عندما تيقنت هيدي أن زوجها فريتز ماندل يقوم بتوريد السلاح والذخائر إلى الجيش الإيطالى والنازيين، بالإضافة إلي أنه كهل غيور متسلط لم يقدم لها سوي الثراء والحصار وأمراض الغيرة، حملت كل مجوهراتها وهربت في زي خادمتها إلي فرنسا ومن فرنسا إلي لندن، لترتبط هناك بصداقة مع مدير شركة مترو جولدن ماير، وهذا، رأي أنها تستحق فرصة كبيرة المساحة في هوليوود!
في نهايات عام 1938 كان الضوء يواصل النمو في اسمها بوتيرة مرضية عندما تواترت الأنباء عما فعله النازيون بأهلها في النمسا خلال ما يعرف في الأدبيات التاريخية بـ “ليلة الكريستال” / Crystal Night، لقد قتلوا 91 من اليهود وقبضوا علي عشرات الآلاف وخربوا مصانعهم ونهبوا محالهم تعقيبًا علي اغتيال الدبلوماسي النازي إرنست فون راث علي يد صبى يهودى بولندى مولود في ألمانيا يدعى هيرشيل جرينسبان، عندما وصلت هيدي هذه الأنباء اندلعت في صدرها رغبة قوية في الانتقام، ما جعلها خلال الحرب العالمية الثانية لا تكتفي بالانخراط بقوة في جمع التبرعات لتمويل الحرب علي ألمانيا، ولا بخدمة الجنود الذاهبين إلي الجبهات ومراقصتهم في بيوت أقيمت خصيصًا لهذا الغرض، إنما، عندما سمعت أن الطوربيدات من أشد أسلحة الألمان فتكاً وإعاقة لتقدم الحلفاء، راحت تفكر في حل يمنع الغواصات الألمانية من التشويش على الإتصالات اللاسلكية لجيوش الحلفاء وأن تشوش مسار الطوربيدات في نفس الوقت، ولم يمض وقت طويل حتي نبتت في ذهنها فكرة أغلب الظن أنها ذكري غير ناضجة لأعوام زواجها الأول، وما احتفظت به ذاكرتها من أحاديث موائد فريتز ماندل وحفلاته، لقد تعلمت بصمت الكثير عن تقنيات حروب دول المحور!
اكتملت الفكرة في ذهنها عندما سمعت ذات ليلة موسيقي عازف البيانو جورج أنثل، هو الآخر كان غريب الأطوار، لا يحترم السلم الموسيقي، ابتكر موسيقاه الخاصة من خلال ترك عدد من آلات البيانو يعزفون آلياً معًا بطريقة غير منتظمة، طلبت منه أن يزورها في بيتها، واطلعته علي فكرتها التي عرفت فيما بعد بـ “القفز الترددي”، كانت الفكرة بسيطة للغاية:
– لماذا لا يقوم جهاز البث بالتنقل عشوائيًا عبر قنوات مختلفة وبشكل متواصل، ووفقاً لشيفرة سرية بنمط محدد لا يعلمه إلا المُرسل والمستقبل، ما يجعل من الصعب جدًا التقاط الإرسال كاملاً من خلال الضجيج الكهربائي المحيط به، بدلاً من بث المعلومات على قناة واحدة، فقد يتمكن العدو من العثور على الإرسال مصادفة؟
تحمس أنتل للفكرة، وساعدها على اكتشاف وسيلة لمزامنة القفز الترددي بين جهازي الإرسال والإستقبال، لكن، يبدو أن اختراعهما الذي قدماه مجاناً إلى حكومة الولايات المتحدة لم يكن عمليًا، بل كان أكثر من مُربك لاستخدامه في حرب عالمية شديدة العصبية، ذلك أنه كان يتطلب وجود لفتين من الورق تمامًا كاللفات المستعملة في البيانو الآلي، مثقوبتان بنمط متطابق من الثقوب العشوائية، تتحكم إحداهما في المرسِل الموجود في الغواصة، وتقذف اللفة الأخرى مع المُستقبِل الموجود على الطوربيد!
ولو كنت مكان المسئولين في وزارة الدفاع الأمريكية لفعلت بصدد هذا الجهاز نفس الأمر وأنا أتسائل:
– هل من الممكن أن تبتكر فنانة مستهترة ومتعددة الزيجات الفاشلة وعازف بيانو غريب الأطوار شيئاً يستحق أن يؤخذ علي محمل الجد؟
وفيما بدا أن هيدي لامار أيضًا لم تكن تأخذ عملها علي محمل الجد، سرعان ما فقدت شغفها ونسيت الأمر برمته بمجرد أن لمست فتور الجيش الأمريكي حيال اختراعها، لكنها كانت قد حصلت مع شريكها علي براءة اختراع الجهاز عام 1942..
لقد انتحر هتلر قبل أن تصله رسالتها، وانتهت الحرب، وضربت الحشود المتعبة موجة عنيفة من انحراف الذوق العام استمرت لمدة عقد كامل، قامت هيدي خلالها بأعظم أدوارها الفنية استحقاقاً لفخرها علي الإطلاق، لقد جسدت عام 1949 دور دليلة في فيلم سيسيل ديميل الشهير”شمشون ودليلة” / Samson and Delilah فأصابت العالم كله بالدوار، وصارت أيقونة عقد بكامله، لكن، عندما انحسرت الموجة التي تزيف الذوق العام عقب الحروب عادة انحسرت الأضواء عن هيدي لامار أيضًا، كانت نجوم جديدة قد صعدت وأزاحتها عن السباق إلي المرتبة الأولي، كما ذوي جمالها، فانسحبت إلي الركن في هدوء، عندئذ، اختبرت نكران الناس والعالم وتنكيل الفقر والبؤس بالناس، لقد أدمنت المخدرات، ولقد اضطرت إلي أن تسرق طعامها من محلات البقالة!
في ولاية فلوريدا يوم 19 يناير 2000 توفيت هيدي لامار عن عمر 86 عامًا، قالت الشرطة الأميركية وقتها أن أصدقائها عثروا عليها ميتة في سريرها بمنزلها في التامونت سبرينج بعد أن انتابهم القلق عليها حين لم ترد على اتصالاتهم الهاتفية، ولم يعرف بالتحديد موعد وفاتها!
لم يدر ببال هيدي لامار حين لمست فتور الجيش الأمريكي حيال اختراعها أن البذرة التي ألقتها كانت قد بدأت تنمو ببطء شديد، وسيمر جيلان من التقنيين قبل أن يكتشف العالم أن الممثلة التي بدأت حياتها بفيلم بورنو عندما عملت بالرياضيات لم تكن تمزح، لقد كان “القفز الترددي”Frequency / Hopping، هو الحجر الذي بني عليه التقنيون فيما بعد كل تقنيات الهاتف المحمول والواي فاي والبلوتوث ونظام تحديد المواقع GPS، لقد جعلت العالم بكل بساطة قرية صغيرة، وانتصرت في النهاية علي هتلر، ذلك أن ثلاث دول هى النمسا وألمانيا وسويسرا قد احتفلت بذكرى يوم ميلادها الـ 99، ليس فقط لأنها نجمة سينمائية كبيرة، بل لأنها مخترعة فذة، كما اختارت هذه الدول يوم ميلادها ليكون يوم المخترع تكريمًا لها ولإنجازها العلمي..
حقاً، أعظم الأشياء تأتي دائمًا متأخرة!
محمد رفعت الدومي
مساء الخير أُستاذ مُحَمَّد و عوداً أحمدُ لقلمك الجميل . لي تحفُظ على المقال و هو أنه عبارة عن ترجمة لما كُتب عن هذه المُمثلة في الويكبيديا ، كان المقال سيكون أجمل لو كانت قصتُها فقط بذرة لطرح أعمق تَضمنتهُ الجملة الأخيرة من المقال . ننتظِرُ من كاتب يملُكْ حجم موهبتك مقالات تحمِلْ ما لا يُمكن أن نقرأهُ في مكان آخر . تحياتي و دامَ قلَمُكَ كاتباً بحروفٍ مقروءة .