لم يغب رامي مخلوف يوماً عن الساحة السورية باعتبارها مرتعاً لصفقاته لا وطناً، حتى وإن غادر سورية في فترة اشتداد الضغط على نظام الأسد، لكنه خلال السنوات السابقة ومنذ اندلاع الثورة لم يتوقف عن العمل في الخفاء أو عن بعد محاولاً استثمار الحدث وتحويله إلى تجارة تدخل ضمن شركاته القابضة وربما كان أهمها التوكيل الذي أبرم عقده مع شريكه الأسد والخاص برعاية أسر من يسميهم النظام “الشهداء” وكذلك تخطيطه للفوز بمناقصة إعادة الإعمار حال الإعلان عنها كما يتخيل..
اليوم يعود الابن (الخال) على غرار عودة الابن الضال ولكن ليس من أجل إعلان التوبة والندم على ما اقترفته يداه بحق الوطن بل ليؤكد لصوصيته وانتهازيته ويوسع نطاقهما على وقع آلة الموت والدمار التي تعمل في سورية ليل نهار وبلا هوادة، والتي ساهم مخلوف مساهمة شديدة الفعالية في دعمها واستمرارها على مدار سنوات..
يجمع السوريون على أنه لو لم يكن ثمة سبب آخر للثورة سوى رامي مخلوف لقاموا بها، فما بالنا بالكثير من الشخصيات التي على شاكلته في نظام الأسد وإن كانت أقل نفوذاً وسلطة والتي يمكن أن تكون كل واحدة منها سبباً كافياً لأكثر من ثورة، وما يفعله مخلوف اليوم سبب آخر لاستمرار الثورة وإصرار السوريين على انتزاع كرامتهم وحريتهم التي احتجزها الشريكان مخلوف والأسد وجعلا من سورية والسوريين سلعة رخيصة الثمن في سوق النخاسة الذي لا يعرفان المتاجرة بغيره..
التمدد الاخطبوطي لرامي مخلوف خلال أحد عشر عاماً من حكم الأسد كان واحداً من أحاديث السوريين اليومية في الجلسات المغلقة، وكما هيمن الأسد على الشأن السياسي ومارس القمع السياسي بكافة أشكاله فقد تولى ابن خاله مهمة الشأن الاقتصادي فهيمن عليه بالكامل ومارس ما يمكن تسميته “القمع الاقتصادي” من خلال تجميع خيوط السوق السورية كاملة بين يديه وتحكمه فيها كيفما يشاء مدعوماً بسياسة بشار وعسكرتاريا وإرهاب ماهر وفتاوى شيوخ التكسب والنفاق والإثراء..
وكما طال القمع السياسي كل حقوق السوريين بما في ذلك حق الشكوى أو حق التعبير عن الضجر أو حتى حق الامتعاض أو العتب، طال قمع مخلوف وحربه الاقتصادية لقمة عيش السوريين اليومية وسكنهم ودواءهم واتصالاتهم وسفرهم، طال المشروعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة والاستثمارات المحلية والأجنبية، وكان مخلوف على مرأى جميع السوريين يبتلع البلد بمن فيه وبما فيه ولم يكتف بالسطو على مؤسساته الاقتصادية بل امتد للمؤسسات الثقافية والإعلامية والصحية والتعليمية والخدمية..
فمن المدارس إلى الجامعات وصولاً إلى شركات الطيران كان مخلوف يقضم كل ما يعتبره هدفاً استثمارياً ليحوله سهماً جديداً في شركاته القابضة، وإذا كان الاقتصاد السوري يقوم أساساً على النمط الريعي غير المنتج، فقد استطاع مخلوف تحويله إلى نمط استهلاكي بجدارة مترافقاً مع حملات مكثفة للتجهيل والتسطيح محاولاً تجريف ما تبقى من البنية الثقافية للمجتمع برمته واستبدال النمط الثقافي القائم -على ما فيه من أخطاء وعيوب- بنمط استهلاكي يضمن سذاجة المواطن مما يسهل لمخلوف الهيمنة على الذهن البشري أيضاً والمتاجرة به واقتياده بالغرائز وحصره في المظاهر الفارغة وهو ما كاد يتحقق فعلاً لولا اندلاع الثورة التي عرقلت خطة مخلوف تلك..
يعرف السوريون جيداً من هو رامي مخلوف وما هي مشاريعه واستثماراته وشبكات أعماله وعلاقاته المشبوهة، ويعون جيداً أن جذر المشكلة مع النظام وأسباب الثورة غير المباشرة لا تكمن فقط في الممارسات الوحشية ضد أطفال درعا، ولا في قمع الحريات قبل ذلك، وليس فقط بسبب التوريث والحكم الأبدي والاستبدادي وإن كان كل واحد منها سبباً لأكثر من ثورة، بل كان رامي مخلوف السبب المباشر لأنه ترسخ في خلفية الذهنية السورية على أنه قادر على تدمير مستقبل سورية وشعبها بغطاء واسع من شريكه الأسد..
وكما تاجر مخلوف قبل الثورة بحياة السوريين يعود اليوم ليتاجر بموتهم أيضاً فيتنطع لقيادة حملة لتكريم أسر “الشهداء” ودعمهم برعاية شركته سيرياتيل، أي أنه مصر على سرقة ما تبقى في جيوب الناس ثمناً لظهوره هذه المرة ليس على هيئة رجل أعمال بل على هيئة فاعل الخير ليصدر الأبعاد الإنسانية التي لا يمكن أن تنطوي شخصيته وتركيبته الإجرامية إلاّ على نقيضها، وليتقاسم مع ابن عمته دماء مئات الآلاف من الضحايا بعد أن مصا معاً دماءهم وهم أحياء وها هما يلاحقانهم لاستثمار موتهم..
أما المشروع الأكبر الذي يشغل رامي مخلوف اليوم فيتمثل في صفقة العمر وهي فوزه بمناقصة إعادة إعمار سورية، فكل ما حدث في سورية لم يستوقفه للحظة إلاّ ليفكر في توسيع رقعة طموحه وجشعه، وربما لا يتوقف عند إعادة إعمار سورية بل يمتد طموحه إلى إعادة إعمار ليبيا وغيرها من البلدان التي تعرضت للدمار على يد أمثاله وأمثال شريكه، وحينها قد تبرد نار السيدة الوالدة التي عاتبته يوماً لأنه لم يأخذ توكيل “الإيدز” حينما زار جنوب أفريقيا..
بقلم … عبد القادر المنلا .