تحقيقُ الرُّؤْيا

مرسلة من صديق نورت vip

لم يسمع يوسف كلام إمرأة العزيز ، لأنه ما كان يحبُّ أن يخون سيّدهُ الذى ربّاه ، فدبّرت له إمرأة العزيز مكيدةً عند زوجها ، وقالت له : إن النساء فى كُل مكان يتحدّثن عنى وعن يوسف حديثاً رديئاً ويقلن كلاماً مؤذياً ، فالأحسن أن يدخل السجن حتى يعرف الناس أن يوسف هو الذى كان يريد الإعتداء علىّ ولهذا سُجن .
عند ذلك أدخل يوسف السجن ودخل السجن معه فتيان ، فتعرفا به وصار الجميع أصحاباً .
وفى ليلةٍ نام هذان الفتيان ، فرأى كلُّ منهما حُلماً لم يعرفا له تفسيراً ، وفى الصباح طلبا من يوسُف أن يُفسر لهم الرؤيا .
قال أحدهما : لقد رأيتُنى فى المنام أعصرُ عنباً وأصنع منه خمراً وأسقى الملك .
وقال الأخر : رأيت على رأسى خُبزاً تأكل منه الطير ، فأخبرنا بتأويل هذا الحلم ، إنا نراك رجلاً طيباً وصالحاً .
فقال لهما يوسف : مهما رأيتُما من حُلم فإنى أعبّره لكما قبل وقوعه ، فيكون كما أقول ، وهذا من تعليم الله لى لأنى مؤمن به وموحد له ومُتّبع ملّة آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نُشرك بالله من شيئ .
يا صاحبى السجن … أيهما أفضل ؟ : أأربابُ كثيرون مُتفرقون لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً ، أو إله واحد عظيمُ قادر ؟
إن الآلهة التى تعبدونها آلهة كاذبة والله أمرنا أن نعبده هو لأنه خلقنا ورزقنا ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
” يا صاحبى السجن أما أحدكما فسيسقى ربّه خمراً ، وأما الآخر فيُصْلب فتأكل الطير من رأسه ” سورة يوسف ( 41 ) المقصود بـ يسقى ربّه ( أى سيّده )
وعرف يوسف أن سائقى الملك هو الذى سينجو من السجن ، فقال له : أذكر أمرى وما أنا فيه من السجن دون ذنب عند الملك .
خرج ساقى الملك من السجن ، وصُلب الرجل الآخر ، كما قال يوسف ، ولكن الساقى نسى أن يذكر الملك أمر يوسف ، فبقى فى السجن عدّة سنين .
وفى ذات ليلةٍ نام الملك ، فرأى فى نومه أنه جالس على شاطئ النهر وقد خرجت منه سبع بقراتٍ سمينة ، ثم خرجت بعدها سبع بقراتٍ هزيلة ، فذهبت البقرات الهذيلة إلى البقرات السمينة فأكلتها ، فقام الملك من نومه مفزوعاً ، ولما ذهب خوفه عاد إلى نومه فرأى فى الحلم سبع سُنبلاتٍ خضر تأكلها سبع سنبلاتٍ يابسات ، فقام من نومه وهو خائف .
وفى الصباح جمع الملك رجاله وقصّ عليهم ما رآه فى حلمه ، فلم يعرف أحدهما كيف يفسر هذا الحلم ، عندئذٍ تذكر الساقى أن يوسف يُجيد تفسير الأحلام ، فقال للملك :
أرسلنى ليوسُف فى السجن وأنا أفسر لكم هذا الحلم .
فأرسلة الملك ليُسف ، فقال له :
” يوسفُ أيها الصدّيقُ أفتنا فى سبع بقراتً سمانٍ يأكُلهُنّ سبع عجاف وسبع سُنبلاتٍ خُضرٍ وأخر يابساتٍ لعلىّ أرجع إلى الناس لعلّهم يعلمون ” سورة يوسف ( 46 )
فقال له يوسٌف : ستأتى سبع سنواتً يكثُر فيها الزرع والثمار ، ثم يأتى بعدها سبع سنين يقل فيها الزرع والثمار ، فعليكم أن تزرعوا بإجتهاد سبع سنوات فإذا حصدتم القمح فأتركوه فى سنبله ، إلا القمح الذى تحتاجون إليه لتأكلوه ، فإذا جاءت السنين التى لا زرع فيها أكلتم مما أدخرتم فى سنوات الرخاء ، ثم تأتى بعد ذلك سنةُ رخاءٍ يعصر فيها الناسُ العنب والقصب والسمسم ويشبعون ويتمتعون .
وعاد الرجل إلى الملك وذكر له ما قاله يوسف ، فأعجب الملك به وأرسل ساقيه إلى يوسف ، وأمره أن يحضره ليكون من أصحاب الملك ، فلن يقبل يوسف أن يذهب إلى الملك قبل أن يثبت له أنه حُبس ظلماً ، فقال للرجل :
إذهب للملك واسأله أن يحضر النساء اللاتى قطعن أيديهن ، ويسألهن عن حقيقة ما حدث منّى ، ليعلم أننى برئ مما نُسب إلىّ .
فأرسل الملك إلى النسوة وسألهن عن يوسف ، فقلن :
إنه رجل كريم ، ولم يحدث منه شيئ قبيح ورأت إمرأة العزيز أن الحق قد ظهر فقالت :
أنا طلبته لنفسى ، ولكنه إمتنع ، إنه برئ ، وإنه حُبس ظُلماً .
فلما علم الملك بذلك ، عرف أن يوسف رجل ذكى وأمين ، فرأى أنه يستفيد من علمه وأمانيه فقال : ائتونى به .
وجاء يوسف وكلم الملك ، فظهر له أن يوسف ذكى ومخلص وأمين ، فقال له :
إنك اليوم مُعزز مُكرم .
فقال له يوسف :
إن البلاد مُقبلة على رخاءٍ ثم جذب ، فأجعلنى على خزائن الدولة ، لأننى أمين على ما تحت يدى ، أصرفة فى الصواب وأحفظ الباقى لأيام الشدّة .
أصبح يوسف وزيراً للملك وأصبح كُل شيئ فى يده .
ومرت سنوات الرخاء وجاءت سنوات الشدة فأخذ يوسف يوزع على الناس من القمح الذى أدخرة من أيام الرخاء ، وأحسنت البلاد بالشدّة فكان الناس يأتون من البلاد المجاورة لمصر ليأخذوا حاجاتهم .
وفى ذات يوم دخل إخوة يوسف عليه ، فعرفهم ولم يعرفوه ، فما كانوا يحسبون أن يوسف يصبح وزيراً وسألهم :
كم عددكم ؟
نحن إثنا عشر رجلاً ، ذهب منّا واحد وصغيرنا عند أبينا .
فأكرمهم وأطعمهم ثم قال لهم : اذهبوا فأتونى بأخيكم معكم لأعطيكم ما طلبتم ، فإذا لم تاتونى به ، فلن أعطيكم شيئاً .
فقالوا : سنجتهد فى مجيئه معنا .
وذهبوا يستعدون للعودة ، فأمر يوسف خدمه أن يضعوا لإخوته بضاعتهم التى جاءوا بها ليبادلوا عليها بالقمح فى أوعيتهم .
فعادوا إلى أبيهم ، فلما قابلوه قالوا له :
إن لم ترسل معنا أخانا فلن يعطونا شيئاً .
فقال لهم : إننى لا آمن عليه أحداً ، وأخشى أن تفعلوا به ما فعلتم بيوسف .
فقالوا : يا أبانا إنا ما نقوله صحيح ، وهذه بضاعتنا التى أخذناها لنبادل عليها قد ردّها الوزير ولم يقبلها .
فقال : لن أرسله معكم حتى تحلفوا لى أن تحافظوا عليه ,
فحلفوا أن يحافظوا على أخيهم وأستعدوا للذهاب إلى مصر ليحضروا منها القمح ، فقال لهم أبوهم : لا تدخلوا المدينة من بابٍ واحد بل إدخلوها من أبوابٍ مُتفرقة .
قال لهم هذا لأنه كان يخشى أن يُصيبهم شر ، فلا يُصيبهم كلهم فى وقت واحد .
وسافروا حتى إذا دخلوا على يوسف ، أخذ يوسف بنيامين بعيداً ، وقال له :
أنا أخوك يوسف ، فلا تذكُر ذلك لإخوتك .
فسُرّ بنيامين بلقاء أخيه ، فأراد يوسف أن يأخذ بنيامين منهم فقال لخدمه : ضعوا سقاية الملك التى يشرب بها فى متاع بنيامين .
فوضعوها .
وحزم إخوه يوسف أمتعتهم ، وحملوها الجمال وخرجوا .
عند ذلك نادى عليهم أحد الحُرّاس قائلاً : إنكم لسارقون .
فعادوا نحو المنادى وسألوا : ماذا ضاع منك ؟
فقال : سرقتم سقاية الملك الذى يشرب بها .
فقالوا : فتشونا ، فما جئنا لنسرق .
فقال : وما جزاء من وُجدت معه ؟
قالوا : جزاؤه أن تاخذوه أسيراً .
وجاء يوسف وفتش أمتعتهم قبل متاع أخيه ، ثم فتش متاع أخيه وأخرج منه سقاية الملك ، وأخذ أخاه جزاءٍ على وجود السقاية فى متاعه .
وقال إخوته : ” إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ” سورة يوسف ( 77 )
فعرف يوسف أنهم يقصدونه ، ولكنه لم يستطيع ان يرد عليهم ، حتى لا تنكشف حيلته ، وقال فى نفسه : ” أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون ” سورة يوسف ( 77 )
فتذكروا أنهم حلفوا لأبيهم أن يحافظوا على أخيهم ، فقالوا ليوسف :
” يا أيها العزيز ، إنا لهُ أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه ، إنا نراك من المُحسنين ” سورة يوسف ( 78 )
فقال : ” معاذ الله أن ناخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ، إنا إذاً لظالمون ” سورة يوسف ( 79 )
فلما يأسوا أن يأخذوة إجتمعوا يتشاورون ، فقال كبيرهم : لقد حلفنا أن نحافظ عليه ، ولا أستطيع ان أقابل أبانا وبنيامين ليس معى .
فقالوا له : وماذا ستفعل ؟
فقال : سأبقى هنا حتى أرد أخى ، او يأذن لى أبى بالعودة .
فقالوا : وماذا نفعل نحن ؟
فقال : ” إرجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إنا إبنك سرق وما شهدنا إلا بما عملنا وما كنا للغيب حافظين ” سورة يوسف ( 81 )
فعادوا إلى أبيهم ولما سألهم عن بنيامين ذكروا له ما حصل ، فلم يصدقهم فقال لهم :
إن إبنى لا يسرق .
قالوا : إسأل الناس الذين كانوا معنا ، فقد إشنهر هذا الأمر بينهم .
فقال لهم : لقد فعلتم به ما فعلتم بيوسف ، وإنى أرجو أن يأتنى الله بهم جميعاً .
حزن يعقوب على بنيامين وتجدد حزنه على يوسف ، وأخذ يبكى حتى فقد بصره ، ولاحظ أبنائة كثرة بكاءه … فقالوا له : ستظل تذكر يوسف وتبكى عليه حتى تضعف أو تموت فالأفضل أن تترك البكاء .
فقال لهم : لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ، إنما أشكو إلى الله وأعلم أن الله سيرحمنى ويخلصنى مما أنا فيه ، يا بنى إذهبوا وإبحثوا عن يوسف وأخيه ولا تيئسوا من الفرج بعد الشدّة لانه لا ييأس من فرج الله إلا الكافرون .
عاد إخوة يوسف إلى مصر يطلبون من العزيز أن يتصدق عليهم ، ويعفوا عن أخيهم ، فلما دخلوا عليه قالوا له : يا أيها العزيز أصبحنا فى حال شديدة ، وليس معنا إلا بضاعة رديئة ، فأعطنا مما عندك ، وتصدّق علينا بردّ أخينا .
فقال لهم يوسف : ” هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ” سورة يوسف ( 89 )
فنظروا إليه طويلاً ثم قالوا : ” أإنّك لأنت يوسف ” ( 90 )
قال : ” أنا يوسف وهذا اخى قد منّ الله علينا ” ( 90 )
قالوا له : والله لقد فضّلك الله علينا ، فسامحنا فيما فعلناه معك يا اخانا .
فقال : لا تخافوا فلن أعاقبكم على ما كان منكم ، واليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .
وسألهم عن ابيه ، فقالوا له : لقد فقد بصره من كثرة البكاء عليك .
فخلع قميصه وأعطاه لأخيه الذى كان قد قال لهم : لا تقتلوا يوسف وألقوه فى الجُب ، وقال له : إذهب بقميصى هذا وألقيه على وجه أبى يات بصيراً وأتونى بأهلكم أجمعين ، ليعيشوا هنا فى مصر فى هذا الرخاء العظيم .
وقف يعقوب ينتظر عودة أبنائه ، فلما قربوا ، إستنشق الهواء بقوة ، وقال لمن حوله : إنى أشم رائحة يوسف .
فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : ستعود إلى الوهم القديم ، لقد مات يوسف وأكله الذئب من سنين .
ووصل أبناء يعقوب ، فوضعوا قميص يوسف على وجهه فرجع إليه بصره ، وقال لأولاده : ألم أقل لكم ، إنى أعلم أن الله سيجمع شملى بيوسف .
قالوا : يا أبانا ، إستغفر لنا ربنا .
قال : سوف أستغفر لكم ربى ، إنه هو الغفور الرحيم .
حمل يعقوب أهلة وذهب إلى مصر ، وقبل أن يبلغها ، قابله يوسف فى الطريق ، وأكرم أبويه وسار معهما حتى إذا وصل إلى مصر قال لهم : ” ادخلو مصر إن شاء الله آمنين ” يوسف ( 99 )
ودخل يوسف وجلس على كرسيه ، فانحنى له أبوه وأمه وإخوته تعظيماً له ، فقال يوسف لأبيه : ” يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبلُ قد جعلها ربّى حقاً ” يوسف ( 100 ) وجعلنى حاكماً بعد ان اخرجنى من السجن ، وجاء بكم من الصحراء ، بعد أن فرق الشيطان بينى وبين إخوتى ، إن ربى إذا أراد شيئاً أوجد أسبابه وحققه .

عبد الحميد جودة السحّار …