الزمان : بالخمسينات الهجرية من القرن الفائت ، والمكان : وسط المزارع بمنطقة الأحساء شرق المملكة العربية السعودية ، وهاهي المزرعة الكبيرة أمامنا ، والتي تدعى أم الخير ، وقد أخذت التسمية من صاحبها الشيخ التاجر السخي الكريم ، إذ أعتاد أن يجلس كل يوم على شرفة مرتفعة بوسط مزرعته ، والتي تطل على باحة خضراء مفتوحة العنان ، وعيناه ترمقان الخير الوفير الذي رزقه الله إياه ، ومن بين الأحراش يظهر أمامه أبناءه الثلاثة ومعهم أختهم الوحيدة المدللة ، وهم يلعبون مع شاكر أبن رئيس الفلاحين بالمزرعة ، وقد أعتاد فقراء ومساكين البلدة على الاصطفاف عصر كل يوم لزيارة الشيخ الكريم ، مع احتساء قهوته الزكية الطازجة بمعية أصحابه ورفاق عمره ، ثم يحصلوا على ماتجود به نفسه الكريمة من أموال وتمور وفواكه ويرحلوا بإبتسامة ورضا .
تعود أبناءه الثلاثة على البذخ والإتكالية والأعتماد على الغير في كل شؤونهم ، وكبروا وترعرعوا على هذا ، وإن اللقمة تصل أفواههم دون مشقة أو تعب ، حتى مضت السنون وكبروا وأصبحوا رجالا ، وكبرت معهم أختهم الحسناء لمياء ، وكبر شاكر أبن المزرعة وصديق طفولتها وشريك مرحها ولعبها بالمزرعة .
يقطن شاكر مع أهله في بيت صغير بأطراف مزرعة أم الخير الكبيرة ، وكذلك يفعل بقية الفلاحين بالجوار، وقد عرف بوسامته وجاذبيته ورجاحة عقله ، وقد تقلد قيادة المزرعة وهو صغير بعد مرض والده ، وأصبحت كل أعمال الشيخ تحت يده ، وكل صغيرة أو كبيرة إلا ويعلم بها ، أما بخصوص الجانب العاطفي ، فقد لاحظ الشيخ اهتمام شاكر بأبنته منذ نعومة أظفارهما . وذات يوم فاجئ شاكر عمه التاجر : ( عمي أريد لمياء زوجة على سنة الله ورسوله ) ، فلم يتفاجئ من طلبه ، بل كان متوقعاً إن هذا سيحدث ، فأخبر أبنته بطلب شاكر ، فبان عليها الموافقة والرضا ، فقال لها والدها (سوف أتدبر الأمر) .. وبعد أيام ، وصل الخبر إلي الأبناء ، فذهبوا إلي المزرعة والشر يتطاير من عيونهم ، ففصلوا شاكر من عمله ، وطردوه وأهله من المزرعة ، وقالوا له : لم يبقى إلا أنت يا حافي ! يا فلاح ! .. كيف تتجرأ وتطلب يد بنات الشيوخ !
علم الشيخ بما حدث ، فأشتط غضباً ، فأرجع شاكر إلي عمله ورد أهله إلى سكناهم ، حتى وصل الخبر للأبناء ، فاشترطوا على عودته أن لا يتزوج أختهم ، فعمل الشيخ خطة لمواجهة شرهم وعنادهم ، وهو يعلم إنهم خائفون على الإرث من بعده ، فعقد كتاب الزواج بين شاكر ولمياء سراً ، ثم جاهر بالموضوع أمام الجميع دون خوف ، فاعتزلوا أبيهم غاضبين ، وتصومعوا ديارهم جاثمين ، في حالة من الانقطاع والعزلة عن المزرعة .. وفي يوم ما ، وفي منزلهم القصر، دخل عدد من الضيوف المجلس الكبير ، ويتقدمهم تاجر عقار معروف ، ومعه كاتب عدل لتسجيل البيع والإفراغ ، فطلبوا من الشيخ إنهاء إجراءات بيع مزرعة أم الخير كما اتفقوا من قبل ، وإن الشيخ قد رهنها مقابل مبلغ من المال وقد حان الدفع ، ولم يوفي بذلك حتى يومه ، ومطلوب منه الآن أن يوقع أتفاقية البيع .
وقع الخبر على الأبناء كالصاعقة ، وكأن السماء قد انطبقت على الأرض ، فاعترضوا على بيع مصدر رزقهم ، فدخلوا أمام الجمع ، وأبدوا انزعاجهم ورفضهم ، فإذا هي رمشه من عين الشيخ للمشتري ، فتكلم عن مهلة ستة أشهر حتى يدفع مبلغ الرهان ، فأمر الشيخ أبنه الكبير أن يحضر صك الرهان من صندوق الحديد بالغرفة الصفراء ، وما أن دخل الابن حتى وجد أخته نائمة بجانب الصندوق وهي شبه عارية ! فأخذه استحيائه القهقرى والعودة للخلف ، والخروج من البيت، فمضت عشرة دقائق ، فأمر الشيخ أبنه الثاني وهو يصرخ : أين ذهب أخوك !! أذهب وأحضر الصك ، ففعل الشيء نفسه، وشاهد أخته على وضعها ، فهرب يلحق أخيه ، وهكذا حدث مع أخيهم الأصغر ، فأمر الشيخ شاكر بتنفيذ المهمة ، فدخل ووجد زوجته شبه عارية ، فقبل رأسها وغطاها بلحاف كان قربها ، وأخذ الصك من الصندوق ثم أسرع مهرولاً نحو عمه الشيخ ، فنادى الشيخ أبناءه بأعلى صوته : يارجال لمياء ! أرأيتم يا أبنائي ، هذا الفلاح يسهر على حلالكم وأنتم نائمون ، ويسعى في رزقكم وأنتم جالسون ، ويستر عورتكم وأنتم منها هاربون .. فماذا أنتم قائلون ؟ فطأطئوا برؤوسهم نحو الأرض، فقال لهم : من يستحق أن يتزوج بنت الشيوخ ؟ فأجابوه : شاكر يا أبتاه . فتمت الزيجة على بركة الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه الكرام : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، الا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ” ، وقال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم : ” إن يكونوا فقراء يغنهم الله ” .
فوزي صادق / كاتب وروائي : www.holool.info
لنا عودة