رحمة مهداة….حبه اتباع سنته

ربيع الأوّل.. لعلّه من أحبّ الشّهور إلى قلوبنا معاشر المسلمين. وكيف لا يكون كذلك وقد أذن الله فيه بولادة إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وسيّد ولد آدم أجمعين؛ أفضل من أقلّت الأرض، وخير من أظلّت السّماء. أطهر وأشرف خلق الله، وأكرم خلق الله على الله. وكيف لا نفرح في ذكرى مولده، وقد أنارت الدّنيا يوم خرج إليها، ورأت أمّه حين وضعته نورا خرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام؟

هذا هو الحبيب المصطفى

إنّه أتقى الأتقياء، وأخشى النّاس لربّ الأرض والسّماء؛ شيّبته هود وأخواتها بما فيها من المواعظ والعبر، وخوّفه تغيّر الأحوال من قدوم الآيات والنّذر، كان إذا هبّت الرّيح دخل وخرج مخافة أن يكون فيها العذاب، وإذا غيّمت السّماء عُرف الخوف في وجهه، خشية أن يكون فيها العقاب.

إنّه رقيق القلب، غزير الدّمع؛ لا تكاد دموعه تفارق مقلتيه إذا قرأ كلام الله، يبكي إذا ذكر الموت والمعاد، ويبكي إذا وقف على القبور والأجداث، مرّ يوما بأصحابه قد اجتمعوا حول قبر يدفنون ميتا، فوقف على شفير القبر يبكي حتى بلّت دموعه الثّرى، ثمّ قال: (أيْ إخواني، لمثل هذا فأعدّوا).

إنّه أعبد العبّاد، وأخشع الخاشعين؛ جعلت قرّة عينه في الصّلاة، وكان إذا حزبه أمر فزع إليها، وقال لمؤذّنه: (أرحنا بها يا بلال). كان يقوم اللّيل حتى تتورّم قدماه، ويبكي حتى تبلّ دموعه حجره، إذا قام في الصّلاة سُمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من الأنين، وربّما قام الّليل بآية واحدة يردّدها حتى يطلع الفجر.

إنّه أجود النّاس وأكرم الخلق؛ كان -صلوات ربّي وسلامه عليه- أجود بالخير من الرّيح المرسلة، يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، لا يدّخر شيئا لغد، ولا يردّ سائلا أبدا، وما قال لا قط إلا في تشهّده.

إنّه أزهد الزّاهدين؛ ينام على الحصير، ويرضى باليسير، عرضت عليه الدّنيا وعرضت عليه الجبال أن تجعل له ذهبا، فأبى، وقال: (بل أجوع يوما وأشبع يوما). يمرّ الشّهر والشّهران وما توقد في بيت من بيوته النار، وما هو إلا التّمر والماء، ما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز الشّعير حتى فارق الدّنيا. كان يظلّ اليوم لا يجد من التّمر الرّديء ما يسدّ به جوعته. يبيت الليالي المتتابعات جائعا، وأهله لا يجدون عشاءً. ربط الحجر على بطنه من شدّة الجوع، ودانت له جزيرة العرب، ومات ولم يترك دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أمة ولا عبدا.

إنّه سيّد المتواضعين؛ يمرّ على الصبيان فيسلّم عليهم، ويأتي ضعفاء المسلمين وفقراءهم يزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم. يضع طعامه على الأرض، يجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، ويردف العبد خلفه. يخصف النّعل، ويرقّع الثّوب. يؤتى بالتّمر فيه الدّود، فيخرج الدّود ويأكل التّمر. ما كان له حرّاس ولا حجّاب، ولا كان يغلق عن النّاس الأبواب.

كانت الجارية (البنت الصّغيرة) تأخذ بيده فتذهب به حيث شاءت. كان يكره أن يقوم له النّاس. ويجلس حيث انتهى به المجلس. وإذا قام مع أحد أصحابه لم ينصرف حتى ينصرف الصّحابيّ. يبدأ غيره بالسّلام، وإذا صافح أحدا لم ينزع يده حتى ينزع مصافحُه. يبتسم في وجه محدّثه حتى يظنّ أنّه أحبّ النّاس إليه. كان ينهى أصحابه عن الغلوّ فيه، فيقول: (لا تطروني كما أطرت النّصارى عيسى ابنَ مريم، إنّما أنا عبدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله).

إنّه أشدّ عباد الله حياءً. كان أشدّ حياءً من العذراء في خدرها. إذا كره شيئا لا يتكلّم به، بل يتغيّر وجهه فيعرف أصحابه كراهته لذلك الشّيء.

إنّه أيسر وأحلم عباد الله. ما خيّر صلوات ربّي وسلامه عليه بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه. ما غضب ولا انتقم لنفسه أبدا، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله، فإنّه يغضب لله وينتقم. ما ضرب بيمينه قطّ إلا في سبيل الله. بل ما نهر زوجة ولا عبدا.

الحبيب قدّم الدّليل على محبّته لنا، فما دليل محبّتنا له؟

لقد أحبّنا الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- وأشفق علينا، فادّخر شفاعته لنا ليوم القيامة؛ كان يبكي من الليل، ويقول: ياربّ أمّتي. يا ربّ أمّتي. بل وأحبّنا نحن الذين لم نصحبه، ولم يرنا، فكان يقول: (وددت أنّي لقيت إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني).

اتّهم بالسّحر والجنون، وصبر طلبا لرضا الله أولا، ولأنّه يحبّنا ثانيا. أوذي وطورد وشتم وحوصر، وأسيل دمه فصبر لأنّه يحبّنا. خنق خنقا شديدا، ووضع سلا الجزور على كتفيه، ونثر التّراب على رأسه، وتفل شقي من الأشقياء في وجهه. كلّ ذلك وهو صابر، طلبا لرضا الله أولا، ولأنّه يحبّنا ثانيا. رضخت رجلاه بالحجارة، وأدمي عقباه، وأسقط من فوق ناقته، وتلوّى من الألم، وأدمي وجهه وكسرت رباعيته، كلّ ذلك وهو صابر لله، لأنّه يحبّنا. صبر لأجل أن يبلّغ دين الله، ولأجل أن يُخرج العباد من الظّلمات إلى النّور، ولأجل أن نكون مسلمين.

أبعد كلّ هذا نغفل عن الصّلاة عليه، ونعصي أمره، ونهجر سنّته، ونقتدي بغيره! فيا ويحنا وقد أحبّنا وضحّى لينقذنا من العذاب. بأيّ وجوه سنلقاه على الحوض، وقد أصبحنا نستحي من سنّته، ونتحرّج من هديه، ونتهافت على سنن من كفروا به وسبّوه واستهزؤوا به؟ وبأيّ وجوه سنطلب يوم القيامة شفاعته، وقد خالفنا أمره وأهملنا وصاياه؟

كم مرّة في اليوم يصلّي الواحد منّا على النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- الذي أمرنا ربّنا -جلّ وعلا- بالصّلاة عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)؟ كم مرّة دعا الواحد منّا ربّه أن يرى الحبيب -صلّى الله عليه وآله وسلّم- في المنام؟ كم مرّة دعا الواحد منّا ربّه أن يلقى نبيّ الهدى والرّحمة -صلّى الله عليه وآله وسلّم- على الحوض؟ كم مرّة دعا الواحد منّا ربّه أن يسكنه الجنّة بجوار نبيّ الهدى عليه الصّلاة والسّلام؟

علينا أن نراجع قلوبنا مع محبّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. ونراجع أحوالنا مع طاعته واتّباع هديه وسنّته؛ فمحبّته -عليه الصّلاة والسّلام- فرض واجب، لكنّها تحتاج إلى دليل هو الطّاعة والاتباع: ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)). ومعصية النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- ومخالفة هديه وأمره ليست بالأمر الهيّن، يقول الله جلّ وعلا: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).