وقفة فكرية مع مقولتيّ ” كما تكونوا يولى عليكم ” و ” الناس على دين ملوكهم “

مضى عليّ زمن كنت اتساءل فيه عن كيفية التوفيق هاتين بين المقولتين المتعارضتين لانني كنت اظنهما حديثين صحيحين ، وتخلصت من هذا التساؤل عندما بحثت ووجدت ان كلا المقولتين لا علاقة لهما بالاحاديث النبوية …وهذا مما سهل البحث لان التعارض المتوهم لم يعد له اي اهمية …وصار بالامكان البحث بحرية وبلا اي تحرج عن: ايهما الصواب وايهما الخطأ…لان كلاهما كلام بشر يؤخذ منه ويرد عليه وهذا بخلاف كون المقولة حديث للرسول عليه السلام الذي لاينطق عن الهوى لان كلامه وحي يوحى في حالة ثبوت ان المقولة حديث صحيح !!

وكالعادة – ولان الله خلق الناس مختلفين – ولا يزالون – فهناك من يرى صحة المقولة الاولى وهناك اخرون يرون صحة المقولة الثانية.. فمقولة”الناس على دين ملوكهم “تعني أنه اذا صلح الحاكم صلحت الرعية والعكس ، ومقولة” كما تكونوا يولى عليكم”تعني أنه اذا صلح الشعب صلحت القيادة أو الحاكم والعكس بالعكس . فدعونا نستعرض اراء الفريقين لعلنا نخرج براي يكون هو الارجح !!

ومما يؤيد مقولة” كما تكونوا يولى عليكم ما ورد عند الطبراني من طريق عمر وكعب الأحبار والحسن إنه سمع رجلاً يدعو على الحجاج فقال له : لا تفعل إنكم من أنفسكم أتيتم ، إنا نخاف إن عزل الحجاج أو مات أن يستولي عليكم القردة والخنازير ، فقد روي أن أعمالكم عمالكم ، وكما تكونون يولى عليكم . ورُوي عن كعب انه قال : إن لكل زمان ملكا يبعثه الله على نحو قلوب أهله ؛ فإذا أراد صلاحهم بعث عليهم مصلحا،وإذا أراد هلاكهم بعث عليهم مترفيهم . وقال الطرطوشي في سراج الملوك ( ص 197) في ” كما تكونوا يولى عليكم ” . لم أزل أسمع الناس يقولون : ” أعمالكم عمالكم كما تكونوا يولى عليكم ” إلى أن ظفرت بهذا المعنى في القرآن قال الله تعالى : ” وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ” [ الأنعام : 129 ]،وكان يقال : ما أنكرت من زمانك فإنما أفسده عليك عملك .

وقال عبد الملك بن مروان : ما أنصفتمونا يا معشر الرعية ، تريدونا منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم …..ا.هـ.

اما مقولة “الناس على دين ملوكها”.فهي موجودة منذ وجود اول دولة في التاريخ، وعندما اعتنق ملوك الغرب النصرانية اجبروا الناس على اعتناقها و حصل نفس الامر قبل ذلك في اليهودية وقصة ذي نواس واصحاب الاخدود مشهورة وحتى في زمن الوثنية كان الملوك يجبرون الشعوب على اعتناق الدين الذي يرونه الاصوب ” ما اريكم الا ما ارى ” و ” استخف قومهة فاطاعوه ” وربما على ظهورهم اركبوه ثم الهووه …وكان من يخالف دين الملك- ولو كان الملك ممن لادين له – ولازال … فانه كان يعد مارقا خطيرا على الامن القومي والسلامة العامة وله كل الويل والثبور وعظائم الامور ومصيره الزنازن والسجون …كالجفر والزرقاء والمحطة – وعلى ظهورنا اثار جودها العربي – والمزة وابو زعبل وسائر سجون ومعتقلات بلاد القهر والفقر والنقر… اوطاني!!!

ومن ناحية اخرى نلاحظ من دراسة تاريخ الشعوب السابقة والشعوب الحالية ان الناس مولعون بتقليد حكامهم فالشعب تبع للحاكم في صلاحه وفساده ، …. فمثلا ورد في في كتاب مطبوع اسمه: (لطائف المعارف)، لأبي منصور الثعالبي المتوفى سنة 429هـ:

“كان الأغلب على عبد الملك بن مروان حب الشعر، فكان الناس في أيامه يتناشدون الأشعار ويتدارسون أخبار الشعراء، وكان الأغلب على الوليد بن عبد الملك حب البناء واتخاذ المصانع وكان الناس في أيامه يخوضون في رصف الأبنية، ويحرصون على التشييد والتأسيس، وكان الأغلب على سليمان بن عبد الملك حب الطعام والنساء، فكان الناس في أيامه يصفون ألوان الأطعمة ويذكرون أطايبها، ويستكثرون من الحرص على أحاديث النساء، ويتساءلون عن تزوج الحرائر، والاستمتاع بالسراري، …الخ وكان الأغلب على عمر بن عبد العزيز حب الصلاة والصوم وكان الناس في أيامه يتلاقون، فيقول الرجل لأخيه: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ وبكم تختمه؟ وكم صليت البارحة؟ وهل أنت صائم؟ وكان يزيد بن عبد الملك يحب الخيل وكان الناس يتنافسون في اختيارها، ويتقربون إليها، باتخاذ الأجود والأحسن منها، وكان هشام بن عبدالملك يحب الثياب ونفائس اللباس وكان الناس في أيامه يتبارون في التجارة فيها، ويتواصفون أنواعها، وكان الوليد بن يزيد صاحب لهوٍ وشراب وسماع، وكان الناس في أيامه يتشاغلون في الملاهي ويترخصون في النبيذ ويقولون بالسماع، وقد صدق من قال: إن الناس على دين ملوكهم والسلطان سوق يجلب إليها ما ينفق فيها”.

والحق ان مقولة ” مثلما تكونوا يولى عليكم “… باطلة والوقائع والادلة العقلية تدحضها … فالملاحظ في كل الرسل رضوان الله عليهم والمصلحين في كل زمان ومكان انهم يظهرون لاصلاح الناس وتغيير واقههم الفاسد فاذا كانوا فاسدين كالناس فانهم سيكونون ضغثا على ابالة ويزيدون الطين بلة … ولهذا كان الانبياء والمصلحون مختلفون عن الناس ويحملون فكرا ارقى من فكر عامة الناس ..ويعملون لانهاض الناس الى مستواهم لا ان ينزلوا الى مستوى الناس من اجل كسب اصواتهم كما ترى في الانتخابات المعاصرة حيث نرى كثيرا من الحركات الاسلامية وغيرها تتنازل عن الكثيرها من مبادئها وثوابتها من اجل كسب الاصوات للوصول الى كراسي الحكم …

فمحمد عليه السلام رفض الحكم والملك على قريش مقابل التنازل عن شيء من الثوابت … ولذلك كان ابتداءا وحده في صف وكل العالم في صف اخر، لانه كان يحمل فكرا مناقضا لكل كل البشر انذاك ثم اصبح هو والثلة القليلة التي امنت به في صف وكل العالم في صف اخر … فلو كان محمد عليه السلام مثل قريش- اي لو صحت مقولة مثلما تكونوا يولى عليكم – لما حاربه القرشيون اشد الحرب .

وعليه نقرر ان الصواب ان الناس على دين ملوكهم اي حكامهم فالحاكم بما له من سلطة على الشعب يستطيع تشكيل الراي العام بالشكل الذي يريده ..وقد تقاومه القلة من الواعين ويكتب لهم النصر في بعض الاحيان اذا واتتهم ظروف مناسبة .. لكنهم قد يخفقون في كثير من الاحيان لاسباب كثيرة منها عدم مواتاة الظروف ومنها ضعف الايمان بفكرة التغيير ومنها قلة الوعي ..ومنها الكلل والملل والركون الى الارض … وهذا ما حصل منذ سقوط دولة الاسلام على يد المجرم اتاتورك- وامثاله من العرب والعجم – فقد حاول بعض المخلصين ايقاف اتاتورك عند حده ..ولكن الاخفاق كان نصيبهم لعوامل كثيرة ليس هذا مجال تفصيلها …

وهاهي امة الاسلام تعاني الامرّين حتى الان لان الناس على دين حكامهم وليس لان اتاتورك كان من جنس الامة ..فحاشى امة الاسلام ان يكون الزنديق الماسوني العميل للانجليز مثل الامة الاسلامية بشكل عام … فالامة بكت وناحت على ذهاب دولة الاسلام … لكن ضعف الوعي على الاسلام بالاضافة لعوامل اخرى جعلها اضعف من ان تقف في وجه الحاكم الذي لم يكن من جنس الامة …وكان ما كان …ولو كان اتاتورك .. من جنس الامة اي لو صحت مقولة” كما تكونوا يولى عليكم ” لاصبح الاسلام في خير كان…… منذ زمان !!!!!!!

منقول عن الأستاذ …. أحمد أبو المنذر ..