أيام حاشدة بأوجاع المصريين ، وما أتوقعه ويغرد لي به البوم صباح مساء عن بشاعة وجه مصر القادم يجعل أوجاع الحاضر تنسحب إلي ركنها كمجرد بطر لا يستحق الإفصاح عنه أو الشكوي ،،
أكره الغربان ، لكن الكاتب لابد ألا يكون دبلوماسياً ، فإذا كانت إحدي مهام الدبلوماسية هي أن تضفي علي الواقعية مهما كانت بشاعتها ظلال الأخلاقية ، فإن جوهر مهمة الكاتب بالأساس هي أن يضئ الواقع كما هو من جميع جوانبه دون اللجوء إلي سجع الكهان أوالبديع أوالمجاز ،،
هذا الموقف الرخيص عندما لا تري العيون أو تحتشد الآذان حتي عند سماع خبر موت طفل بالرصاص الحيِّ وهو يدافع عن حريته موقف لا يليق بمصر ، لكنه يليق جداً بالمصريين ..
مصر أم الدنيا ، حقيقة لا تقبل القسمة علي اثنين ، وهتبقي أدّ “العباسية” ، حقيقة معلقة وقابلة للتفتيت إلي شكوك في الوقت نفسه !!
فما عاد أحد في مصر الآن يتحسس ولو بضآلة ما يحدث من علامات سيولة في ذاكرة المصريين الكلية تعكس في الذاكرة علي الفور تفاقم أعداد الذين يفكرون في الطرقات بصوت مرتفع في السنوات الأخيرة من حكم طهماز الزمان وكل زمان “مبارك” ، علي الرغم من أن التفكير بصوت مرتفع في الطرقات أول نذر الجنون ،،
المصريون جماهير بعرض التاريخ وعلي طول الاستكانة المَرَضيِّة ، حقيقة يلمسها منذ السطور الأولي كل من قرأ تاريخهم ،،
والمصريون أيضاً شعب ساخرٌ بطبعه ، أوتار مشدودة علي الدوام استعداداً للتضحية حتي باللياقة في سبيل الضحك ، وحتي بالحقيقة في سبيل الثرثرة ،،
وبما أن أيسر الطرق لملء المسافة بين عقل وفكرة هي مخاطبة المستهدفين بما يحبون ، سأحكي “نكتة” :
مواطن مصري سكِّير ، اعتاد العودة إلي منزله وهو يترنح سكراً عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، واعتاد في الطريق إلي منزله أن يترك قدميه تسبحان في بحر الرصيف من ضفة إلي الضفة الأخري بحرية ، لا يتوقف أو يستدير حتي يرتطم بحائط الرصيف ، تأخر ذات يوم حتي الساعة الرابعة صباحاً ، وسألته زوجته الثائرة في غضب :
– بترجع كل ليلة الساعة اتنين بعد نص الليل ، اتأخرت ساعتين ليه ؟
فأجابها بلهحة السكاري ، وبكل بساطة :
– أصل البلدية وسَّعت الرصيف !!
وهكذا الحال في مصر الآن ، فالنظام يدفع الفجوة إلي الاتساع عن عمد ، وبعصبية ، وهذا سوف يقتضي بالضرورة الوصول المتأخر، الوصول المتأخر إلي ماذا ؟ ، إلي نسخة أخري من “مبارك” بالتأكيد الزائد عن الحد ، متي يحدث هذا ؟ ، سوف يحدث هذا بعد أن تتمرغ في الوحل مفردة “ثورة” في ذاكرة الغالبية العظمي من المصريين ..
وإذا كنت تظن أن النظام يكترث لاتساع هذه الفجوة ، أو تظن أن النظام يريد فعلاً التخلص من الإخوان المسلمين ، فأنت ، أعزك الله ، حمار !!
فإذا حدث هذا ، ما هي إذاً ، يا أعزك الله ، ذريعته لاستمرار قانون سئ السمعة وضروري لكل ديكتاتور في الوقت نفسه كقانون الطوارئ ، علي الأقل في هذه المرحلة المهمة لتكريس مفهوم الثورة كمفهوم سئ السمعة ؟!
الأفق السياسيُّ مسدود ، وهذا واضح أكثر مما ينبغي ، ولابد أن يتكاتف كل المصريين الشرفاء لإحداث “خرم” في هذا الأفق السياسي ، وكي لا يقول قائلٌ : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ، سأبدأ بنفسي ، وأعلن مبادرتي للحل !!
لقد فكرت أولاً في “لحس البشعة” كوسيلة للخروج من الأزمة ، ثم تراجعت ، لا لشئ سوي أن هذه الطريقة تنطوي علي بعد غير أخلاقي لا يتماشي مع أمة ذات حضارة عريقة كأمتنا !!
ثم استقر عقلي أخيراً علي “المبارزة” كوسيلة للخروج من الأزمة الراهنة ..
صحيح أنه أسلوب قديم لحل مشكلة بين طرفين ، لكن ، صحيح أيضاً أنه أسلوب اعتمده الإنسان فيما سبق لحسم الكثير من النزاعات الشائكة ، الأوربيون علي وجه الخصوص في العصور الوسطي وحتي وقت غير بعيد ، بدايات القرن الماضي تحديداً ، جين كان المصريون يقولون : من حال المبتدا ، وبديع جداً ، ومركون زي ازازة الخل ، وكان “سعد زغلول” يذهب إلي مكتب المحاماة الخاص به علي ظهر حصان ،،
وأشهر مبارزات أوروبا حدثت في القرن ال “16” ، وكانت بين اللورد “جرناك” واللورد “شاسا دينوريه” ، وكان الأخير مبارزاً مشهوراً وصديقاً مفضلاً لدى الملك ، واستطاع “جرناك” أثناء المبارزة أن يجرح خصمه “شاسا دينوريه” الذي نزف حتى مات ، فحزن الملك كثيراً على فقدانه ومنع جميع المبارزات التي كانت تقام لإظهار الحق ، ومنذ ذلك الوقت أصبحت “المبارزات” تقام بطريقة سرية ،،
العرب أيضاً عرفوا المبارزة كأسلوب لحسم النزاعات ، والأمثلة كثيرة ، لعل أشهرها وأكثرها طرافة هو ما حدث في موقعة “صفين” بين “الإمام علي” و “معاوية بن أبي سفيان” ، تأمل “الإمام علي” و “معاوية بن أبي سفيان” ، وأقسم بالعطر أن مسار القلم من تلقائه هو الذي حدد قيمة الرجلين عندي ..
لقد طلب “علي بن أبي طالب” من “معاوية” أن يبرز له ، فهما جوهر المعركة ، فلماذا يتقاتل الناس من أجلهما ويقتلون ، ولماذا لا يحسمون النزاع بإقصاء أحدهما للآخر قتلاً ، وهي مبارزة نتيجتها كانت معروفة ، فلم يحدث أبداً وحتي نهايته غير اللائقة أن خسر “عليٌّ” مبارزة ، لذلك ، سكت “معاوية” ولم يرد ، فقال له “عمرو بن العاص” ، ربما ليتخلص منه ويرث الأمر من بعده :
– لقد أنصفك الرجل ، اخرج اليه !!
فأجابه معاوية بلهجة من أدرك ما وراء الكواليس :
– طمعتَ فيها بعدي !!
لكن المبارزة مصرية الجذور ، وفي وقت مبكر كنت أسخر من الذين يردون كل شئ إلي جذور فرعونية ، لكنها الحقيقة ، ولمصريتها صدي تركه الفراعنة علي جدران معبد بمدينة “حور” قرب الأقصر ، وهو من عصر الملك “رعمسيس الثالث” ، يظهر فيها المبارزان ممسكين بأسلحة مغطاة عند طرفها ، يرتديان أقنعة لحماية الوجه تشبه إلى حد كبير الأقنعة الحديثة ، كما ظهر بالنقوش المشاهدون والحكام الذين أمكن التعرف عليهم عن طريق ملابسهم وعصا طويلة في نهايتها ريشة الطاووس تعرف بالعصا ذات الريشة لا يمسكها إلا القضاة والحكام ..
كما أن لعبة التحطيب الحية حتي الآن ، بل الرائجة ، ما هي إلا ذكري لهذه المرحلة ،،
ومن الجدير بالذكر أن اسم هذه اللعبة في الصعيد “سوَّا” ، وحتي وقت قريب كان هذا الاسم بالنسبة لي لغزاً غامضاً ، فهي كلمة لا تقبل التماهي مع أي مفردة في اللهجة الجنوبية سوي كلمة “سوَّة” وهي “الخاصرة” في لهجتنا ، وهذا بالطبع لا ينبه نظرية ، فما علاقة الخاصرة بالتحطيب ، ثم عثرت مؤخراً علي جذور هذه المفردة ، إنها بالفعل مفردة هيروغليفية قاومت الذوبان عبر العصور ، تعني ” نبات الحلفا البرِّي” ، هذا أيضاً لا ينبه نظرية ما لم نعرف أن “نبات الحلفا البرِّي” كان شعار الجنوب في حربه الظافرة علي شمال مصر الذي كان شعاره “النحلة” ، وأرجو ألا يدفع أحداً كون “مصطفي بكري” من الجنوب للتشكيك في هذه الحقيقة المؤكدة ، مع ذلك ، مخطئ من ينتظر شيئاً يخص الثورة يأتي من الصعيد ، فلقد نجحوا بأساليب رخيصة أن يفتتوه قبوراً طارئة !!
ومما يلفت الانتباه أن تكون “النحلة” شعار الشمال ، كأن أهل الشمال “نايتي” وأصحاب مناحل ومهن سهلة منذ عصور سحيقة ..
وكما أن السرطان هو المرض الخبيث بالنسبة للإنسان ، و”الشبشب” هو المرض الخبيث بالنسبة للصراصير ، فالمبارزة هي المرض الخبيث بالنسبة لشعراء روسيا !!
“ألكسندر بوشكين” ، أمير شعراء روسيا ، بالإضافة إلي أنه كاتب روائي و مسرحي مطبوع ، قتل في عمر مبكر من جرَّاء مبارزة مع أحد أصدقاء زوجته “ناتاليا جونشاروفا” ، وهو البارون “داتين” ، أحد اشراف الفرنسيين ، بدافع الغيرة علي الشرف طبعاً ، والشك في سلوك زوجته ، وهذا الشك ترهل في روحه بعد أن اقترن البارون بأخت “ناتاليا” ليسهل عليه الاتصال بها ، وانتهى الامر بأن طلب “بوشكين” المبارزة ، وفي الساعة التي اتفقا فيها على المبارزة أطلق النار عليه مرتين فأصيب بإصابات خطيرة لقي علي إثرها مصرعه ،،
ورثاه الشاعر “لرمنتوف” بقصيدة أدمت قلب روسيا كلها ، قال فيها :
مَاتَ الشَّاعر / سَقَطَ شهيداً / أسيراً للشرفِ / الرصاصُ في صدرِه يَصرُخُ للانتقام / والرأسُ الشامِخُ انحنى في النهاية / مَات / فَاضَت رُوحُه بالألَمِ من الافتِراءات الحًقيرة / حَتَّى الانفِجَار / وَقَفَ وحيداً في المواجهة وها قد قُتل / قُتِل / فَكُلُّ نُوَاحٍ الآن عَقيم /وَفَارِغةٌ تَراتِيلُ الإطرَاء / وَهَمهَمَات الأسَى الكَسِيح / ونحنُ نُحملقُ في إرادةِ الموت ..
قد يظن البعض أن السبب في إقدام “بوشكين” علي ارتكاب مثل هذه الحماقة يعود إلي جذوره الأثيوبية ، فوالدته “ناديشد أوسيبافنا” كانت حفيدة “إبراهيم هانيبال” ، وهو أثيوبيٌّ ، وأحد الضباط المقربين لدى القيصر بطرس الأول ، وهنا تحديداً مصدر إلهام “بوشكين” في ديوانه الشهير “زنجيُّ بطرس الأكبر” ، لكن هذا الظن غير صحيح ، فالغرور الزائد عن الحد ، ذلك الغرور الذي يدفع الإنسان إلي عدم مراقبة العواقب قبل الإقدام علي أي أمر ، عرف دارج في طباع الروس ، وهو غرور غير مبرر علي كل حال ،،
فالروس ليسوا المقاتلين الشجعان بطبعهم ، ولكن اتساع مساحة بلادهم وصعوبة السيطرة علي هذه المساحة الهائلة أضفي علي سكانها نوعاً من المنعة ، وألهب انطباعات الآخرين باتهامهم بالشجاعة ، “ونستون تشرشل” اتهم “نابليون” كما اتهم “هتلر” بالجنون لمجرد التفكير في غزو روسيا ، الكاتب الأمريكي “آرثر ميلر” ، وزوج “مارلين مونرو” أيضاً قال مثل هذا عند زيارته الأولي لروسيا ، وهذا حقيقي ، فبالرغم من أن “نابليون” توغل في روسيا حتي استطاع أن يربط خيوله في “الكرملين” إلا أنه خسر في النهاية المعركة وفقد ثلثي جيشه جراء تفشي الطاعون ، وهذا كان أيضاً مصير “هتلر” ..
هذا الغرور تلمسه بكل بساطة في أدبهم ، قال ديستويفسكي يوماً :
“الروس ، أولئك الذين سيكون علي يديهم خلاص العالم” !!
ولعله لم يتفقد ذاكرته جيداً قبل أن يقول هذا الكلام ، أو لعله تناسي أن هؤلاء الذين سيكون علي يديهم خلاص العالم كانوا يظنون حين قرروا الحرب علي اليابان أنهم ذاهبون في نزهة ، وكان الجنديُّ في الجيش الروسيِّ يودع أهله قائلاً :
– لست ذاهباً للقتال ، إنما للنزهة ، سألقن الأقزام السود درساً ثم أعود محملاً بحكايات المدفأة عن هذه النزهة ، حتماً سأعود !!
وكان الجنود يغنون علي طول الطريق ويرقصون ويتزلجون علي الجليد كأنهم بالفعل في نزهة ، وأخيراً بدأ القتال ، وبعد ساعات قليلة من بداية المعركة ، أصبح ثلث الذين سيكون علي يديهم خلاص العالم في عداد القتلي أو الأسري أو المفقودين !!
“ليرمنتوف” أيضاً ، شاعر روسيا الكبير الذي رثي “بوشكين” ، شبهوه يوماً بالشاعر الإنجليزي “بيرون” فقال :
“لا ، أنا لستُ بيرون ، أنا مختار آخر مغمور ، مثله ، غريب يلاحقه العالم ، و لكن يكفيني أن لي قلباً روسياً “
من المؤسف أن بعض الحاقدين علي هذا الشاعر الذي يحمل بين جوانحه قلباً روسياً قد استطاعوا أن يدفعوه إلى المشاركة في مبارزة مع ابن السفير الفرنسي “بارانت” ، أبدي خلالها شجاعة نادرة ، لكن القيصر “نيقولاي الأول” رفض تكريمه على الرغم من الشجاعة الفائقة التي أبداها في ساحة القتال ، ليس هذا فقط بل نفاه ، وبعد عودته من الإجازة توقف “ليرمنتوف” في “بياتيجورسك” للعلاج ، وفي هذه المنطقة تشاجر الشاعر مع زميله في الدراسة “مارتينوف” وقتل في مبارزة معه !!
يبدو أننا ابتعدنا عن المبادرة مسافة تقطعها الطائرة في ساعات كثيرة ، مع هذا ، فهذا الارتفاع ضروري لنري المشهد من أعلي ، فلنعد ،،
لا شك أن المعركة في مصر بالأساس هي معركة بين طرفين لا ثالث لهما ، “د.مرسي” والجنرال” السيسي” ، فلماذا يتقاتل المصريون من أجلهما وهما جوهر النزاع ، ولماذا لا نترك الرجلين يحسمان المعركة بإقصاء أحدهما للآخر قتلاً ؟
كل ما نحتاجه لحسم المعركة لصالح أحدهما هو حلبة للمبارزة ، وقضاة أجانب ، وجماهير ، وسيفان ، فاستخدام المسدس كأداة للمبارزة غير منصف بالنسبة للدكتور”مرسي” تماماً كاستخدام “الفلزات” كأداة للمبارزة بالنسبة لـ “عزيز مصر” بلهجة هذا الزمان ، وكما قال “أبو تمام” :
السيفُ أصدقُ إنباءً منَ الكُتُب ِ / في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللَعِب ِ !!
ولعل الحظ يحالفنا ، ولعلهما ، كما كانوا يقولون قديماً ، يختلفان في ضربة ٍ يلقي علي إثرها كلاهما مصرعه ، وتكتشف الحرية مصر مجدداً ،،
وأنهي كلامي هذا ، أو مبادرتي هذه ، بالرجاء من أجل التفهم السليم من الجميع ، وأخذها بعين الاعتبار ..