إرم ذات العماد

مرسلة من صديق نورت vip

بعد إنتهاء الطوفان ونزول نوح ومن معه من السفينة ، أخذ هؤلاء المؤمنون الذين نجوا معه يتزاوجون ويأتون بأولادٍ وبنات ، حتى كثر الناس وعمرت الأرض ونبتت الزروع وتكاثر الحيوان والطير وعادت الدنيا كما كانت قبل الطوفان .
ولما كثرت الناس تفرقوا فى الأرض وثكنت كل قبيلةٍ فى ناحية منها وملكتها وعمرتها ومن هذه القبائل الكثيرة كانت هناك قبيلة تُسمى ( عاد ) تسكن فى جنوب بلاد اليمن بالقرب من البحر فى وادٍ تحيط به المرتفعات الرملية .
وكانت الأمطار كثيرة فى هذا الوادى لقُربه من البحر كما كانت العيون تتفجر فى أرضه وتسيل مياهها .
ولذلك كثرت فيه المزارع والحقول والحدائق والمراعى وتكاثر الحيوان والطير وصارات هذه الجهة كأنها قطعة من الجنة .
وقد بنى أهلها مدينةً جميلةً كانت أحسن مدينة فى الدنيا فى ذلك الوقت ، فقد كانت بيوتها مُرتفعة على أعمدة ضخمة وطرقاتها فسيحة ومُزيّنةً بالحدائق والمُنتزهات ، وكانوا يسمونها : إرم ذات العماد ، التى لم يُخلق مثلها فى البلاد .
وكانوا هؤلاء الناس ضخاماً عمالقة أقوياء الأجسام ، أشدّاء جبّارين ، فبنوا الحصون والقلاع وأسسوا مصانع لنحت الأحجار وعمل الأسلحة وغيرها ، وطغوا وتكبروا لأنهم أقوياء لا يغلبهم أحد !
وكانوا يقيمون علاماتٍ للمرور فى الصحراء المُحيطة ببلادهم ولكنها كانت علامات كاذبة ! ليس غرضهم منها إرشاد المارّين إلى الطُرق المأمونة ، بل كان غرضها تضليل الناس والضحك عليهم ليتيهوا فى الصحراء ولا يعرفوا الطريق الصحيح .
وكذلك كانوا يخرجون لضرب الناس والإغارة عليهم بوحشية وقسوةٍ فظيعة ولا يرحمون أحدا ولا يشفقون عليه .
ثم نحتوا الأحجار وجعلوها أصناماً وقالوا إنها آلهة ، كما كان الكُفار من قوم نوح يصنعون قبل أن يغرقهم الطُوفان .
لذلك أرسل الله إليهم سيدنا هودا ، وهو واحد منهم لينهاهم عن عبادة الأصنام ويرشدهم إلى عباده الله وينصحهم بأن يتركوا القسوة والوحشية ويكونوا رُحماء بالناس فلا يؤذوهم ، ولا يقيموا العلامات الكاذبة فى الطريق لتضليل المارّين والضحك عليهم ، والسخرية منهم أو قتلهم وسلب ما معهم !
ذهب هود إلى قومه فقال لهم : يا قوم إنى لكم رسول أمين ، فأتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجرى إلا على رب العالمين .
قالوا : وما الذى تُريده منّا يا هود ؟
قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ؟
قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟
قال : يا قوم ، إن الله هو الذى خلقكم وأعطاكم هذه الأرض بعد أن أهلك قوم نوح ، وجعلكم اقوياء الأجسام وأمدّكم بما تعلمون ، وأمدّكم بأنعامٍ وبنين وجناتٍ وعيون .
قالوا : يا هود ، ألست رجُلاً منا ؟ فلماذا إختارك الله علينا ؟
قال : وهل تعجبون لأن الله أرسل إليكم واحداً منكم ليُردكم ويعلمكم حتى تتركوا الاعمال الرديئة التى تعملونها ، ولا تؤذوا الناس ولا تضربوهم ولا تٌقيموا العلامات الكاذبة ليضّلوا وأنتم تضحكون منهم وتسخرون !
قال الملأ الذين كفروا من قومه : إنا لنراك فى سفاهة ، وإنا لنظُنّك من الكاذبين .
قال : يا قوم ليس بى سفاهة ولكنى رسول من ربّ العالمين ، أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين .
قالوا : يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين . إن تقول إلا إعتراك بعض آلهتنا بسوء ، ولذلك أنت مُغتاظ من آلهتنا لأنها أساءت إليك وآذتك فتُريد منا أن نترك عبادتها ونعبد إلهُك .
قال : إنى أشهد الله أننى صادق ، وآلهتكم لا تستطيع أن تضُر ولا تنفع ، وأنا برئ منها لأنها أحجار وليست آلهة ، وأنا أنصحكم فقط حتى لا يغضب الله عليكم فيهلككم ويعذبكم .
قالوا : يا هود ، هل تُهددنا بالهلاك والعذاب ؟ فمن هو الذى يقدر على قتالنا ونحن قوم أشدّاء وليس هناك أحد يغلبنا .
قال : ياقوم ، إن الله الذى خلقكم هو أشدُ منكم قوة ، فهو الذى أعطاكم هذه القوة وهو قادر على أن يأخذها منكم ، ويرسل عليكم الهلاك والدمار .
قالوا : يا هود ، إذهب فقل لربك يرسل علينا الهلاك الذى تُهددنا به ، وسنرى إن كان يقدر علينا ، إذهب يارجُل إذهب فنحن لا نُصدق الكلام الفارغ الذى تقوله ، وإن كانت لديك مُعجزة فأظهرها لنا ، ونحن فى إنتظارك يا أخانا .
عرف هود أن الكفار من قومه لن يؤمنوا ، لأن قلوبهم أصبحت قاسية والنعمة التى هم فيها قد جعلتهم ينسون ربهم ويظنون أنهم أقوى من الله ، وإنه لا يقدر عليهم !
ودعا هود ربّه أن ينصره على قومه لأنهم كفروا وضلّوا .
عند ذلك حبس الله المطر عن قوم هود ومضت مدّه طويله لم تنزل فيها أمطار حتى جفّ الزرع ومات ، ولم تجد الأنعام والمواشى زرعاً تأكله ، فهُزلت ونقص وزنها .
وكان القوم يتلهفون على نزول الأمطار ، لأن المياه القليلة التى فى العيون والآبار لا تكفى إلا للشرب ولا يزيد منها شيئاً لرى الأرض والأشجار والحدائق والحقول والمراعى ، فذهبوا إلى آلهتهم وصلّوا لها ، ودعوا أن ترسل عليهم المطر بعد هذا الجفاف .
وكان هود يقول لهم : ياقوم ، آمنوا حتى يرسل الله المطر ويُنجّيكم من الضيق الذى أنتم فيه .
فيقولون له : لقد دعونا آلهتنا وسترسل لنا المطر قريباً ، فأذهب عنّا ، وإذا كان إلهُك الذى تقول عنه موجوداً ، فليصنع ما يُريد !
وفى يوم رأوا سحابة سوداء عظيمة مُقبلة فى السماء نحوهم : ففرحوا وهلّلوا وقالوا : هذه سحابه مُمطرة ألا ترونها سوداء كثيفة ، لقد إستجابت آلهتنا لدُعائنا فأرسلت لنا هذه السحابة العظيمة التى ستملأ الوادى ماء وتروى الحقول والمراعى ، يا فرحتنا ! يا فرحتنا !
وراحت جماعة تحرث الأرض وتُبذر الحبوب فى إنتظار المطر الغزير الذى سينزل ويروى الزرع .
وراحت جماعة أخرى تقول لهود : أين إلهُك يا هود ؟ لقد كنت تقول أدعوه لينزل عليكم المطر . فها هو ذا المطر قد أقبل فى هذه السحابة العظيمة ، وإلهُك لم يصنع شيئاً ، بل إن آلهتنا هى التى أرسلت لنا هذه السحابة المُمطرة التى تراها .
وراحت جماعة ثالثة ترقُص وتُغنى أمام الآلهة وتُصفق وتُصيح …
وبينما القوم فى فرحتهم ، هبّت رياح شديدة عاصفة تحطم الأشجار وتكسر الأسوار وتُكفئ القدور والأوانى وتحمل الحصى والرمال ، وتُعمى عيونهم ، وكانت ريحاً باردة تُبيس الجلود ، وتُجمد الأيدى والأرجل والآذان والأنوف .
فصرخ الكُفار ، وأنكفئوا على وجوههم ، ولكن الريح لم ترحمهم فإستمرت تُهب وتُدوى سبع ليالً وثمانية أيام ، حتى دمّرت كُل شئ وقتلت الناس والحيوان ، وأهلكت الزرع والثمار ، خربت هذه الأراضى العامرة فلم يعد فيها إلا جزوع الأشجار المُهشمة ، بجانبها جذوع الكُفار يابسة محطمة ، إلا هود فقد نجاه الله منها .
وكُل شئ قد إنتهى وزال ، ولم تبقى إلا البيوت الصخرية قائمة تقول : هنا كان يسكُن رجال عاد ، أولئك الضخام الشداد الذين بنوا ( إرم ذات العماد ) التى لم يخلق مثلها فى البلاد ، وقد أهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية ، سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حُسوما ، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجازُ نخلٍ خاوية فهل ترى لهم من باقية ؟

عبد الحميد جودة السحّار