ليس وراء اختيار هذا العنوان رغبة في امتصاص عيون أكبر عدد من القراء ، كما قد تذهب بأصحاب الحد الأدني الظنون ، فالقصة حقيقية و بطون الكتب حبلي بكل تفاصيلها ، و رائجة ..
لا أعتقد أن طفلاً وُلِدَ لعائلة مسلمة لم تكن قصة ” أصحاب الفيل ” من الإملاءات الأولي التي تلقاها في طفولته ، و القصة مشهورة ، ” أبرهة الأشرم “، أو ” أبرهة بن الصباح ” ، بني كعبة في ” الحبشة ” ، كنيسة ” القليس ” ، أراد لها أن تكون القبلة الأقليمية الوحيدة ، بالإضافة إلي عدة ذرائع أخري أفرط الرواة في العبث بعقول المؤجلين بذكرها ، لذلك ، انعقد عزمه علي هدم كعبة ” مكة ” ، دون أن يدور بباله أن للبيت رباً يحميه ، سوف يرسل عليه طيراً أبابيل ، تحمل حجارة من سجيل ، تجعله و جيشه كعصف مأكول !
و دون حتي أن يدور بباله أن فيله الورع سوف يخذله ، و يرفض المشاركة في هذه الجريمة البشعة ، و يبدو أن أفيال ذلك الزمان كانت أعقل بكثير من أفيال زماننا التي لا تعقل و لا تفرق بين ما هو حلال و ما هو حرام ، و لا ترتدي الجوارب ولا النظارات الطبية ، و هي تأكل الحشائش بخراطيمها مباشرة ، لا تستخدم الملاعق و لا الشوك و لا السكاكين!
الغريب ، أن مؤلف هذه الأسطورة خلع بكل بساطة علي فيل ” أبرهة ” اسم ” محمود ” ، و أكد في الوقت نفسه أن أول وعاء بشري في التاريخ حمل اسم ” محمد ” هو ” محمد بن عبد الله ” !
و هكذا ، يشعرنا هذا الجو الأسطوري الحار بأننا نعيش بخيالاتنا في صميم مكان مقدس ، تحميه قوي غامضة و جبارة ، و هي صورة لا ترمز إلي القداسة بل هي القداسة المجسدة ، و هي ، إذا ثبتت صحتها ، بمقدورها أن تجعل المرء يسير إلي الإسلام كما يسير إلي نبع الماء ، لكن ، لكي يحدث هذا ، يجب أن تزال عوائق كثيرة في الطريق إلي نسبة هذه القصة إلي التاريخ الحقيقي لا تاريخ الأدب !
فإن من الحماقة أن ننساق في تفسيرات قرآنية لتفاصيل هذا الحدث قبل أن نبدي الدهشة من خفوت ذكر هذه القصة في آداب العرب الموثوق في صحة نسبتها إلي الجاهليين !
و أن يمر هذا الحدث الجلل دون أن يلهب أحاسيس شعراء تلك الفترة لهو أمر يضع غابات من أشجار علامات الاستفهام المعمرة خلف سؤال بسيط ، كيف بلغ الغباء بالعرب الذين عاشوا ذلك الحدث الجلل أن يتجاهلوا حدوثه بهذا الشكل ؟ ..
إن فيلم ” الطيور ” لـ ” ألفريد هيتشكوك ” ، احتل عند ظهوره ، في عالم لم يعد فيه شئ يحتاج إلي تأويل ، كل لهجات الناس و ملأ الدنيا ضجيجاً !
من الجدير بالذكر ، أن هناك شعراء لمسوا في أشعارهم هذا الحدث علي استحياء ، و لكن ، يمكن لكل امرئ تربطه علاقة بالشعر أن يدرك ببساطة أنها أشعار حديثة العمر ، انساق قائلوها خلف رواية القرآن للحدث ، فالمفردات رخوة ، و الصور لا تعكس شيئاً من خشونة البداوة ، و الأساليب مطروقة يمكن أن نردها ببساطة إلي التماهي مع شعراء صدر الإسلام ، و من هذه الأشعار أبيات ينسبونها إلي ” عبد الله بن الزبعري ” ، يقول فيها :
تنكلوا عن بطن مكة إنها / كانت قديماً لا يُرامُ حريمُها
لم تخلق الشعرى لياليَ حُرِّمت / إذ لا عزيز من الأنام يرومُها
سائل أميرَ الجيشِ عنها ما رأى / و لسوف يُنبي الجاهلين عليمُها
ستون ألفا لم يئوبوا أرضهم / و لم يعش بعد الإياب سقيمُها
كانت بها عادٌ و جرهم قبلهم / و الله من فوق العباد يقيمها ..
سائل أمير الجيش ، و الله من فوق العباد ، كلمات تفتت نسبة هذا الأبيات إلي ” ابن الزبعري ” إلي غبار ، فأمير الجيش ، المفردتان معاً ، نكاد لا نعثر لهما علي أثر في أدب الجاهليين ، و هو مصطلح اسلاميٌّ أو يكاد!
و الله من فوق العباد يقيمها ، عجز بيت تصح نسبته إلي كل شاعر ما عدا ” عبد الله بن الزبعري ” ، فهو الشاعر الذي كرس شعره حتي النهاية لهجاء ” محمد ” ، نبيِّ الإسلام ، و هو القائل في هجائه ، في بيت من أبيات قليلة نجت من المصادرة :
أبعثٌ ثم حشرٍ ثم نشرِ / حديثُ خرافةٍ يا أم عمرو !
و هناك أبيات ينسبونها إلي ” أبو قيس بن الأسلت الأنصاري ” يقول فيها :
و من صنعه يوم فيل الحبُوش / إذ كلما بعثوه رزمْ
محاجنهم تحت أقرابه / و قد شرموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه مغولا / إذا يمموه قفاه كلم
فولى وأدبر أدراجه / و قد باء بالظلم من كان ثم ..
الحبوش ، قفاه ، انخرم ، أقسم بربات الشعر أن هذا الهذيان لا تصح نسبته حتي إلي ما قيل من شعر أيام ضعف الشعر في العصر المملوكي !
و من شعر نسب إلي ” نفيل بن حبيب ” حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :
حمدت الله إذ أبصرت طيراً / و خفتُ حجارةً تلقى علينا
فكلُّ القومِ يسألُ عن نفيلٍ / كأنَّ عليَّ للحبشانِ دينا ..
و هناك أيضاً ، شعر يمس أسطورة الفيل منسوب إلي ” الفرزدق ” و يشبهه ، و إلي ” عبد الله بن قيس الرقيات ” ، و هي نسبة صحيحة ، لكن كلا الشاعرين من شعراء صدر الإسلام رأي كلاهما الحدث في ضوء القرآن لا أكثر ..
و نلاحظ ، علي الفور ، في كل ما وصل إلينا من الماضي ، القريب بالتأكيد ، أن الفيل هو محور الحدث ، و لا نعثر علي شئ يخص الطير الأبابيل إلا فيما نسب إلي ” نفيل ” ، و هما بيتان تلمع فيهما صناعة الشعر كالخنجر، و لعلهما يحملان بصمة ” حماد الراوية ” ، كيف ؟
و لماذا نستشهد بالأدب و هناك رواية متواترة أكثر وفاءاً ، و رواجاً ؟
مما لا شك فيه أن حدثاً عظيماً كهذا الحدث ، لولا أنه خرافة ، كان يجب أن يكون الحدث الأبرز في ألسنة العرب و مجتمعاتهم ، و يجعلون منه نقطة يلجأون إلي الانطلاق منها لتأريخ أحداثهم الهامة ، كأن يقولوا ” فلان ولد بعد عام الفيل بعام ” أو ” فلان تزوج بعد عام الفيل بعامين ” ، أو ” معركة كذا حدثت بعد عام الفيل بكذا ” ، لكن هذا لم يحدث ، إنما كانوا يؤرخون لمناسباتهم بـ ” يوم شعب جبلة ” ، و هو يوم انتصر فيه ” بنو عامر ” علي كل العرب مجتمعين تقريباً ، و هذا ثابت !
شئ آخر ، كان يجب أن ينبه وقوع ذلك الحدث نظرية القداسة لبناية ” مكة ” في عقول أهل ” الحبشة ” ، غير أن هذا لم يحدث ، ولم يحدث أن اختزنته ذاكرة أدبهم ، و لا التقطه المؤرخون في ” فارس ” المجاورة ، و أعتقد ، أن ” أبرهة ” لو أصيب بـ ” الحصبة ” في الطريق إلي ” مكة ” ، لا طيور تلقي بحجارة من نار ، و ” محمود ” دفعته التخمة بالورع و التقوي إلي أن يتذمر من هدم حجر ، و ” ألف ليلة و ليلة ، قصة كل ليلة ” ، أقول ، لو أصيب بـ ” الحصبة ” فقط ، لأقام المؤرخون الدنيا و لم يقعدوها !
لكن ، من أين استمد ” محمد ” أسطورته هذه ، ما هو النبع ؟! ، إنها أساطير اليونان بمجرد انكماش السؤال!
فكل ما ورد في مؤلف ” محمد ” من أساطير ، كتحريف اسم ” يسوع ” إلي ” عيسي بن مريم ” ، و قصة ذي القرنين هي استعارات أدبية واضحة لأصابع الأسطوريين الإغريق ، و الكاتب ” روبرت جريفز ” في كتابه ” الميثولوجيا الأغريقية ” ذكر العمل السادس الموكل إلى ” هيراكليس ” ، و هو طرد الطيور آكلة لحوم البشر المكرسة إلى الإله ” آريس ” ، إله شهوة الدم و القتل حتي جذور الأعصاب ، هذه الطيور التي كانت تملك مناقيراً و أجنحة و مخالبَ من البرونز ، كما يقول الإغريق في آدابهم ، لرعبها من ذئاب وادي الذئاب في طريق ” أوركومينوس ” ، هربت إلى مستنقع ” أستينفالوس ” ، حيث كانت تتكاثر فيه و تسبح أيضا في نهر ” أستينفالوس ” !
و من آن لآن كانت هذه الطيور تطير في جماعات لتقتل الناس و الحيوانات مصوبة نحوهم ، مثل المطر، ريشها البرونزي ، و تطلق في نفس الوقت برازها السام فتتلف و تدمر به محاصيل الحقول !
من الجدير بالذكر أن هذه الطيور كانت تعيش في صحراء ” شبه جزيرة العرب ” ، و تخترق صدور المسافرين !
و لماذا كل هذا الدوران حول أسطورة ، و تفسير الماء بالماء ، ما دامت المقاييس الحقيقية للمقدسات ، و لكل الأشياء ، لا تظهر إلا بتماسكها و صمودها في شتي الأزمنة و الأمكنة ، و ما دام هناك حدث آخر و أكثر ، في زمن آخر و أكثر ، يقتلع هذه الأسطورة من جذورها ؟!..
لقد كان ” بنو تميم ” يعيشون في مكة ، و سرقوا أشياء البيت و انتهكوا حرمته ، و بسبب ذلك ، طردوا من هناك إلي مضاربهم البعيدة ، و كان الضغط علي هذه الحادثة البعيدة هو أقسي ما يوجه من هجاء إلي شعراء بني تميم ، مثل ” جرير ” و ” الفرزدق ” ..
لكن الحدث الذي يفصح بوضوح عن أسطورية الحكاية برمتها ، كان سرقة الحجر الأسود من ” مكة ” و حمله إلي ” البحرين ” دون أن يتعرض ” القرامطة ” لأذي هذه الطيور الغريبة !
في الواقع أن أي ربط بين قصة ” أبرهة الأشرم ” و بين قصة ” أبرهة القرمطي ” ، أقصد ” أبو طاهر الجنابي ” ، يجب أن يؤدي إلي تشويه نظرة المسلم إلي ” سورة الفيل ” و الإضرار بتفسيره للقرآن ككل !
و القرامطة ، حركة شيعية شعوبية ولدت في ” إيران ” ، و ترهلت بفضل ” أبي سعيد الجنابي ” حتي احتلت ” البحرين ” و ” القطيف ” و ” الإحساء ” ، و لعل هذا يكفي بالقدر الذي يفسر غلبة المذهب الشيعي علي هذه المنطقة حتي الآن !
و تمددت تلك الحركة بفضل قائدها الفذ ” الأعصم القرمطي ” علي أرض ” الشام ” ، و كادت أن تقتحم ” مصر ” !
كانت لتلك الحركة نظرية اقتصادية تستحق التقدير ، بل انتبه ” القرامطة ” إلي أساليب اقتصادية اعتبر الإنتباه إليها فيما بعد حدثاً هاماً ، لكن ، لسوء الحظ ، لم يحدق التاريخ النظر إلا في الجوانب السيئة التي اعتمدها المنتمون إلي هذه الحركة ، ربما ، لأنهم أفرطوا في مهاجمة الحجيج و قتلهم بدم بارد و نهب أموالهم ، و سبي النساء ، حتي قيل أن ” أبا طاهر سليمان الجنابي ” قتل منهم ثلاثين ألفاً في أسبوع واحد ، و ألقي بجثثهم في بئر زمزم !
أريد قبل أن أواصل أن أترك الرحالة الفارسي ” ناصر خسرو القبادياني ” يصف لنا الأفق الذي شهد هذه الأحداث ، فرائحة المكان مهمة لاستشراف أي مشهد ، و الرائحة جزء أساسي من ذاكرة المكان ، يقول :
( في آخر سنة ” 442 هـ ” ، بعد تأدية فريضة الحج دخلت مدينة الإحساء ، وهي مدينة ذات أسوار عظيمة ، تضم المزارع و ألارياف داخلها ، و لها أربعة أسوار ، كل واحد يحيط بالآخر في شبه دائرة كاملة ، و المسافة بين السور و الآخر قرابة فرسخ ، و تكثر العيون في الإحساء ، و على كل العيون سواقي ترفع الماء تسقي المزارع ، و مدينة الإحساء تتوسط هذه الأسوار العظيمة ، و يوجد بها من الإمكانات كل ما يراه المرء في كبريات المدن ، و عدد جيش المدينة أكثر من عشرين ألف جندي ، و يزعمون أن حاكم المدينة شريف من الأشراف قد منع الناس من تأدية شرائع الاسلام و قال لهم قد رفعت عنكم الصلاة و الصيام ، و أخبرهم أن لا مرجع لهم في أمور الدين غيره ، و اسم حاكم الأحساء ” أبو سعيد ” ، و إذا سئل أحد الاحساء عن مذهبهم أجابوا : نحن ” بوسعيديون ” ، و لا يصلون و لا يصومون ، وقبر ” أبو سعيد ” في الإحساء ، و عليه مشهد كبير ، و يرابط على قبر ” أبو سعيد ” ، مؤسس الاسرة الحاكمة ، فارس على صهوة جواده ، و يتناوب الجند حراسة ذلك القبر ليلاً نهاراً ، و هم يتوقعون انبعاث ” أبي سعيد ” من القبر ، لذلك ، وضعوا على القبر فرساً مطهماً في غاية الزينة و الأبهة ليركبه الأمير إذا قدر له أن يبتعث من قبره ، و يقول أهل الإحساء أن ” أبا سعيد ” قال لأبنائه و هو على فراش الموت : إنني سأبعث و أعود إليكم بعد موتي ، فإذا لم تتعرفوا عليَّ فاضربوا عنقي بالسيف فإنني سأحيا مرة اخرى ، و قد قال ” أبو سعيد ” هذه المقولة حتى لا يجرؤ إنسان بعد موته على الإدعاء أنه ” أبو سعيد ” )
إنه يتحدث عن قوم ليس لهم صلة بالإسلام من قريب و لا من بعيد ، بل لا يقلون كفراً عن ” أبرهة الحبشي ” ، و كان لهؤلاء القوم عادة توثق كفرهم ، رواها ” محمد بن عبد الله آل عبد القادر ” في كتابه ” تحفة المستفيد بتاريخ الإحساء في القديم والجديد ” ، يقول :
” و من عوائد القرامطة القبيحة المشهورة ” ليلة الماشوش ” ، و هي ليلة عيد لهم تجتمع فيها النساء و الرجال ، فيغنون و يلعبون و يشربون الخمور ، فإذا انتشوا أخذ كل رجل امرأة ممن يليه من النساء فقضى حاجته منها ، و استمرت هذه العادة فيهم ثم زالت بزوالهم “
كأننا في محفل ماسونيٍّ ، و كأن ” جاك سونيير ” بطل رواية ” شيفرة دافينشي ” يمارس و رفاقه الجنس الجماعيَّ كطقس من طقوس العبادة !
و هذه رواية حقيقية ، فلقد ورد في شعر تلك الفترة بيت يؤكد صجتها ، أو يضيف للرواية رواية أخري علي أقل تقدير ، يقول الشاعر :
مِنَّا الذي أبطل الماشوشَ فانقطعت / آثاره و انمحى في الناس و انطمسا ..
لذلك ، إذا تجاوزنا ” الحجاج بن يوسف ” ، رائد ” أبي طاهر الجنابي ” في الاستهانة ببناية ” مكة ” و إحراقها ، لا يملك المرء إلا أن يعجب من ازدواجية معايير السماء ، إذ أرسلت ( الطير الأبابيل ) لتعصف بجيش ” أبرهة ” ، ربما لأنه أسود ، يا لعنصرية السماء ، و تركت ” أبا طاهر الجنابي ” ، الأشد منه كفراً، دون عقاب !
فكما أراد ” أبرهة ” أن يحول وجهة الحجيج إلي الحبشة ، اقتلع ” أبو طاهر الجنابي ” الحجر الأسود ” ، و نقله إلي ” البحرين ” ، ليحول وجهة الحجيج إلي هناك ، و لم تشفع توسلات الخليفة العباسي في ” بغداد ” و لا وساطة الفاطميين في المغرب لدي ” أبرهة القرمطي ” لرده ، و ظل هناك ” 22 ” سنة ، كان الحجيج خلالها يقبلون أثره !
آلهة إلا الله ..
ربما ، كان من أصداء ذكري هذه المرحلة ، أن بعض سكان قري ” مصر ” ما زالوا حتي يومنا هذا لا يأكلون ” القرموط ” ، و هو نوع من أنواع السمك ، و يزعمون أنه يحيض كما تحيض النساء ، هذه إحدي الروايات التي حفظتها عن أبي ، لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي ..