“رقصها فيه جمال أكثر ما فيه إثاره، معنى أكثر ما فيه إستعراض، وكنت أحس أنها مش هي اللى بترقص، ده كل جسمها، فكرها بيرقص، وشخصيتها بترقص، وكأنها وهي بترقص بتحكي حدوته بجسمها، حدوته عن الإنسانية، فيها النعومة وفيها القسوة، وفيها الرقة، كأنها ممثلة، وكان رقصها فعلاً يثير، ولكن كان يثير التأمل، والإعجاب، والإحساس بالإنسان، وكأنها تبعث الفرح”.
هكذا وصف المفكر الكبير الراحل محمود أمين العالم، تلك المرأة التي إستطاعت، منذ أن ذاع صيتها في مطلع أربعينات القرن الماضي، أن تتربع على عرش أخر العظماء في تاريخ الرقص الشرقي في مصر، والعالم العربي.
وعلى الرغم من أن عشاق فنها الراقي، لم يعرفوا عن حياتها، سوى جانب الرقص، والتمثيل، إلا أنها كانت تمتلك مساحة كبيرة من حياة أخري، لم تسلط عليها الضوء، وهو جانب النضال الوطني، أنها، “بدوية محمد علي النيداني”، صاحبة الإسم الفني اللامع في سماء الرقص الشرقي، تحية كاريكا.
كانت البداية، من قلب مدينة الإسماعيلية، إحدى المدن المصرية الحديثة، التي سبق وأن أسسها الخديو إسماعيل، على الطراز المعماري الأوربي، لكي تصبح قطعة من أوربا.
تلك المدينة، التي إنقسمت مع مرور الوقت، إلى مدينتين، يفصل بينهما شارع الثلاثيني، إحداهما يسكنها الإجانب من الفرنسيين والإنجليز وغيرهم، والأخرى يقطنها المصريون والعرب، خاصة أبناء منطقة الشام والحجاز، الذين حضورا إلى المدينة بحثاً عن فرصة أفضل للعيش.
وكان من بين هؤلاء محمد علي أبو العلا النيداني، الذي تزوج للمرة السابعة والأخيرة، من أرملة تصغره بأربعين عاماً تدعى، فاطمة الزهراء، وقبل هبوب رياح ثورة 1919م، بأيام قليلة، أثمرت هذه الزيجة عن إنجاب إبنتهما “بدوية محمد”، في 22 فبراير من عام 1919م، والتي إطلق عليها والدها هذا الإسم نزولاً عن رغبة والدته، التي كانت ترغب في تسمية المولود الجديد بإسم السيد البدوي.
وعقب وفاة والدها، لم تلقى “بدوية” الحب والرعاية، من إخوتها غير الأشقاء، سوي من أخيها “مرسي””، الذي غمرها بالحب والإهتمام، وكانها إبنته، أكثر من كونها أخته، حتي أنه إصطحبها مع أولاده، إلى مدرسة “السبع بنات”، إلى أن أضعفه المرض، وأصبح غير قادر على حماية “بدوية”، من براثن إخوته، خاصة أخيه أحمد، الذي أشعل النار في الهشيم، ذات ليلة، لكي يقنع جدته، بمنع أخته الصغيرة من الذهاب إلى
المدرسة بحجة، أنها تذهب إلى الكنيسة، -لكونها إحدى مدارس الراهبات-، ما جعل جدته، تمنع”بدوية”، من الذهاب إلى المدرسة، قائله، “أنا هجيب لها شيخ يعلمها القرآن والعربي هنا في البيت”.
وتمضي الأيام؛ لتجد “بدوية” نفسها تحت سيطرة أخيها أحمد مرة أخري، ولكن هذه المرة في منزله، الذي أخذها إليه مرغمه، لتقبع على خدمة زوجته “المالطية”.
عانت بدوية من قسوة العيش مع شقيقها، الذي تفنن هو، وزوجته، صاحبة المزاج الحاد، في تعذيبها، بداية بكيها بالنار، ومروراً بضربها، وقص شعرها.
وفي السابعة عشر من عمرها، جاءت اللحظة الحاسمة، عندما قام أخيها، وزوجته، بتوثيق أرجلها في عمود السرير خشية أن تهرب “بدوية”، إلى والدتها، لكن أبن أخيها عثمان، أشفق على حالها، وفك وثاقها، وساعدها على الهرب من سطح المنزل، وأعطاها كل ما يمتلك من المال، وكانوا أنذاك خمس تعريفات.
لم تجد “بدوية”، وعثمان، وسيلة للهرب، إلا عن طريق سطح منزل أخيها، والقفز إلى “منور”، أحد الجيران، ونصحها عثمان بالقفز والهرب، ورغم ترددها وخوفها الشديد في بداية الأمر، إلا أنها أتخذت قرار بالقفز، ما جعلها تشعر بألام شديدة، تسببت في عجزها عن الحركة من داخل”المنور”، لمدة يومين، بدون طعام أو شراب.
وفي الوقت الذي شاع فيه خبر هروب بدوية، وظل أخيها يبحث عنها في كل أرجاء الإسماعيلية، كانت “بدوية”، تقاوم أوجاعها، في محاولة للوقوف على قدميها، وإرتواء عطشها، لكن الألم إشتد عليها، ما جعلها تسقط على الأرض فاقده الوعي.
أفاقت “بدوية”، لتجد نفسها على سرير جارتها الحنونة، أم رجب، التي أشفقت عليها، هى وزوجها، أبو المعاطي، إلا أن إستردت عافيتها.
خمسة ليالي قضتها، “بدوية”، في منزل أم رجب، إلا أن سمعت حوارها مع زوجها الذي قررمن جانبه، أن يخبر أخوها بوجودها بمنزله، مؤكداً أنه سيحلفه اليمين أمام مجموعة من الرجال لكي يعامل أخته معامله حسنة.
في تلك الليلة، قررت “بدوية”، أن تحمل صرة ملابسها، وترقد هاربه، غير مدركه مقصدها، إلا أن وجدت أمامها القطار المتجة إلى مصر، فصعدت إليه في إحدي ليالي شهر أغسطس من عام 1935م، دون أن تعلم أنها تصعد إلى طريق المجد والنضال.
وطأت قدم “بدوية”، أرض القاهرة، قاصدة شارع عماد الدين، في محاولة للبحث عن مطربة وراقصة سورية تدعى، سعاد محاسن، التي سبق وأن رأتها، وهي ترقص بين الأطفال، بمدينة الإسماعيلية، فتنبأت لها بمستقبل زاهر.
لم تعثر “بدوية”، على سعاد محاسن، بشارع عماد الدين، لتقديمها أحد العروض الفنية بمحافظة الأسكندرية، في ذاك الوقت، ما إضطرها للسفر إلى هناك للبحث عنها، وبالفعل إستطاعت “بدوية”، الوصول إلى سعاد محاسن، التي قامت على الفور بتعينها “كومبرس”، بفرقتها براتب شهري يصل إلى ثلاث جنيهات.
وبعد فترة من التدريب، والمشاركة فى العروض الفنية، سافرت “بدوية”، إلى القاهرة؛ لتلتحق بفرقة بديعة مصابني، التي كانت تضم، عدد من الفنانين، الذين أصبحوا فيما بعد من أشهر نجوم الفن والطرب، في مصر والوطن العربي، من بينهم، المطرب فريد الأطرش، ومحمد فوزي، وعبد المطلب وغيرهم، ومن الراقصات، كانت الفنانة سامية جمال، وحكمت فهمي.
وخلال رحتها في كازينو بديعة، طلبت “بدوية”، من مصمم الرقصات الأسباني الشهير “ديكسون”، أن يصمم لها رقصة خاصة بها، رغبة منها فى التميز والإستقلال، عن سائر زملائها في الوسط، وبالفعل نجحت في تعلم رقصة، “الكاريوكا”، المستوحاه من التراث الشعبي البرازيلي، وإشتهرت “بدوية”، بهذه الرقصة، حتي أن جمهورها كان يدعوها بإسم “كاريوكا”، أما إسم تحية، فهو الإسم الفني الذي لقبتها بيها بديعة مصابني، لتعرف بعد ذلك في الأوساط الفنية بإسم “تحية كاريوكا”.
بدأت تحية كاريوكا، أولى خطواتها في الصعود إلى عالم الشهرة، في مطلع أربعينات القرن الماضي، عندما قدمها المخرج توجو مزراحي، إلى عالم السينما، ليتبناها بعد ذلك الفنان سليمان بيك نجيب، ويتكفل بتعليمها دروس البالية، على يد مدام “سونيا إيفانوفا”، وكان دائماً ما يحثها على الإطلاع وقراءة الشعر والأدب، فضلاً عن إدخالها إلى عالم الطبقة الأروستقراطية؛ لتتعرف على العديد من الشعراء والأدباء والمثقفين، الذين ساعدوا فيما بعد على تشكيل وعيها الثقافي وحسها الوطني.
وبالرغم من تسليط الضوء في ذاك الوقت على شهرتها الواسعة كأحد اشهر الراقصات، والتمثيل، في مصر، إلا أن لحياة كاريوكا، جانب أخر بعيد عن الأضواء، وهو دورها النضالي البارز، الذي يعد علامة في تاريخ المقاومة المصرية.
وكما قال عنها المفكر العربي الكبير، إدورد سعيد، في مقالته الشهيرة، التي كتبها، في مجلة “واجنز نبهتر”، السويدية، “تحية كاريوكا لا تنتمي إلي صنف الفتيات الهامشيات أو الساقطات المصنفات وفق ثقافة يمكن التعرض لها بل تنتمي إلي عالم النساء التقدميات اللاتي يحاذين أو يتجاوزن الأسوار الاجتماعية، لكنها ظلت مرتبطة علي نحو عضوي بمجتمع بلادها لأنها اكتشفت لنفسها دوراً أكثر أهمية كراقصة تشارك في الحفلات العامة، متجاوزة في ذلك دور “العالمة”.
وكان من أبرز المواقف السياسية والنضالية، في حياة كاريوكا، صفعها وجة الأمير حسن عكا، عضو الأسرة المالكة، في بداية مشوارها الفني، عندما حاول مسك يدها بشكل غير لائق، وسبه بأمه بعد محاولته التطاول عليها.
وفي عام 1948م، ساعدت كايروكا الفدائيين، من خلال نقلها للسلاح بنفسها، بواسطة سيارتها الخاصة، وتخزينه فى مزرعة أختها مريم.
كما تسببت في إحراج الملك فاروق، عندما شاهدته في كازينو، “الأوبرج”، وقالت له ساخرة، عقب الإنتهاء من رقصتها، “مكانك مش هنا يا جلالة الملك، مكانك في القصر”، ما جعله يسرع في الإنصراف.
ولم تتوقف كاريوكا عند هذا الحد، بل كانت السبب وراء إنقاذ حياة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، عقب صدور الحكم عليه بالإعدام؛ لإغتياله أمين عثمان، رجل القصر الخائن، وقامت كاريوكا في ذاك الوقت، بتهريبه، وإخفاءه لمدة عامين، في مزرعة يمتلكا صهرها.
وعندما ذهبت إلى بيروت، رفضت كاريوكا الرقص، أمام الزعيم التركي، ومؤسس الدولة الحديثة، كمال أتاتورك، لإهانته السفير المصري أمامها، ما تسبب في منع دخولها إلى تركيا لتلقي العلاج، فيما بعد.
وإعتقلها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، هي وزوجها الضابط، مصطفى كمال صدقي، الذي كان عضو حرس السرايا الملكية قبل الثورة، بتهمة قلب نظام الحكم، وأمضت في السجن ما يقرب 101 يوماً.
وتم إعتقالها مرة أخرى عندما قالت أن نظام عبد الناصر لم يفرق كثيراً عن أداء الملك فاروق، وكان من أشهر جملها داخل المعتقل، “ذهب فاروق، وجاء الفواريق”.
وكانت كاريوكا، عضو ناشط في حركة “حدتو”، أحد المنظمات الشيوعية المصرية، وأتخذت لنفسها إسماً حركياً جديد، وهو “عباس”.
وقامت كاريوكا بحماية الصحفي اليساري صلاح حافظ، مرتين، الأولى في عهد جمال عبد الناصر، عندما كان طالباً، والثانية في عهد الرئيس السادات، عقب إنضمامه لتنظيم شيوعي سري، وتوجيه إنتقادات لاذعة للسادات عبر مقالاته.
وعلى الرغم من تدهور حالة كاريوكا الصحية، إلا أنها قادت إضراب نقابات المهن التمثيلية في أغسطس من عام 1978م، وإستطاعت أن تضرب عن الطعام لمدة 10 أيام داخل النقابة، إحتجاجاً على إصدار القانون 103 لسنة 1978، الذي يعطى الحق للنقيب بالترشح مدى الحياة، ولم تفض كاريوكا الإضراب، هى وزملائها، إلا بعد أن وعدت الحكومة أنذاك بتعديل القانون، وتأجيل الإنتخابات، التي كان من المقرر عقدها طبقاً لهذا القانون.
مواقف سياسية، ونضالية كثيرة، عجز مقالنا هذا عن سرد تفاصيلها، لكن ستظل حياة كاريوكا رغم رحيلها عن عالمنا، في عام 1999م، محفورة في صفحات تاريخ النضال الوطني من ذهب، وكما قال عنها المفكر الكبير جلال أمين، “حياة كاريوكا.. كانت بتحكي قصة مصر في ثمانين سنة”.
حتى راقصات مصر شريفات ولهن موقف قومي ونضالي…. حد زينا!
اللي زينا يورينا نفسه.