عقيدة..وتضحية..وحب..وفداء

 

مكث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً في مكة يدعو إلى الله على بصيرة، ويهدي الناس إلى الحق في تؤدى ومهل، ويفك أغلال القرون الأولى ليرد على البشر كرامتهم المفقودة، وما كرامة البشر إلا كرامة الفطرة السليمة والقلب المستنير والعقل الرشيد.

 

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في دعايته لدينه، سهلاً واضحاً مطمئناً إلى نصاعة الحق الذي شرفه الله به فهو يطلب من الناس إلا أن يمكنوه من شيء واحد.. أن يتركوه يلقي ما معه بين أيديهم وأن يسلطوا عليه أفكارهم بعدها! فإما قبلوه بعد، وإما رفضوه.

 

وهو لم يجنح في سبيل الانتصار لدينه أساليب الدعاية الملتوية، ولم يتكلف في تأليف أنصاره أو رد خصومه، وسائل الإغراء والإغواء، فإن ذلك ليس شرفاً للدعوات المعتادة، فما بالك بدعوة أودع الله في تعاليمها عناصر الديانات السابقة وأودع في قواعدها حاجات العصور المتلاحقة! لا جرم أنها أسمى مكاناً من أن تقوم إلا على الحق وحده.

 

وأين يستطيع الناس ميز الحق من الباطل؟ في جو الحرية النقي من شوائب الضغط والقسوة والاستبداد، في هذا الجو تتنازع المبادئ وتدافع الأفكار ولكن النتيجة محتومة{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ }، والأغبياء والطغاة يكرهون أبداً حرية الرأي، لأنهم يعيشون في ظلال الجدران التي تسجن وراءها كرامة البشر النفسية والفكرية.

 

وطالما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمشركين: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، فأبوا إلا أن يقولوا له: لنا ديننا وليس لك دين!

 

ومن ثم سُلطت القوة الجائرة لمحاولة إسكات الألسنة التي تجهر بالقرآن _ والقرأن هو يومئذ صحافة المسلمين التي تنطق باسمهم وتنافح عنهم _ واتبعت الطرائق الصبيانية للتشويش عليه وفض الناس عنه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، وكذلك سلطت الفتنة القاهرة على المستضعفين من المؤمنين، فشرد من شرد وقتل من قتل وشعر المؤمنون الباقون على عقيدتهم بالمغارم الفادحة التي تحل بهم، لكنهم صبروا على المكاره إيماناً واحتساباً وتطلعاً إلى ما عند الله.

 

هل كان القرآن جديراً بهذه المواجهة العنيفة التي قوبل بها؟

 

لقد كان شديد الحملة على خصومه حقاً، مبيناً لأباطيلهم ولكنه سلك في ذلك سبيل القوة الممزوجة بالنبل، والرجل النبيل إذا صرع خصمه لم يتركه على الأرض متعثراً في أذيال هزيمته، بل يسرع إلى الأخذ بيده قبل أن يستولي عليه شعور الخزي والمعرة في سقطته.

 

وهكذا فعل القرآن بأعدائه، فهو يلفت نظرهم إلى الضلال ويضع أيديهم على أخطائهم ثم يأبى أن يقول _ في شماتة _ للضال: إنك ضال أو للمخطئ : إنك مخطئ والآخر مصيب: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

 

على أن هذا كله لم يرق في نظر قوم يأبون الاعتراف بطرق الإقناع والإقتناع ويجمعون إلى جريمة الكفر فكانت خاتمة ثلاثة عشر عاماً في الدعوة إلى الله أن تشاور رؤساء قريش في نفي الداعي أو حبسه أو قتله!

 

ثم يستقر رأيهم على أن يقتلوه بطريق يهدر فيها دمه ويضيع بها ثأره.

 

هجرة بدين لا فرار من موت:

 

وأصبح أهل مكة وهم يرقبون صوت الناعي ليبشر دولة اللؤم والغدر والطغيان، أن عدوها قد لقي حتفه قبل أن يوردها حتفها، وهيهات، لقد خرج محمد صلى الله عليه وسلم لم يمسسه سوء، فإن الله العلي القدير لا يترك الحقائق العظمى تذهب قبل أن تأخذ مداها، وقبل أن تترك على تاريخ الأرض طابعها العميق، والدين الذي بعث به إمام الأنبياء هو أبو الحقائق العظمى وأمها، فهو باقٍ وأسباب حياته باقية معه ما دامت السموات والأرض.

 

نعم لقد أخرج محمد صلى الله عليه وسلم ليكمل الله به الرسالة التي لم تكن قد استوفت بعد جملة حقائقها، وعلم الطغاة الذين ألجأوه إلى الهجرة مدى الخطر المبيت لهم، وشعروا من الهواجس المنبعثة من أعماق نفوسهم أن الدائرة سوف تدور قريباً عليهم.

 

لقد هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ومن قبله أكثر المسلمين فهل كانت هذه الهجرة تهرباً من لقاء الموت؟

 

كلا، يدلك على ذلك أن هؤلاء المهاجرين كانوا وقود الغزوات والمعارك الكبرى التي دارت رحاها لهدم كل السلطات المستبدة عربية كانت أو غير عربية ولم يُؤثر عن مهاجر أنه تردد في مواطن الموت لحظة.

 

إذاً لما كانت ؟ كانت لأن الإسلام في هذه الفترة من تاريخه يتطلب أن يعيش له وأن يحيا من أجله كل فرد من أبنائه فضلاً عن الرجل الأول فيه محمد صلى الله عليه وسلم ، كان الإسلام يفرض عليهم أن يعيشوا من أجله حتى يكونوا له على ظهر الأرض أمة راسخة البناء ودولة سامقة اللواء، فإذا استقامة للدين الجديد أمته ودولته سُفكت الدماء وقُدم للدفاع عنها الفداء.

 

لقد كانت حياة كل مسلم قذاً في عين الكفر والكافرين فضلاً عن حياة المسلم اللأول عليه الصلاة والسلام، إذن فليتمسك المسلمون بحياتهم حتى يغرسوا نبت التوحيد في أرض الجزيرة وفيما حولها ولا عليهم بعد إذ غرسوه أن يرووه بدمائهم.

 

فما كانت الهجرة فراراً ولكنها انتصاراً وكذللك سماها القرآن الكريم:{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

شارك الخبر:

شارك برأيك

‫21 تعليق

  1. شَقَّ لَهُ مِنِ إِسمِهِ كَي يُجِلَّهُ *** فَذو العَرشِ مَحمودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ

    نَبِيٌّ أَتانا بَعدَ يَأسٍ وَفَترَةٍ *** مِنَ الرُسلِ وَالأَوثانِ في الأَرضِ تُعبَدُ

    فَأَمسى سِراجاً مُستَنيراً وَهادِياً *** يَلوحُ كَما لاحَ الصَقيلُ المُهَنَّدُ

    وَأَنذَرَنا ناراً وَبَشَّرَ جَنَّةً *** *****وَعَلَّمَنا الإِسلامَ فَاللَهَ نَحمَدُ

    وَأَنتَ إِلَهَ الحَقِّ رَبّي وَخالِقي *** بِذَلِكَ ما عُمِّرتُ في الناسِ أَشهَدُ

    تَعالَيتَ رَبَّ الناسِ عَن قَولِ مَن دَعا *** سِواكَ إِلَهاً أَنتَ أَعلى وَأَمجَدُ

    اللهم صلّ وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبهِ اجمعيييين

    موضوع رائع مشكوره اختي نور سلام

    1. عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم
      شكرا أماني، جعلها الله سنة تتحقق فيها كل أمانيك وأماني كل مخلص لهذه الأمة

  2. عام هجري سعيد للجميع، نستهله بشهر الله الحرام(محرم) وهو من الأشهر التي قال الله فيها((…فلا تظلموا فيهن أنفسكم))
    فأعوذ بك اللهم من أن أَظلم أو أُظلم أو أَزل أو أُزل..

  3. لقد كان شديد الحملة على خصومه حقاً، مبيناً لأباطيلهم ولكنه سلك في ذلك سبيل القوة الممزوجة بالنبل، والرجل النبيل إذا صرع خصمه لم يتركه على الأرض متعثراً في أذيال هزيمته، بل يسرع إلى الأخذ بيده قبل أن يستولي عليه شعور الخزي والمعرة في سقطته.
    ——————
    كلام جميل موضوع جميل يجعلنا نحبه اكثر و اكثر و نصلي علية في اليوم الف مرة.
    شكرا على الموضوع .

    1. أحيي فيك عمق النظر عند تصفح المواضيع، واختيار هذه الفقرة أكبر دليل
      نعم لانملك-ونحن نطلع على سيرته-إلا أن نحبه ونحاول السير على هديه مااستطعنا
      شكرا ستار

  4. شكرًا يا نور السلام على الكلام الجميل . مواضيعك دائماً قيمة .
    بارك الله فيك .

  5. الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً
    لك الحمد ياالله كمال ينبغى لجلال وجهك
    ولعظيم سلطانك
    سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك
    أنت كما أثنيت على نفسك
    وأشهد أن لا إله إلا الله
    وحده لاشريك له
    وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً
    عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله
    أرسلته ياالله بالحق
    رحمة للعالمين
    مبشراً ونذيراً
    بلسان صدق لا ينطق عن الهوى
    وهادياً للبشر أجمعين

    الأخوة والأخوات
    ها نحن نودع عام هجرى
    ونستقبل وبكل الترحاب
    عام هجرى جديد
    آملين من الله أن يكون عام خير ورخاء
    وسلام ورحمة
    على الأمة الإسلامية
    وعلى الكون بما حوى
    http://www.mekshat.com/pix/upload04/images179/mk22939_fsfsdfsfs.gif
    مشكوره اختي نور اند سلام
    الله يبارك بعمرك ^_^

  6. اللهم صل وزد وبارك على رسول الله…. حبيبي ونور عيوني يا رسول الله يا خير خلق الله…

  7. ما شاء الله صلى الله عليه وسلم اللهم اعز الاسلام والمسلمين بارك الله فيكي وجعله في ميزان حسناتك

  8. يا سيدي يا رسول الله معذرة
    يا من أقمت لنا بالعز بنيانا
    يا سيد الرسل والذكرى تمر بنا
    ذكرى تؤجج في الأحشاء نيرانا
    يا سيد الرسل الأيام شاهدة
    تروي لنا خيرا والله أبكانا
    تروي لنا كيف قد هاجرت مصطحبا
    خلاّ تراه على الأحداث معوانا
    هو الأمام أبو بكر وقصته
    في شأنها أنزل الرحمن قرآنا
    هاجرت لله لا خوفا ولا هربا
    وإنما كان هذا منك تبيانا
    للمؤمنين بان الله أيدهم
    بالنصر والنصر لما يأت مجانا
    إذن فلابد من صبر بلا جزع
    واليسر من بعد العسر قال مولانا
    وغادرا مكة ليلا وقد تركا
    لله أهلا وأحبابا وخلانا
    وهاجرا يسرعان السير فانطلقت
    جموع مكة في البيداء فرسانا
    وثاني اثنين إذ في الغار وحدهما
    والخصم قد صيرِّ البيداء ميدانا
    يقول في الغار لا تحزن لصاحبه
    الله ينصرنا الله يرعانا
    لله در رسول الله من رجل
    لم يعرف الضعف يوما ولاهانا
    ولم تكن تعرف التفريق أنفسنا
    بين الخلائق وإنما لغة القرآن تجمعنا
    ونجعل الكل في الإسلام أخوانا
    فلا تخالف فيها مصر تركية
    ولا تخالف فيها نجد وهران أجناسا وألوانا
    منقول

    أم منال,MOUDI,ANAS,LYDIA
    بارك الله بأعماركم وثبتنا وإياكم على طريق الحق

  9. اللهم صل وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى اله وصحبه ومن والاه.
    كــــــــــل عام وكل المسلمين فى شتى بقاع المعمورة بالف خير.
    ونتمنى يكون عام هجرى سعيد للجميع.
    مشكورة أخت نور وسلام، وتحياتى لكِ ولأولادك.

  10. ترك رسولنا عليه صلوات الله وسلامه ومن معه من المسلمين ديارهم وأرزاقهم وأهليهم في سبيل حفظ دينهم ومن بعدها قدموا أرواحهم في سبيل نشره ثم نحن اليوم نتقاعس عن أداء أبسط ما يمكن لنصرة هذا الدين بل حتى الالتزام به فإلى أين نحن سائرون ؟ شتان بين من هاجر تاركا وراءه كل ما تستطيب نفسه في سبيل الله ودينه الحق وبيننا نحن نرفل في الراحة ونتهاون كثيرا ثم نتساءل لم يصيبنا البلاء ونسأل الله النصر و……
    شكراجزيلا عزيزتي نور توقعت أن تبادري بإرسال موضوع يتعلق بالحدث بقي علينا نحن أن لا نكتفي بمعرفة الحدث وعبره بل تجسيده وتطبيقه .

    1. صح مليون في المائة
      الهم صل و سلم على سيد الخلق محمد صلوات الله عليه
      جزاكي الله خيرا الاخت نور

    2. لبنى اتمنى تكوني بخير وصحة وعافية والله بعتت لنورت موضوع يخص هذه الايام ولكن تتدلع للآن

  11. نعم اكيد صح شكرا سلام نور
    الهم صل و سلم على سيد الخلق و بارك الله بكم وبنا والله يثبتنا وإياكم على طريق الحق

  12. ما شاء الله بارك الله بك ونّور لك طريقك وايامك يا نورسلام موضوع جميل جدا
    اللهم صلي على نبيي وحبيبي ورسولي محمد عليه الف الصلاة والسلام
    وكل عام هجري وانتم وجميع المسلميين بخير وحيّاك الله اخت نور دايما مذهلة

  13. جزاك الله خيراً يا نور .. لا يكفي أن نتذكر هذه المناسبات وأن نُعايد بعضنا بها .. وإنما الواجب علينا أن نستخلص منها العبر والدروس كما فعلتِ .. وفي الهجرة دروس وحكم وعبر لا تنتهي ..شكراً لكِ واعذروني على تقصيري ..!!

  14. يكفي ان يفكر كل مسلم لو لم يقم المسلمون وقتها بالهجرة لتغير الكثير في مسيرة الدين الإسلامي لكن قرار الهجرة أنقذ الدعوة الإسلامية و اوصلها الينا و ما زال الدين الإسلامي يزدهر بعونه تعالى رغم العثرات فليفكر كل منا بهذه المناسبة ماذا قدم شخصياً لإعلاء دين الإسلام على الأقل فلنحاول ان نكون قدوة لأبناءنا و المقربين منا بحسن الخلق و حفظ اللسان و الإحسان الى ألآخرين
    شكراً نور السلام في إنتظار المزيد من مواضيعك المفيدة

  15. فاتي، لبنى، unknown، ورود، مأمون،فرح، نهى
    شاكرة لكم تدخلاتكم وإضافاتكم
    وتبقى الهجرة ذكرى للإعتبار والإستفادة ثم التطبيق، وليست قصة تتلى على مسامعا لنصفق في نهايتها ثم نفترق كل إلى بيته

ماذا تقول أنت؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *