في السبعينات الميلادية من القرن الماضي ، أي قبل أربعين سنة ، وفي إحدى دول الخليج العربي ، أعجب شاب بفتاة من حارتهم بعد أن لمحها عند عتبة باب بيت أهلها بجانب أمها ، حينما كانت أمه تعرض البخور لزبائنها بين نساء الحارة ، وقد علق بذهنه صورة الموقف عندما أنكشف دخان البخور من أمام وجهها القمري ، وهو ينظر إليها بإعجاب ! ولثواني فقط وقعت عيناها بعينيه.. وما إن غادر هو وأمه المكان ، أتبع خطواته بتمتمة داخل قلبه ” أبيها أبيها ” .. وبما إن الإعجاب في زمانهم ممنوع ويخالف العادات والتقاليد ، كتم إعجابه ، وعاشه وتلذذ به بدرجة الحب الحقيقي، ثم رقي به إلي العشق ثم أعتلى للهيام ، حتى أصبح هالة على قمة هرم المحبين ، وأصبح يسير ويغني وفوق رأسه حب عرفاني لمعشوقته يصل أحياناً إلي درجة الغلو، وأصبح يطير مع الطيور فوق السحاب كلما أشعل المبخرة لأمه ، وتذكر الدخان أمام وجه معشوقته .. لكن المصيبة العظمى إنه صعد هرم الحب لوحده ، أي حب من طرف واحد فقط .. والفتاة والعهدة على الراوي ، من أجمل بنات الحارة ، وكانت الأمهات تتسابقن كي تدخرها لأحد أبنائهن ، كما كان معمول به في أسس الزواج التقليدي آنذاك .
كانت أم الشاب تعجن مادة البخور مع معطرات ومواد فواحة ، فتصنعه على شكل قرص بخور ، فتبيعه على النساء في البيوت ، وكان المبخر لايفارقها أثناء عملها ، وهو لعرض بضاعتها بالتجربة ، وكان دور الإبن العاشق حمل كيس البخور الثقيل بدلاً عن أمه ، وكان يصر عليها أن تذهب أمام بيت معشوقته نهاية كل أسبوع وعرض بضاعتها هناك، وفي ذات يوم رجف قلبه وغمز له إنها خلف الباب بعد طرقه بدلاً عن أمه ، وما إن نطقت وظهر صوتها الملائكي ، أغـمي عليه وسقط على الأرض .
أخذوا العاشق إلي الحكيم ، وكان حلاق المنطقة ومعروف بفصاحته وحصافـته ، وإجادته الشعر وبحوره ، فسأله : أخبرني هل تعشق ؟ ، فأومأ برأسه بنعم ، فقال لأمه : إبنك هذا مصاب بداء العشق ، ودوائه أن تزوجيه معشوقته ، صارح الشاب أمه بأسم الفتاة بهمسة في أذنها بعد أن سألته من تكون ، فغضبت عليه أمام الحكيم ، وقالت : ولم تختار إلا بنت عمدة التجار !! .. بني أأنت مجنون؟ أتريد رمـّينا معك ببئر المجانين ، كيف تخيلت في عقلك إن إبن بائعة البخور يتزوج حورية عمدة التجار .. ماذا تقول ياحكيم !.. أرجوك أنصحه ، فهنا دورك ! فقال الحكيم ، وهو يتأفف : ما سأقوله لك يابني لم ولن يخرج من قلبي ، بل من آهاتِه وشجونه ..أنصحك بني وأنصح قلبك قبلك ، أن لا ترفع قلبك أمام بحر الهوى عالياً فيقع، ولا تحمله مالا طاقة له به فيتوجع ، ولا ترمه بشباك غرام مربوط فيموت غيرة ويقلع ، ولا تدخل نفسك بهوى أعور ! ، فقاطعته الأم : وما الهوى الأعور ياحكيم ؟
دمعت عيون الحكيم وأكمل : بني الهوى الأعور هو الحب بقلب واحد ، أي لا مبادلة بالحب من الطرفين، وهذا الحب لاينجح ، وكتب عليه الوجع والهلاك قبل وقوعه ، ويميت صاحبه قبل موته بالأنين والحسرة ، فأنصحك كما نصحت العاشقون الهالكـون من قبلك ، فأنفذ بجلدك وأنقذ قلبك ، ولا تقرب بيت عمدة التجار ، لا بالليل ولا بالنهار .
تقاعدت الأم من عملها ، فأوكلت على إبنها بيع البخور بسوق البلدة ، وقطعت هي ( أي الأم ) زيارتها إلي بيت الفتاة ، فأنقضت شهور على الحادثة ، والشاب لايتكلم كالأبكم ، ويبـيع البخور على زبائه دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، وبجانبه المبخرة مع بعض الجمر .. وفي يوم من الأيام وقف أمامه زبون مع سيدة ، وسأله عن جودة البخور وسعره ، وأخذ يداعب ويفاكه الرجل السيدة التي معه بالضحك والمعاكسة ، ففهم العاشق إنها زوجته ، لكن ما إن وضح صوتها ودق طبلتي أذانه حتى أنفطر قلبه نصفين ، فتيقن في الحال إنها معشوقته ، وهذا زوجها ، فسقط مغشياً عليه فوق المبخرة المليئة بالجمر .
عاش العاشق لمدة خمسة عشر سنة يهيم في شوارع البلدة ، وقد أوقد نارين في جعبته ، ناراً بالمبخرة ، ونار بقلبه ، وهو يردد أبيها ! أبيها ، وكلما أقترب من بيت معشوقته ، رما بنفسه على جدارهم ، ووضع المبخرة بجانبه ، ونظر إلي كفيه المحترقان ، وأغمض عينيه بهدوء ، وهو يردد بصوت هادئ يكاد يخرج من قلبه : ” أبيها .. أبيها ” .

فوزي صادق / روائي وكاتب : الموقع الرسمي : www.holool.info

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫11 تعليق

  1. ابيها ولا امها دي تفرق بئيه بس بردو انا معاك الاب يتحمل المسؤوليه ويكبر ويعلم ويصرف وايه تلقيه محدش يعبره بكلمه وكلو بيقول امي

  2. وانا كنت مفكرة الحق على ابيها ,,طلع يبيها ومجنون بيها ,,!!!
    ملاحظه ,,لازم نعرف انو العنوان دائما ان كان مش الأساس بأي موضوع فهو جزء من هذا الأساس ,,وشكرا لمن جائنا بالموضوع

  3. الاخت سكرة انتى مصريه؟؟
    ماشاء الله المصريين كتروا على نورت !!
    احنا نعمل القصه دى مسلسل تركى بس المهم مايكونش فيه مهند ثقيل الدم
    بشير فئرى وحيليق ع الدور اكتر!!!

  4. ..أنصحك بني وأنصح قلبك قبلك ، أن لا ترفع قلبك أمام بحر الهوى عالياً فيقع، ولا تحمله مالا طاقة له به فيتوجع ، ولا ترمه بشباك غرام مربوط فيموت غيرة ويقلع ………………………
    شو بينفع انو يبيها و يحبها .. و عمرها ما راح تكون اله .. متل ما كانت اله بيوم من الايام ؟!! ..

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *