حكاية الأندلس ،، ( 3 ) ..!!

بسم الله الرحمن الرحيم ..!!

في المقال السابق كنا نتحدث عن عصر الولاة في الأندلس .. ذلك العصر الذي بدأ بنشر دين الاسلام في الاندلس وأصبحت الاندلس مركزاً حضارياً وعلمياً في أوروبا التي كانت تعيش في الظلام .. لكن ذلك العهد ما لبث أن اعتراه الضعف …لأسباب ذكرناها منها حب الدنيا .. وترك الجهاد ..والظلم الذي مارسه الولاة في آخر ذلك العهد ضد البربر وما نتج عنه من ثورات وفتنة بين العرب والأمازيغ .. ثم بين العرب أنفسهم .. وكاد الاسلام في آخر عهد الولاة أن يُقضى عليه تماماً من بلاد الاندلس .. لولا أن الله سبحانه منّ على الاسلام والمسلمين برجل أنقذ الوضع مما هو فيه .. وأعاد الأندلس إلى سابق مجدها ..!!
ذلك الرجل هو ” عبد الرحمن بن معاوية ” أو عبد الرحمن الداخل .. أو صقر قريش ..!!
الذي استطاع أن يهرب من سيوف العباسيين التي كانت تحصد رقاب أمراء بني أمية في دمشق ولم تترك منهم أحداً ..

اليوم سنتكلم عن عهد الخلافة الأموية في الأندلس  …وقد بدأ هذا العهد بالإمارة الأموية والتي ما لبثت أن تحولت إلى الخلافة الأموية وهما عهدان يكملان بعضهما البعض ويختلفان في امور صغيرة ..!!

بدأ عهد الامارة الأموية عندما وصل عبد الرحمن الداخل إلى إمارة الأندلس في عام 755 م .. واستمر ذلك العهد حتى عام 928 م ..
وقد مرّ ذلك العهد بفترة قوّة .. ثم فترة ضعف ثم الانتقال إلى الخلافة الأموية ..!!

وعندما نتحدث عن فترة القوة في عهد الامارة الأاموية لابد أن نقف قليلاً عند شخصية ذلك الرجل “” عبد الرحمن الداخل ” ..ويكفي أن نعلم أنه عندما وصل إلى حكم الأندلس كان عمره 25 عاماً فقط .. وقال المؤرخون فيه “” لولا عبد الرحمن الداخل لذهب الاسلام من الأندلس بالكليّة “” ..
كتب عنه ابن حيّان الأندلسي فقال “” كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الْغَوْرِ، شديد الحدَّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويُؤْثِره، وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه، وكان يحضر الجنائز، ويُصَلِّي عليها، ويُصَلِّي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى»

وكان يتميز أيضاً بحنكة عسكرية عالية ..وبنى جيشاً قوياً اعتمد فيه على المولدين والبربر … ويُقال ان عدد البربر عنده كان أربعين ألفاً ..وقد استقر ملكه بهم .!!
وفي زمنه انتشر العلم .. وزادت مكانة العلماء ..واهتم بالقضاء ..الى جانب الاهتمام بالناحية العمرانية فبنى مدينة الرصافة ..وهي من اكبر الحدائق في الأندلس ..
إضافة إلى الجيش القوي الذي كان يحمي حدود الدولة ..!!

توفي رحمه الله بعد ان أعاد للأندلس مجدها .. وأعاد للاسلام روحه هناك .. بعد أن قضى في الحكم 34 عاماً ..

تعاقب بعد عبد الرحمن الداخل في فترة القوة ثلاث أمراء .. هم ابنه هشام بن عبد الرحمن .. والحكم بن هشام ..وعبد الرحمن الأوسط …وبه انتهت فترة القوّة في عهد الإمارة الاموية …وقد حافظ هؤلاء الامراء على ارث عبد الرحمن الداخل .. وازدهرت الأندلس علمياً  .. وكلنا يعرف عباس بن فرناس .. وهو أول من حاول الطيران عندما غطى جسده بالريش ولكنه فشل وسقط وتضرر ظهره لانه لم يصنع ذيلاً .. عباس هذا كان في زمن عبد الرحمن الأوسط .. وكان رجلاُ عبقرياً ..وقد مدحه الصفدي فقال “” له شخص إنسي وفطنة جنّي “” ..وهو أول من ابتكر صناعة الزجاج من الحجارة ..وكان فيلسوفاً وشاعراً وله علم بالفلك ..!!

والى جانب ازدهار الحضارة العلمية ازدهرت الحضارة المادية والعمرانية والاقتصادية أيضاً ..وقد كانت المباني الأندلسية في ذلك الوقت آية من آيات البناء والعمران ..!!
وتمّ رصف الطرقات وانارتها ليلاً .. في حين كانت اوربا تعيش في ظلام دامس ..

واستمر الجهاد في ذلك العهد .. وكانت الأندلس دولة قوية مرهوبة الجانب .. حتى أن الهدايا كانت تأتيها من القسطنطينيية .. وكان أعدائها يطلبون دها ويتقربون إليها ..!!
بموت عبد الرحمن الأوسط .. دخل عهد الإمارة الأموية في الأندلس في فترة الضعف واستمر اثنين وستين سنة ..!!
لكن .. ما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك الضعف بعد تلك القوة ؟؟!

أول تلك الأسباب هو انفتاح المسلمين على الدنيا وكثرة الأموال في أيديهم .. وقد حذرنا رسول الله من ذلك فقال “” فَوَاللهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[البخاري].وهذا ما كان فسنّة الله لا تتبدل ولا تتحول ..

ومن أسباب الضعف أيضاً رجل يسمّى ” عمر بن حفصون ” وكان مسلماً من المولدين .. وكان قاطعاً للطريق على رأس عصابة من أربعين رجل .. ما لبث أن اشتد خطره وبدأ يشكل ثورة في الجنوب وامتد سلطانه حتى استولة على كل الجنوب الأندلسي .. ثم تنصّر بعد ذلك وسمّى نفسه صمويل ليكسب دعم وتأييد مملكة ليون النصرانية في الشمال ..ويوقع الأندلس بين فكي كمّاشة ..النصارى في الشمال .. وصمويل بن حفصون في الجنوب ..!!

السبب الثالث من أسباب الضعف هو … زرياب ..!!

ربما أغلبنا سمع بهذا الاسم .. إنه زرياب المغني المشهور وذائع الصيت ..كان من مطربي بغداد … ومن روّاد قصورها وبيوت أمرائها ..وكان تلميذاً لابراهيم الموصلي .. كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت .. لكن معلمه ابراهيم غار منه ودبّر له مكيدة طُرد على أثرها من بغداد ..ولم يجد أفضل من الأندلس ليلجأ إليها .. مال وفير وحدائق وقصور ،، تلك البيئة التي يحتاجها شخص مثل زرياب ..

ولم تكن الأندلس قبل زرياب تعرف الغناء .. وعندما وصلها استقبلوه أفضل استقبال وأكرموه حتى وصل إلى بيوت الخلفاء .. وإلى نوادي العامّة ..وأخذ يعلمهم ما تعلمه في بغداد .. فانتشر الغناء في الأندلس .. وبدأ يروي لهم الحكايا والأساطير .. ويعلمهم ( الموضة ) .. وكثر المطربون … ثم ظهر الرقص وكان في البداية بين الذكور ثم انتقل إلى الإناث ..

كل ذلك كان يجري في عهد عبد الرحمن الاوسط .. الذي كان مهتماً بالبناء والعمران والتقدم الحضاري .. ولكن زرياب هذا كان ينخر في جسد الأمة دون أن يدري أحد ..!!

وكانت النتيجة ان انصرف اهتمام الشباب من العلم والثقافة إلى الغناء والرقص ..!!
وليت شعري ما أشبه اليوم بالأمس .. كم عدد المطربين والراقصين والراقصات في زمننا هذا ؟؟!! كلهم ينخر في جسد هذه الأمة المنهك أساساً ..

ربما الكثير لا يعرف من هو عبد الرحمن الداخل .. أو من هو عبد الرحمن الناصر .. لكن نادراً ما تجد شخصاً لا يعرف زرياب ..!!
وهذا ما نلمسه اليوم أيضاً .. فمن لا يعرف هيفاء .. ونانسي ومن على شاكلتهما .. أما أصحاب العقول .. وأصحاب الهمم .. وأصحاب المبادئ والقيم فهم مغمورون لا يدري بهم أحد ..!!

تلك الأسباب أدت إلى حالة الضعف .. وكانت النتجية كثرة الثورات ..حتى استقلت الكثير من المناطق وخرجت عن سيطرة الدولة الأندلسية ..وتكونت مملكة نصرانية أخرى هي مملكة نافار ..وظهور الدولة العبيدية في المغرب العربي …!!
فكان لابد من قائد جديد يُنقذ الأندلس .. وبالفعل ظهر ذلك القائد .. إنه ” عبد الرحمن الناصر ” .. الذي كان على اسم جده الداخل .. وعلى سيرته .. فأعاد للأندلس مجدها من جديد .. ونقلها إلى مرحلة الخلافة الأموية ..!!!

ولكم مني كل الود والورد ..!!

أخوكم .. مأمون ..!!