نحن غرابا عكّْ، عكّْ، عكٌّ إليك عانيه، عبادُك اليمانيه، كيما نحجَّ الثانية !!
تلبية قديمة، لا أظنُّ أن أحداً شاهد فيلم “فجر الإسلام” دون أن تترك في ذاكرته صدي غريباً، ربما لما تنطوي عليه من غرابة المفردات، أصبحت مؤخراً “رنة” تليفون، لا أمزح والله، و هذه والله حقيقة، كنت شاهداً عليها، و إن كنت لا أعرف بالضبط كيف يعمل عقل ذلك الشخص الذي يختار “نحن غرابا عك عك” كرنة لتليفونه، أين نعيش بالضبط ؟!! ..
لعله الحنين المحتجز في الأعماق الخاملة لوثنية الأسلاف، و للطواف حول أصنام يعود لنا الفضل بالأساس في خلقها، وهو في الحقيقة طقسٌ لم نتوقف عن ممارسته في هذه البقعة الرديئة من العالم يوماً واحداً..
لكن تطوراً طفيفاً نحو الأسوأ قد حدث، فلقد تجاوزنا، لسوء الحظ، مرحلة الطواف حول أصنام من حجارة، مرحلة البدائية الوسطي تلك، ورجعنا مباشرة إلي مرحلة الهمجية الأولي، و أصبحنا ندور في دوائر مفرغة حول أصنام بشرية لا تملك من أمر نفسها شيئاً، لولا غباء الأغلبية، و لولا الدعاية السياسية التي تصورها كآلهة بشرية ضالعة في سماء حقيقية ..
غريبٌ أن الأعوام الماضية الكثيرة لم تحدث فارقاً يذكر بيننا الآن وبين قبيلة “عك” من قرابة “2000” سنة !!
و عكٌّ، قبيلة من قبائل اليمن، كانت، عندما تحج الكعبة، تقدم عبدين أسودين يقودان موكب الحجيج، يصيحان علي طول الطريق من اليمن إلي مكة :
– نحن غرابا عكّْ !!
و يردد الموكب خلفهما :
– عكٌّ إليك عانية !!
عانية، أي خاضعة ذليلة، وهي لفظ تسلل إلي القرآن أيضاً، ” و عنت الوجوه للحي القيوم”..
و “غرابا”، مثني غراب، و كلُّ من كان أسود ، و كل من كانت أمُّه أمةً سوداء، هو عند العرب “غراب” ، و أشهر من لقبوا بهذا اللقب ثلاثة، اجتمعوا علي تلقيبهم بـ “أغربة العرب”، وهم، “عنترة بن شداد” و أمه “زبيبة”، و “خفاف بن عمير الشريدي” و أمه “ندبة”، و “سُليك بن السُلَكة” و”السلكة” أمه..
مصرون نحن أن نبدأ من نقاطنا الخاصة، حتي بعدما ثبت فشلها، لا من حيث انتهي الآخرون، أولئك الذين توصلوا إلي القانون الأجمل للحياة منذ سنين طويلة، و لولا “الجزائر” الآن لتوصلوا إليه مبكراً، و لأدركوا مبكراً، و مبكراً جداً، أنهم ليسوا قاصرين لابد لهم من قائد يختبئون في ظله الكبير، و أدركوا أن الحاكم، أي حاكم، هو في النهاية موظف لإدارة شئونهم يستطيعون العصف به في أي وقت، و كل وقت ..
إن العالم ليعلم أن”الجزائر”، مدينة له بعقود وعقود من التخلف و الدوران في الفشل وعبادة الأصنام البشرية !!
قد يبدو هذا الكلام كالهذيان للذين لا يعلمون أن القائد القوطيَّ “ألريك”، عام “410 م”، اقتحم مدينة “روما”، مملكة الله، كما كان يعتقد المسيحيون في ذلك الزمان، و نهبها، و دفع الآلاف من سكانها إلي النزوح عنها خوفاً من القتل،
و كرد فعل ضروري علي ضياع مملكة الله، امتلأت الشكوك الهزيلة في صحة المسيحية كديانة نبيلة في عقول كل المسيحيين هناك، و راحوا يتساءلون بأصوات مسموعة عن هوية هذه الإله الذي لا يستطيع دفع البرابرة عن مدينته ..
بالإضافة إلي أنهم حتي قبل هذه الحادثة، كانوا قد بدأوا يضيقون باختبارات السماء و صرامة الكهنة، ويعصف بقلوبهم الحنين إلي حياة “روما” الوثنية التي كانوا يعرفون من أشعار “فرجيل” كل تفاصيلها،
كرنفالاتها الدائمة، و مسرحها، و حلبات المصارعة الرومانية، و أساطيرها، و آلهة الحصاد، و العذاري الفيستيات، و الإباحية الجنسية بشتي صورها ..
و انتشرت الشماتة في لهجات كل الذين واظبوا علي حراسة الوثنية و رفضوا الدخول في المسيحية، و اتهموا المسيحية بأنها السبب وراء ضياع روما، لأن الآلهة القديمة بسبب ما وجه إليها من إهانات الكهنة قد تخلت عن حماية “روما” !!
لقد لمس المسيحيون، أو كادوا، حقيقة أنهم قد استبدلوا أساطير أجدادهم و آلهتهم بأسطورة مستوردة من الشرق، وتنبهوا في ذلك الوقت لأول مرة إلي الجانب الأسطوريِّ في نشأة المسيحية و ولادة “يسوع” من عذراء، و هنا، تحديداً، استطاع القديس “أوغسطين”، ذلك الراهب الجزائريُّ، ترميم الفكرة المسيحية مجدداً !!
كان الحل بسيطاً، كتاباً أسماه “مدينة الله”، أقل من كتاب فلسفيٍّ و أكبر من مجرد تاريخ، ادَّعي فيه أن “مدينة الله” في السماء لا في الأرض، و أن ضياع “روما” لا يعيب المسيحية، و لكن المسيحيين لابد خاطئون و أن ما حدث هو عقاب سماويٌّ للخاطئين لا أكثر !!
تبرير سخيف، لكنه ينجح، لا تلمسوا شيئاً حتي تنهض مدينة “فلورنس”، و يتناثر غبار الشك من هناك علي كل أوروبا ليعصف في النهاية بالكنيسة، و بالمسيحية نفسها دون رحمة !!
انحدر القديس “أوغسطين”، أحد آباء الكنيسة البارزين، و شفيع الكهنة، من أصول أمازيغية ، و ولد في “تاجاست”، “سوق أهراس، في الجزائر الحالية”عام “354 م”،
كانت “تاجاست” تقع في إحدى مقاطعات مملكة روما في شمال أفريقيا، عندما بلغ الحادية عشر من عمره أرسلته أسرته إلى “مداوروش”، و هي مدينة نوميدية تقع علي بعد “30” كلم جنوبي “تاجاست”،
في عمر الـ “17”، ذهب إلى “قرطاج” التونسية لإتمام دراسة علم البيان، و هناك أصبح في عداد المهرطقين، و هناك أيضاً اتخذ امرأة ستكون عشيقته لمدة “15”عاماً، و يكون له ولدٌ منها، و اتبع الديانة “المانوية”، نسبة إلي مؤسسها “ماني”، خاذلاً بذلك أمه القديسة “مونيكا”، وهي مسيحية صالحة، ظلت تذرف الدموع “20” عاماً رغبة منها أثناء صلواتها في عودة ابنها إلي ديانته الأولي، لذلك السبب وحده، يلقب ذلك القديس بـ “ابن الدموع”..
و قايضت (السماء) دموعها ببذخ شديد، إذ لم يرجع ابنها مسيحياً فقط، إنما استطاع أن يؤجل ضمور المسيحية ألفية كاملة وبعض الألفية بفكرة نبتت في عقله بين جدران دير في مدينة “عنابة الحالية بالجزائر” !!
إن للجزائر أساطيرها الخاصة، وإبداعها القديم في نظريات الحكم، و أساليب تواصل هذيانها ..
و آخر نظريات الحكم في الجزائر هي “ولاية الفقيد”، و رغبة قبر حقيقيِّ في ترشيح شاهده لولاية رابعة، ليست هذه هي المشكلة، إنما المشكلة تكمن في أن هذا الشاهد بالتأكيد سوف ينجح، وكلنا من المحيط إلي الخليج، أو، من الماء إلي الماء، يعرف لغة الصناديق العربية !!
لا يخفي علي أحد أن معظم أعضاء جسد السيد “عبد العزيز بو تفليقة” توقفت تماماً عن أداء وظائفها، و توقف هو أيضاً عن أن يكون حياً، فهو بالفعل قد مات إكلينيكياً، و جف كل شئ فيه، حتي مخارج الحروف في حنجرته، لذلك، لا يستطيع أن يقول جملة متصلة من خمس مفردات دون أن يتوقف بين كل مفردة ومفردة ليلتقط أنفاسه كحبات شعير، أو بمعني آخر، دون أن يأخذ، كالإخوة السودانيين بعد أن يستيقظوا من النوم، (غسطاً من الراحة)، آآآآي !!
مع هذا، لم يجد الرجل غضاضة في أن يعلن ترشيح نفسه لرئاسة الجزائر، لولاية رئاسية رابعة، و هذه إهانة عظيمة لكل الإخوة الجزائريين، فهل جفت أرحام الأمهات هناك عن إنجاب صالحين للحكم بعد ميلاد السيد “بو تفليقة”، و ماتت القابلات ؟!
ما هي أوسمة الرجل التي تؤهله للحكم وهو ميت ؟
الجزائر إحدي الدول الفرانكفونية، ما في ذلك شك، حتي اللغة العربية، تخسر كل صباح ألسنة جديدة أمام زحف اللغة الفرنسية، و الجزائريون ينساقون وراء ولاء غامض لـ “فرنسا”، لكنهم، مع هذا، يحبون في “فرنسا” عرضها دون أن يتوغلوا في جوهرها، و يقرأوا تاريخها ..
“شارل ديجول”، بطل طبيعيٌّ، لا يحتاج أن يُعلِّلَ، أو يعلَّلَ إعلامه لماذا هو بطل، فبطولته تكفي بالقدر الذي يعصف بكل جهات الكلام من تلقائه ..
مَن مِن الفرنسيين لا يحتفظ بهذا الاسم في باله كوردة في البال، فهو الأب الروحيُّ للجمهورية الفرنسية الخامسة، و صاحب النبض الأكيد في انتشال “فرنسا” من هزيمة الحرب الثانية..
بالرغم من كل هذه الأوسمة الثرية، لم يشفع له تاريخه المشرف لدي الشعب الفرنسيِّ الذي تظاهر لإسقاطه عام “1968”، و هو من جانبه، قرر أن يجري استفتاء حول تطبيق المزيد من اللامركزية في “فرنسا”، وتعهد قبل إجراء الاستفتاء بالتنحي عن منصبه في حال لم توافق نسبة كبيرة من الفرنسيين على تطبيق اللامركزية في البلاد،
و أعلن في النهاية تنحيه عن منصبه مساء يوم “28” أبريل عام “1969”، لماذا ؟، لأن الموافقة على تطبيق اللامركزية ظفرت بنسبة أقل قليلا من النسبة التي حددها هو سلفاً !!
ما هي أوسمة السيد “عبد العزيز بو تفليقة” إذاً ؟!
إذا وجهت هذا السؤال لأحد مؤرخي البلاط في الجزائر، سوف يجيبك بأنه انتشل الجزائر من رحاب الحرب الأهلية و الخطر الذي كان يشكله الإرهابيون، و هذا جنوح عن الحقيقة..
فالمسألة لا تتجاوز منظومة من أقلية فاسدة و نافذة و معقدة، تنطلق للسيطرة علي الهامشيين من نقطة واحدة، و مناخ واحد، تدرك تماماً أن أي ريح جديدة تهب من خارج هذه المنظومة سوف تعصف من كل الجهات بالأوراق القديمة، التافهة، و تشكل منها خريفاً لا ربيع بعده ..
مع ذلك، هب السيد “عبد العزيز بو تفليقة” فعل ذلك فعلاً، هل هذا يمنحه الحق في الحكم الإلهيِّ حتي وهو “فقيد” ؟!
ولاية الفقيد، نظرية في الحكم لم تولد في ألفة الجزائر وحدها، فهي نابضة من المحيط إلي الخليج، و نابضة جداً، فمعظم الحكام العرب نعوش طارئة، لكنها اتخذت في الجزائر بعداً جديداً، فلم يحدث أن حكم ميتٌ شعباً من قبل،
أوقفوا بالله عليكم هذا العبث الذي يعصف بجمال الشرط الإنسانيِّ، وينتاب كاللعنة كل ما توصلت إليه الإنسانية في مسيرتها نحو الرقيِّ، ساعتها فقط، أبشروا بالارتباط برقيٍّ يدوم إلي الأبد ..