بقلم محمود عدنان تهتموني
في صبيحة يوم الاربعاء لا اعرف كم كان الوقت حينها او تاريخ ذلك اليوم المشؤوم ؟ يوم ما نجيت من الموت انا ويوم عائلتي ارتحلوا الى دار الآخرة .
انسحبوا من حياتي كشمس ابريل عند المساء ، او كقطرات الماء في اول الشتاء ، بيدو ان ذلك اليوم كان يوم مماتي لا حياتي ، وها هي الأيام تمضي بي مسرعة كدقات ساعة حائطنا عند الانتظار او كافعى تطارد فريستها في اول ايام الربيع .
وانا امشي بها كعقرب يلتف حول نفسه او كمن يمشي عكس تيار النهر ، لماذا علي تحمل عذاب هذه الحياة ألاف وألاف المرات ، لقد استشهدتم بصاروخ غادر خطفكم مني بين لحظة واخرى ، لماذا وقتها لم امت انا معكم ! لماذا كان علي تجرع معاناة هذه الحياة وكأن ألاف الصواريخ تساقطت علي وقتلتني …. !
لم امت وقتها ولكن اصاباتي كانت نوعان اصابتي من الصاروخ اليهودي ( القاتل ) وكانت اصابة خارجية لا تقارن باصابتي الداخلية ألا وهي رحيلكم عني …. !
لقد صرت في سن العاشرة يا امي آه والف آه كم تمنيت ان تكوني جنبي الان لكي تحكيي بنطالي الأزرق وان اتقسام معكي دمعات الحزن والفرح في هذه الليالي التي تخلو من كل شيء الا من أحزاني مع ضوء القمر .
الهم والحزن صديقان مخلصان لي يا امي ….!
والفراق وجدني منذ طفولتي قبل أن اذهب اليه ….!
لا أحد يمسح لي دمعاتي في الليالي الشتوية القارصة والتي تكون معتمة كليا الا بعض اشعة من الدمعات التي تصدرها عيوني والتي تسقط في مجرى خدودي والتي لا يكون فيها صوت الا صوت أنفاسي المتلعثمة التي تحاول افشاء سري أو اخراج ما بداخلي من حزن والم …. !
أريد أن أقول لكي كم هي جدتي إنسانة رائعة وبسيطة أشبهها بقمح بلادنا الجميل وبمشوخ جبالنا جبال الجيل أمام أعدائنا ، لقد تجاوزت الخمسين عاما وفي كل عاما تزداد خبرة وحنكة ، نرى تلاحم أنسجة كف يديها مع طحين خبز الطابون الذي تعده لي ولعمي ثائر يوميا وترين على جبينها تحد واصرار وصمود .
كم انتظرت وسهرت اول ايامي قبل أن أذهب مدرسة ذكور ابتادئية خانيوس ونمت بجانب بنطالي الذي خيطته جدتي لي ، مع اني فكرة المدرسة لم تكن في بال عمي ثائر لكن في الاخير أقنعته جدتي .
كنت اتشوق لرؤية ذلك الكيان الغريب المدرسة ! وأن أتعرف الى تراكيبها ومفردات جديدة : صف ، معلم ، مدير ، مقعد ، طابور صباحي .
وذهبت الى المدرسة !
وكان يوما حافلا ورائعا وتعرفت فيه على الكثير من الأصدقاء الرائعين ، ولم تحدث لي مواقف في مدرستي سوى موقف المعلم رائد الذي كان ينظر الي بنظرة تعجرف وكأنني من عالم آخر وكان يحاول هز كياني من الداخل لكن بنظرات عيوني الصامتة التي تلمع منها الاصرار أستطيع أن أتحداه ، ولكن بعد فترة ولظروفنا القاهرة جئت الى المدرسة ( ببنطال ) ممزق ونظر لي للحظات وقالت : ( شو هل البنطال المزع ) !
نظرت اليه وسكتت وتبادلنا نظرات العيون …. ! وذهب المعلم رائد ! هو وقتها لم يعلم أن الجرح الذي أحدثه بكلامه في داخلي أكبر من ( مزع البنطال ) ….!
حتى ولو كانت الظروف قد التحمت بي كشجرة الزيتون في أرضنا الفلسطينية ، وحتى لو كنت صامد كأشجار التين ! أبقى أعاني يا امي بسبب عدم وجودكم بجانبي ولأنني أيضا ( لاجئ ) في قطاع غزة ولكنني أتمنى الرجوع الى بلدتي بيسان !
نعم هذا ما يحدث لنا نحن اللاجئون غربة في وطننا ( فلسطين ) ؟
نعم يا امي ما قيمة الانسان بلا وطن ! لقد أصبحنا كأسراب النسور نتهادى من أرض الى أرض ! نرتفع من سماء الى سماء ! ثم في الأخر لم نعد سوى – أسماء – …. !
أو كهواء – عليل – تطاير في السماء ثم تناثر واندثر !
الأيام تمضي سريعة وانا أحاول أن أتماشى معها ، لقد كبرت وأصبح عمري سبعة عشر عاما ! وأصبحت الامور أدق وأوضح الي ، لقد خرجت من المدرسة فتكاليفها باهضة وزوجة عمي ثائر لا تستطيع ان تتحمل مسؤوليته أولادها و مسؤوليتي ومسؤولية جدتي !
وخصوصا بعد أن اعتقل عمي ثائر من قبل القوات الاسرائيلية ، والذي كانت العائلة تعتمد عليه .
لقد أحببت يا امي ! نعم أحببت ! بنت تدعى غيداء سمراء طويلة ترتدي كوفيتها الرائعة التي تداخلت بها دم شهدائنا ( دمكم ) و عرق وانفاس اجدادنا وجداتنا ، انها تسكن بجانب حارتنا ترين في عينيها الوطنية وشعلة من الاصرار والأمل ! .
انتظر في فراغ الصبر رؤيتها وهو تمر من حارتنا وأسمع دقات خطواتها بصدى وبتزامن مع دقات قلبي الخافقة ، انها بنت رائعة تحب كل شيء يتعلق بحب العرب والوحدة والوطنية والشجاعة وعاداتنا العربية الاسلامية .
هل أقول لها بحبي ؟ أم هذا هواء المراهقة ؟ لا اجده حبا حقيقيا ! ولكن ماذا أفعل ، تهاوت يا امي في تلك اللحظات مئات لا بل ألاف الكلمات والأحساسيس والمشاعر ، انها شابة رائعة حاولت أكتر من مرة التكلم معها وكانت دائما كلمتها وحبها لفلسطين ، ولم تتاح لي الفرصة لكي ابوح بحبي لها ، ولكن للأسف كأن الحزن مكتوب لي ….!
في احدى الليالي السوداء قام الجيش الاسرائيلي باجتياح قطاع غزة بالكامل وها هي أصوات الطائرات والقنابل تجتاح أصوات ما في غزة ، لكن بعد فترة وجيزة من الزمن أصبحت دقات قلبي أقوى من جميع هذه الأصوات ! وبعد أسبوع دموي وحافل ، سمعت خبر استشهاد غيداء ! ذلك الحب القريب الذي أصبح بعيدا جدا ….!
لا أعرف مدى هذه الحياة التي حدودها لا تنتهى من الحزن والصبر وبعض لا بل قليل من الامل ، أعرف أنني كبرت قبل سني لأن الحياة تصنع الانسان والنسيان أيضا ! .
ما هذه النفسيات التي تحب وتكره وتسافر وترجع وتموت وتحيى من اجل الحياة ، ولكن كيف تكون لنا حياة ونحن نضحي لاجل فلسطين – هذا السؤال الذي عرفت جوابه فيما بعد – !
لم اكن أعرف وقتها ان موتنا هو حياة لغيرنا ، ولأنفسنا ما هي الا فناء لأجسادنا فقط ! لان فلسطين أكبر من كلمة فيها 6 أحرف كتبت بالدم الاحمر وتحكي قصة شعب صامد وما بموت …. !
ها نحن نسمع في الراديو – اجتياح لبنان – يا الهي ! هل يمكن أن نفقد وطننا آخر ! هل لبنان هي ضحية أخرى لجرائم ذلك – الاحتلال المتعجرف – ، لا أدري ؟ نعم لا أدري !
كل ما أعرف هو أنني لا اريد نفقد وطننا آخر .
الحمد لله انتهت هذه الحرب بعد عدة سنوات وكانت هذه السنوات قد علمتني ما هو حب الوطن ! وما هو التضحية من اجل ما تحب : اهل وحبيبة ووطن مسلوب أمامك ! ، انها بلا شك مسالة صعبة سهلة .
صعبة عند التفكير فيها والتمعن بهذه الحياة التي لا تسوى شيء ! وسهلة عند اتخاذ القرار بالموت من اجل كل هذا وذاك ….!
نعم ! صحيح كلمات نزار قباني في قصيدته “قارئة الفنجان ” :
بحياتك يا ولدي امرأةٌ
عيناها، سبحانَ المعبود
فمُها مرسومٌ كالعنقود
ضحكتُها موسيقى و ورود
لكنَّ سماءكَ ممطرةٌ
وطريقكَ مسدودٌ مسدود
فحبيبةُ قلبكَ يا ولدي
نائمةٌ في قصرٍ مرصود
والقصرُ كبيرٌ يا ولدي
وكلابٌ تحرسُهُ وجنود
وأميرةُ قلبكَ نائمةٌ
من يدخُلُ حُجرتها مفقود
من يطلبُ يَدَها
من يَدنو من سورِ حديقتها.. مفقود
من حاولَ فكَّ ضفائرها
يا ولدي..
مفقودٌ مفقود
نعم انني اشببها بقصتي معك انتي يا ” فلسطين ” لانك جميلة ورائعة وانتي حبيبة قلبي لكن طريقي انا مسدود مسدود وانتي نائمة امامي في قصر مرصود بين المستوطنات ( اللعينة ) وبين الحواجز الاسمنتية ! وجنود وكلاب تحرسك ! ليست خوفا عليك لانهم يعرفوكي انكي لنا مهما طال الزمان ! و مهما اختلف المكان ! ومن يحاول الاقتراب منك مفقود ماسور مقتول !
لذا أنعمت نظرا الى جزئه الثاني من القصيدة :
لم أعرف أبداً يا ولدي
أحزاناً تشبهُ أحزانك
مقدُورُكَ.. أن تمشي أبداً
في الحُبِّ .. على حدِّ الخنجر
وتَظلَّ وحيداً كالأصداف
وتظلَّ حزيناً كالصفصاف
مقدوركَ أن تمضي أبداً
في بحرِ الحُبِّ بغيرِ قُلوع
وتُحبُّ ملايينَ المَرَّاتِ
نعم …. ! أحزاني كثيرة جدا بفقد أهلي ناسي وطني حبيبتي الصغيرة وحبيبتي انتي فلسطين ! وأعرف أن مقدوري أن أمشي وحيدا في هذه الحياة التي ساضحى بها كما ضحت بي من قبل …. ! نعم سابقى كالصفصاف وكالاصداف وفي الحب على حد الخنجر لانني قررت حينها الانضمام الى فصيلة فلسطينية والتضحية من اجل فلسطين ومقدوري ان امضي ابدا في بحر الحب يا فلسطين وان احبك ملاين المرات ….!
نعم ساضحي نفسي من اجل فلسطين ، قررت انا ومجموعة شباب أن ننفذ عملية في احدى المستوطنات القريبة من خانيوس ، وقبل ذلك كتبت بعض من مذكراتي على ورقة ووضعتها على قبر حبيبتي غيداء وأعرف عندما يجد الورقة ( ايا من كان ) أكون انا قد سقطت من هذه الحياة كورقة انسابت في فصل الخريف .
جميلة ورائعة قصتك ..
اقول عاشت فلسطين عربية
المجد و الخلود للشهداء فلسطين
بارك الله فيك اخي محمود عدنان.
قصاك موجعة أخي محمود عدنان .. وهي واحدة من آلاف القصص الموجعة في فلسطين الحبيبة .. ولابد أن ياتي يوم تعود فيه البسمة الى الشفاه إن شاء الله … بارك الله بك
قصتك وليس قصاك …
تسلموا يا اخواني ان شاء الله رح نكتب القصص المفرحة بعودتنا على فلسطين وبطرد الكيان الصهيوني الغاشم
معك حق اخي مأمون قصة موجعة قد تحدث لنا جميعا او قد يكون لنا جميعا قصص كثيرة عن فقدان الام والاب واليتم ونحن صغار
ولكن الوجع في فلسطين اكبر من اي وجع
فهو وجع الغربة في وطنك واليتم وفراق الاحبة واحد بعد الآخر بالاستشهاد او بالاسر وجع ان تجد نفسك مهدد في كل لحظة وثانية ومستهدف وحياتك بيد قناص او مستوطن
نسأل الله عزوجل بأن يفك كرب شعب فلسطين الشعب المناضل الصابر المقاوم منذ اكثر من 60 عاما وحده اعزل مع مؤامرات الجيران ضده بمواجهة الكفرة الفجرة القتلة
ولاحول ولاقوة الا بالله العظيم
كلام رائع وجميييييييييييييييييييييييييييييييل
It’s past four in the morning and don’t feel like commenting but yr article’s really touched my heart…
May Allah bless you…
هذي مشيئة الله, الحمد لله على كل حال يا محمود.
صباح الخير فايزة.
Good afternoon…
لا يهزني شيئ بهذا الكون الا ايّ شيئ يأتي من فلسطين ,يمكن ,لأننا بقرارة أنفسنا نعرف ان الحوادث الأخرى والتي تجري في الوطن العربي هي من فعل ايادينا وسيأتي ذاك اليوم الذي سيتعافى فيه وطننا الكبير ومهما طالت المدة ,الا فلسطين بدأت أحداثها كبيرة وما زالت تكبر وجرحها في قلوبنا يكبر ويكبر,!
عذرا يا أخ عدنان لك ولفلسطين ,,الظاهر رح نضل ردد هالكلمه ,
للأسف ما عم نقدر نعمل شي!!!!!!!!
كم هو مؤلم أن تفقد أهلك امام عينيك وتبقى حيا ممتلئا بالموت طول حياتك تسكنك مرارة الذكرى ووجعها .آلمني ما قرأت لان الكلمات مزقت وجداني وأيقظت ذكرى قديمة عندما تنفس الصبح على سيل دم في جزائري الغالية ولم يكن السفاح صهيونيا بل غاضب من بلدي.
فلسطين ستبقى دائما وأبدا وستزهر يوما أرضها المروية بالدماء الزكية.
نسيت أحكيلك مبارح, إسم حبيبتك جميييل… رحمة الله عليها و على كل أهلك و شهدائنا الأبرار.
لاحظت بصفة عامة-وقد أكون مخطئة- أن الإخوة الفلسطينيين اللي مازالوو بفلسطين أو برى فلسطين كلاجئــــين أقْـــــــرب و بيحنوو لفلسطين أكثر من الفلسطينيين المتواجدين و المتجنسيين بجنسية احدى البلدان ((العربيييه)) و لا يعجبني أنكم منقسمون مثلا كقول لاجئ بقطاع غزة!!! كم أتمنى أن تتوحدوا و تتحدوا… ان شاء الله تكون آخرتك أحسن من دنياك… بجنة الخلد مع جميع المؤمنين.
….. عاشت فلسطين الأبية.